ذات يوم.. 12 يوليو 1924
وفاة مصطفى لطفى المنفلوطى، الكاتب الذى كان من قمم الإنشاء العربى فى زمنه والمترجم عن الفرنسية رغم أنه لم يعرف لغة غير العربية
1
كان الوقت فى منتصف الليل حين انصرف أصدقاء الكاتب الأديب مصطفى لطفى المنفلوطى من سهرتهم معه، وبقى هو يتصفح بعض الكتب فإذا به يحس بالتعب وضيق فى تنفسه، وآلام فى الكلى وضيق فى الرئتين، وأقبل صبح يوم السبت 12 يوليو، مثل هذا اليوم، 1924 فدعا الطبيب لكن احتباس البول كان سمم دمه، وزادت حالته سوءا فى المساء الذى وافق وقفة عيد الأضحى، وانهارت قواه، واستسلم للموت، وصاح بلهجة أهل الصعيد: «آه، آه، يا بوى» ثم فاضت روحه، حسبما يذكر الكاتب طاهر الطناحى فى كتابه «الساعات الأخيرة».
2
تصادف يوم موت « المنفلوطى» مع وقوع حادثة محاولة اغتيال الزعيم سعد زغلول وهو فى طريقه إلى الإسكندرية، فانصرف الناس عن خبر موته، ويذكر صلاح عيسى فى كتابه «هوامش المقريزى»: «لم يأخذ حقه من الحزن، وقلت الدموع التى ذرفت عليه، وهو الذى استنزف بأدبه الحزين دموعا كثيرة من أعين أجيال متتالية من المصريين، وعندما رثاه أمير الشعراء أحمد شوقى تنبه لهذه المأساة، قال فى مطلع قصيدته «اخترت يوم الهول يوم وداع / ونعاك فى عصف الرياح الناعى/ هتف النعاة ضحى فأوصد دونهم / جرح الرئيس منافذ الأسماع / من مات فى فزع القيامة لم يجد/ قدما تشيع أو حفاة ساعى».
3
كان فى الثامنة والأربعين من عمره وقت وفاته، فهو من مواليد عام 1876 فى قرية منفلوط بأسيوط، وجاء إلى القاهرة للدراسة فى الأزهر، ثم هجره لإدمانه قراءة الكتب الأدبية ونظمه للشعر، ويذكر صلاح عيسى: «فى السادسة عشرة من عمره التقى بالإمام محمد عبده وتتلمذ على يديه، وعطف عليه الإمام وقربه منه إلى أن مات فعاد المنفلوطى إلى بلدته منفلوط فأقام بها، وعندما تولى سعد زغلول وزارة المعارف لأول مرة سنة 1906 خلق له وظيفة أطلق عليها «المحرر العربى».
4
يراه عيسى: «كان شيخا معمما ومع ذلك تغزل فى الحب، وكتب عن القبلات، ونثر العاطفة فى كثير من أعماله»، ويضيف: «فى زمنه كان قمة من قمم الإنشاء العربى، تنظر الصحف نظراته الشهيرة فى صدر صفحاتها، وتطبع المطابع كتبه وتعيد طبعها، ويعتبر البعض كتبه جزءا من مكتبة كل أديب ومعجب بالأدب».
5
ويعتقد فتحى رضوان أن الفترة التالية لنهاية الحرب العالمية الأولى فى مصر يمكن أن تسمى «عهد المنفلوطى»، ويذكر فى كتابه «عصر ورجال»: «كان فى حياة الأدب المصرى العربى مرحلة مهمة فى الحدود التى أنتج فيها ثماره، ولم يكن بيت يخلو من كتاب له ضم مقالاته هو «النظرات»، أو من واحدة من الروايات الأربع أو الخمس التى عربها عن الفرنسية فأقبل الشباب عليها إقبالا حماسيا وتخاطفوها، وحفظوا فقرات فيها عن ظهر قلب، وطبعت بأسلوبها أسلوبهم، وتسربت ألفاظها وعباراتها إلى ما يكتبون، وأحبه الشباب والشيوخ معا، قرأه الأوائل فى إعجاب وحرارة، وقرأه الأواخر فى تقدير واحترام».
