محمد سهيل احمد - ماء النار...

" من أي غاب جاء هذا الليل ؟ "
السياب – المومس العمياء



انعطف نحو زقاق من الأزقة المتفرعة من شارع ( بشار ) . تمايلت جدران البيوت التي بدت باتساعها شاشات سينما ؛ بندوب وتشققات شجرية ، بتحفرات آجر موغل في القدم ، بنخلات عجفاء منبثقة من أفاريز السطوح ، حيث لا يعرف ايهما يتوكأ على الآخر . دلف نحو زقاق تتعانق على جانبيه بيوت شناشيل صامتة مهجورة الشرفات . لحظتئذ تلقفته عاصفة ترابية ذات تراقصات لولبية. . فتح عينيه على أوسعيهما كيما يبحث عن مستطيل ولو صغير من زرقة السماء .. استقرت ذرّات التراب في داخل عينيه في حين تطاير بعضها الآخر الى ما فوق شعر رأسه حيث بقايا شعيرات وخطتها فضة السنوات .ارغم على دعك جفنيه فاستحالت الحدقتان الى ثمرتي علّيق داميتين . توغل بالزقاق غير عابئ بالناتئ من أحجاره الطاعن لأخمصي قدميه من تحت لحم حذاء مطاطي رخيص .كان في الركن شحاذ اعصب افترش كيسا من القنب تبعثرت عليه أوراق نقدية أثقلها بأحجار. وراحت امرأة متفحمة البشرة تنكت بعصاها على ظهر قط مقوس الظهر مرددة :
- يا جن ازرق .. يا جن احمر .. اخرج .. اخرج !
اخترق مزبلة قرفصت حيث حافتها امرأة عجوز وهي تبكي غامسة يدها في كومة عدس قاذفة بالحفنات الى كيس متدل ٍ من رقبتها . ثمة صبية تبدو اكبر من سنها قاعدة في مدخل بيت من الطين خفيض الجدران .تأملته في فتور وهي تمد ساقا بجورب اسود اللون ذي تخريمات :
- تدخل ؟ !
شدتها من شعرها امرأة كانت تستند الى إطار الباب :
- ادخلي يا غبية ! انه البعشيقي نفسه !
تأوهت الصبية مرددة قبل ان تتوارى :
- لصقة جونسون.. آه !
توقف أخيرا قبالة باب متآكل . اخرج من جيب سترته زجاجة تحوي سائلا فضي القوام ثم طفق يدق بكعبها ذلك الباب مرات :
- هل من احد ؟ !
أطل وجه امرأة ذابل القسمات يحجب جانبا منه شعر متموج محلول متدل الى ما تحت نحرها . سارعت يدها الى حجبه بمنديل ابيض من قماش ناعم النسيج :
- أنت .. ايضا ؟!
- أنا .. ومن تراه يكون غيري ؟ !
قطع حبل الصمت المعلق فوق رأسيهما . دفع بها جانبا ليدلف الى فناء الحوش ليتوقف أمام وجه منكفئ بدا وكأنه مرتسم على صفحة نهر. أنكر ذلك الوجه للحظات . أخيرا عثر عليه في أعماق تلك المرآة المثبتة على الجدار أعلى مغسلة متهشمة الحافات تكومت في حوضها قمصان وسراويل قبل ان يدرك ان ذلك الوجه كان وجهه هو !
استدار صوب المرأة مدمدما :
- مازلت على مهنتك .. غسل الثياب ..
- أعندك مهنة أخرى اقتات عليها ؟!
- مهنتك القديمة .. أيام زمان ..
- تعلم جيدا انني قد احرقت جسوري كلها .. فلماذا تحفر قلبي بإبرة ؟ !
كانت ترتدي ثوبا نيليا منقوشا بأزاهير بيض ناقعا لحد خاصرتها ، مثلما ابتل كمّا ثوبها ، رغم انها طوتهما اعلى معصمها. اقتعدت من جديد تختة فرم الخضروات ، جاذبة طستا من الجينكو الى فخذيها قاذفة بوجهها الى سطح ماء الغسيل المعتم المترجرج .
- وهل أنت على ما يرام ؟
ارتجت مرآة المغسلة فارتج وجهه بداخلها . حدث ذلك من اثر اصطفاق هائل لباب البيت بفعل تخلخل الهواء المندفع من الخارج عبر فتحات الشبّاك .عاد وجه المرأة لينطفئ ثانية :
- وهكذا عدت للسم الزعاف ..
- لم تتبدلي .. ما زلت تنقّين وتنقّين كضفدعة !
- تبدو مرهقا وغاضبا .. أترغب في ان افتح لك غرفتك ؟
- لماذا ؟
- كي أجدد هواء الغرفة وأبدل مخدتك .. هات الزجاجة التي معك ..