6
ويذكر رضوان، أن المنفلوطى كان أغرب من ترجم إلى اللغة العربية، فقد كان لا يعرف الفرنسية التى ترجم عنها، ولا يعرف غيرها من اللغات الأجنبية، ولم يحاول أن يعرف، ولكنه كان يتلقى من أصدقائه الذين يجيدون هذه اللغة ترجمة روايات وقصصا فرنسية، فيقرأ هو هذه الترجمة ويحيط بما جاء فيها، ويتذوقها ثم يعيد كتابتها فكأنه ينشئها بقلمه أو يخرجها من قلبه.
7
من أشهر كتبه «النظرات»، «العبرات»، «الفضيلة»، «ماجدولين»، «فى سبيل التاج»، ويؤكد «رضوان»، إن المنفلوطى وضع هذه الكتب بين يدى الشباب فى لغة عربية صحيحة سليمة، وحببهم فى القراءة، ونقل إلى جموعهم صورا مما يفكر به كتاب الغرب، ورسم لهم صورة مجتمع لم يكونوا يعرفون الكثير عنه، وكانت اللغة العربية وقد بدأت الأيام الأولى لتجديد شبابها فى حاجة إلى عدد ضخم من القراء يرتبطون بها ويحبونها، ويعرفون أنها أداة تعبير، وليست مجالا لإظهار الثروة البيانية ولا ميدانا للعب بالألفاظ، ولا مباراة فى الجرى فى دهاليز تلتف حول نفسها.
8
يضيف «رضوان»: «أحب الشباب لغة المنفلوطى السهلة الذاهبة إلى هدفها بلا تردد، فأحبوا لغة بلادهم، وجاشت فى نفس وقلب مئات منهم الرغبة فى أن يكتبوا، فحاول أكثرهم الكتابة مدفوعا بيد المنفلوطي، متأثرا بأدبه، ولم يكن فى وسع أى كاتب من كتاب ذلك العصر غير المنفلوطى أن يحقق هذا الأثر، فلم يكن لأى منهم هذه الموسيقى الهادئة الرائعة، ولم يكن فى مقدورهم جميعا أن يشنفوا أسماع الشباب بهذه الأنغام البيانية التى لا ينفر منها الذوق، ولا تجنى على العقل».
..........................................................
#ذات_يوم
#اليوم_السابع
#سعيد_الشحات
وفاة مصطفى لطفى المنفلوطى، الكاتب الذى كان من قمم الإنشاء العربى فى زمنه والمترجم عن الفرنسية رغم أنه لم يعرف لغة غير العربية
1
كان الوقت فى منتصف الليل حين انصرف أصدقاء الكاتب الأديب مصطفى لطفى المنفلوطى من سهرتهم معه، وبقى هو يتصفح بعض الكتب فإذا به يحس بالتعب وضيق فى تنفسه، وآلام فى الكلى وضيق فى الرئتين، وأقبل صبح يوم السبت 12 يوليو، مثل هذا اليوم، 1924 فدعا الطبيب لكن احتباس البول كان سمم دمه، وزادت حالته سوءا فى المساء الذى وافق وقفة عيد الأضحى، وانهارت قواه، واستسلم للموت، وصاح بلهجة أهل الصعيد: «آه، آه، يا بوى» ثم فاضت روحه، حسبما يذكر الكاتب طاهر الطناحى فى كتابه «الساعات الأخيرة».
2
تصادف يوم موت « المنفلوطى» مع وقوع حادثة محاولة اغتيال الزعيم سعد زغلول وهو فى طريقه إلى الإسكندرية، فانصرف الناس عن خبر موته، ويذكر صلاح عيسى فى كتابه «هوامش المقريزى»: «لم يأخذ حقه من الحزن، وقلت الدموع التى ذرفت عليه، وهو الذى استنزف بأدبه الحزين دموعا كثيرة من أعين أجيال متتالية من المصريين، وعندما رثاه أمير الشعراء أحمد شوقى تنبه لهذه المأساة، قال فى مطلع قصيدته «اخترت يوم الهول يوم وداع / ونعاك فى عصف الرياح الناعى/ هتف النعاة ضحى فأوصد دونهم / جرح الرئيس منافذ الأسماع / من مات فى فزع القيامة لم يجد/ قدما تشيع أو حفاة ساعى».