زعق كمن ينفض جمرة :
ـ مستحيل .. ابعدي يدك عنها !
جذب ذراعها اليه ، بيد انه ، بدلا من ذلك انشدّ الى جسدها قليلا نظرا لفقدانه التوازن ولأنه كان بسط ذراعه دونما تصميم مسبق فجاءت حركته خائرة القوى . استعاد جانبا من طاقته المستنفدة حتى تمكن من سحب جسدها اليه محكما قبضة مضطربة عليه :
- أتعلمين ما انا فاعل الساعة ؟ !
- اتوسل اليك .. لقد كففت عن .. أنت تعلم هذا الأمر جيدا .. اعني انني لم اعد ..
كافحت عبثا كي تبعد أصابعه عن عنقها . ابصرت في المرآة وجهين متقلصي الملامح :
- لماذا .. لماذا .. دعني ..
لوّح بالزجاجة في وجهها :
- ما عندك أدنى فكرة عما تحويه هذه الزجاجة ..
- أهو العرق ؟
- ايتها الخائبة .. هو التيزاب ..
- الـ..
- ماء النار .. ليتك تعلمين ما يفعله في الجسد .. انه يصهره صهرا ..
غطت وجهها براحتي يديها :
- أسعف التائبات يا رب الائمة والأولياء !
استدارت نحوه بشفتين مرتعشتين :
- كنت تشرب حتى الثمالة .. لكن كان لديك قلب حمامة .. أما الآن .. !
- كنتُ وكنتْ ..
- ولكن لماذا .. أي ذنب جنيت بحقك ؟ !
بغتة قام واقفا مطوّحا بالزجاجة في حضنها . حلحل بنطاله الجينز المرتق قاذفا به جانبا . انزل سرواله الداخلي فبان عضوه المنكمش بفعل البرودة على فخذين أعجفين احتشد باطنهما بتجعدات ونتوءات من الواضح انه ناجم عن اكتواء عتيق بنار . استطرد متحدثا :
- إنها انت.. كلا بل هي .. الخلاصة انتن واحدة .. كل واحدة منكن ضلع اعوج . اين ذهبت تلك الحقيرة التي كان اسمها . لا اذكر .. ؟!
- كان ذلك في سنيّ الطواعين .. هي لم تعد تسكن هنا ..
- يبدو انك تصرين على عدم اخباري . أتكون قد أوصتك بأن لاتدليني عليها ؟
- لا اعلم ..
- بل تعلمين .. وتنكرين. كانت هي صاحبتك وكنتما تعرضان لحم جسديكما بثلاثة دراهم لكل ضجعة .. هل تذكرين سلاطة لسانها وكركراتها ؟ كان وقع سخريتها على قلبي يشبه ما تحدثه كيّات نار تنطبع على جلد طفل رضيع .. كانت تصمني بأقذع النعوت كلما قادتني قدماي الى حتفي .. كانت تشير الى فخذيَ المحترقين هذين .. انظري .. ثم تستغرق بالضحك ففي يوم كنت في نظرها لقلقا وفي يوم آخر كنت منجل فلاح .. كنت صغير السن وقتذاك .. دون العشرين بالتأكيد . كنت أعامل الواحدة منكنّ على إنها معشوقتي الوحيدة وعلى انني معشوقها الأول والاخير . كان هزال ساقيَ ملفتا للنظر وكنت اذا ما دخلت معها احرص على اطفاء نور الغرفة كي أوقف سيل قهقهاتها فتهرع عامدة لإشعاله وإيقادي بغيظ سخريتها حتى انطفئ منكفئا على رماح وأية رماح ؟
- هراء في هراء ..لا افهم كلمة مما تهذر به . .
اطلع من جيبه كومة من قصاصات ورق منتزعا منها قصاصة :
- سأقرأ ما دونه قلمي المغموس بدم القلب حينما كنت في الجيش :
قصاصة (4 ) :
السبـب
الوحيـد
من وراء
ت- آ- ك- ك- ل
مبغى
المدينة
و.. ت- ح-ط-ي- م
قلوب الفتيان
هو
سـخريـة العـاهـرات !
- لا افهم شيئا مما تهذر به أو ما تكتبه .. مجنون .. مجنون انت .. ولكن من هي التي تدعي انها صاحبتي ؟
- الحرب طمست ذاكرتي .. هيام .. فتنة ..لا اذكر .. إنكن تبدلن الأقنعة بأسرع من لمح البصر .. الأسماء الفنية ضرورية طبعا .. شأنها شأن الأسماء الحركية . دواعي الشهرة ..ذات يوم بارد من ايام الشتاء وبينما كنت اتّـقد كجمرة لقيت صاحبا لي فاستدنت منه بضعة دنانير وقدمت اليكن .. لكن صاحبتك تلك استقبلتني بالقهقهات .. ومن ثم صارت تردد : ما هذا ؟ أعدت من جديد؟ ايها الآكل بالدين .. ايها المنقرض يا فرخ النفاس . حينها شعرت بأني لا استطيع ان أواصل مضاجعتها . اكتفت برفع سروالها الداخلي وهي تتضاحك . اما أنتِ فكنت تشاركينها الضحك . .