3
كان فى الثامنة والأربعين من عمره وقت وفاته، فهو من مواليد عام 1876 فى قرية منفلوط بأسيوط، وجاء إلى القاهرة للدراسة فى الأزهر، ثم هجره لإدمانه قراءة الكتب الأدبية ونظمه للشعر، ويذكر صلاح عيسى: «فى السادسة عشرة من عمره التقى بالإمام محمد عبده وتتلمذ على يديه، وعطف عليه الإمام وقربه منه إلى أن مات فعاد المنفلوطى إلى بلدته منفلوط فأقام بها، وعندما تولى سعد زغلول وزارة المعارف لأول مرة سنة 1906 خلق له وظيفة أطلق عليها «المحرر العربى».
4
يراه عيسى: «كان شيخا معمما ومع ذلك تغزل فى الحب، وكتب عن القبلات، ونثر العاطفة فى كثير من أعماله»، ويضيف: «فى زمنه كان قمة من قمم الإنشاء العربى، تنظر الصحف نظراته الشهيرة فى صدر صفحاتها، وتطبع المطابع كتبه وتعيد طبعها، ويعتبر البعض كتبه جزءا من مكتبة كل أديب ومعجب بالأدب».
5
ويعتقد فتحى رضوان أن الفترة التالية لنهاية الحرب العالمية الأولى فى مصر يمكن أن تسمى «عهد المنفلوطى»، ويذكر فى كتابه «عصر ورجال»: «كان فى حياة الأدب المصرى العربى مرحلة مهمة فى الحدود التى أنتج فيها ثماره، ولم يكن بيت يخلو من كتاب له ضم مقالاته هو «النظرات»، أو من واحدة من الروايات الأربع أو الخمس التى عربها عن الفرنسية فأقبل الشباب عليها إقبالا حماسيا وتخاطفوها، وحفظوا فقرات فيها عن ظهر قلب، وطبعت بأسلوبها أسلوبهم، وتسربت ألفاظها وعباراتها إلى ما يكتبون، وأحبه الشباب والشيوخ معا، قرأه الأوائل فى إعجاب وحرارة، وقرأه الأواخر فى تقدير واحترام».
6
ويذكر رضوان، أن المنفلوطى كان أغرب من ترجم إلى اللغة العربية، فقد كان لا يعرف الفرنسية التى ترجم عنها، ولا يعرف غيرها من اللغات الأجنبية، ولم يحاول أن يعرف، ولكنه كان يتلقى من أصدقائه الذين يجيدون هذه اللغة ترجمة روايات وقصصا فرنسية، فيقرأ هو هذه الترجمة ويحيط بما جاء فيها، ويتذوقها ثم يعيد كتابتها فكأنه ينشئها بقلمه أو يخرجها من قلبه.
7
من أشهر كتبه «النظرات»، «العبرات»، «الفضيلة»، «ماجدولين»، «فى سبيل التاج»، ويؤكد «رضوان»، إن المنفلوطى وضع هذه الكتب بين يدى الشباب فى لغة عربية صحيحة سليمة، وحببهم فى القراءة، ونقل إلى جموعهم صورا مما يفكر به كتاب الغرب، ورسم لهم صورة مجتمع لم يكونوا يعرفون الكثير عنه، وكانت اللغة العربية وقد بدأت الأيام الأولى لتجديد شبابها فى حاجة إلى عدد ضخم من القراء يرتبطون بها ويحبونها، ويعرفون أنها أداة تعبير، وليست مجالا لإظهار الثروة البيانية ولا ميدانا للعب بالألفاظ، ولا مباراة فى الجرى فى دهاليز تلتف حول نفسها.
8
يضيف «رضوان»: «أحب الشباب لغة المنفلوطى السهلة الذاهبة إلى هدفها بلا تردد، فأحبوا لغة بلادهم، وجاشت فى نفس وقلب مئات منهم الرغبة فى أن يكتبوا، فحاول أكثرهم الكتابة مدفوعا بيد المنفلوطي، متأثرا بأدبه، ولم يكن فى وسع أى كاتب من كتاب ذلك العصر غير المنفلوطى أن يحقق هذا الأثر، فلم يكن لأى منهم هذه الموسيقى الهادئة الرائعة، ولم يكن فى مقدورهم جميعا أن يشنفوا أسماع الشباب بهذه الأنغام البيانية التى لا ينفر منها الذوق، ولا تجنى على العقل».
..........................................................
#ذات_يوم
#اليوم_السابع
#سعيد_الشحات