- يا وليّ التعيسات !.. هل انت متأكد من أنّ الثانية التي كانت تسخر منك هي انا ؟ وهل سخرت يوما من زبون ؟ أنتَ تجعلني استعيد أسوأ ايامي بعد ان من ّ الله علي ّ بالتوبة ..
- التوبة ؟ هيهات ! .. هل للماء أن يمسي لبنا رائبا ؟ !
- ليغفر الله لكَ سيئات ظنونك !
- وكيف بحق الحق ذلك ؟
- ذات ليلة حلمت بأنني في حضرة الله .. لم ارَ الله .. من يرى الله ؟ ! سمعت هاتفا يردد من تاب منكم وثاب اليّ غفرت له .. استيقظت فزعة على دمع حارق ينساب على الخدين . ألا خبرني أيها الرجل الدائخ الضال .. أي الميزانين اعدل ؟ !
داهمته نوبة تثاؤب :
- اسألي واحدا غيري .. .. لعلها رؤيا حقا .. لا اعرف .. ليتني كنت واعظا فأعظ نفسي .. !

......................
......................
فتح عينين مثقلتين مجرجرا هيكله الواني متكئا على حافة سرير ذي صرير . هرش لحيته مشيرا لحزمة من النور انسكبت الى الداخل عبر قضبان النافذة . ندّت عنها آهة متكسرة مكتومة :
- ما بكَ ؟
- صداع رهيب ضرب رأسي .. تأخر مقدم الليل مع ان الوقت ..
- أي ليل يا انت .. لقد مرّ واجتازنا .. انه الصباح ..
أجفل قافزا من على السرير :
- بالغفلتي ! لم لم توقظيني عند الفجر !
- وما الذي كنت تقوم به وقت الفجر ؟ انا صليت ركعتين .. رحت بعدها للسوق وعدت بثلاثة أرغفة خبز وباقلاء . تناول فطورك وحين تنال نصيبك من الراحة حدثني عن دواعي غضبك ومجيئك اليّ أنا التي لم تعد تملك موهبة او مالا .. ألا ترى الى جسمي وقد اصبح أعجف وشعر رأسي وقد اشتعل شيبا ؟ ! أمّا تفطرات قدمي فتنام فيها العقارب . ها انت قد عدت بعد ان شبعت غيابا وأنت تعلم كل العلم ان صاحبة البيت قبل ان تموت طلبت مني ان استوفي منك مبلغ الايجار حتى اعطيه لورثتها ..
- إذن فقد رحلت ام علوان ..
- وهل اكذب عليك ؟
- ليتك تكذبين .. إلا في ما سألتك عنه ..سأسعى لاقتراض مبلغ من المال من اجل ان لا يضايقونك .. إنهم جوعى الى رائحة المال جوع الكواسج الى دم الجريح ..حتى انا لم يعد لي بيت ولا مأوى . ثم خطرت انت على بالي فعزمت على المجيء . .
- الفقراء لا يزورهم احد .. لا شاي ولا كعك .. لم تأتِ حقا لزيارتي .. دفعت بك رياح جنونك الى بختي العاثر .. ما زال صندوق حاجياتك محفوظا مصانا في عهدتي . مثلما هي كتبك .. ولكنك تحدثت بالأمس بكلام غريب ما الفته منك من قبل .. هل أنتَ جاد في البحث عمن سخرت منك كما تقول وهشمت حياتك ..؟ وأين كنت طيلة هذه الشهور .. هل لديك عمل تعتاش منه ؟
- لقد مارست لثماني سنين عملا وحيدا ..
- ما هو ؟
- الحرب . توزع جسدي شظايا في كل جبهة وميدان ..
- ولكنك حي يرزق ..
- ايتها البلهاء ! لو أنّ رصاصة واحدة من بين رصاصات الحرب وجدت سبيلها الى جسدي لتوقفت آلامي . لقد كنت احمل كفني على كتفي في كل لحظة وكنت أواصل العيش على امل ما .. ليس أملا واحدا بالضبط : أن اغدو غنيا ، ان تعشقني امرأة جميلة .. ان تعشقني امرأة . أية امرأة ، أن اعمل على مركب ( ملكة الملوك ) لتحط قدماي في ألف ميناء وميناء .. في بانكوك يخدرن جسد الرجل بالمساج ودهن العود والخزامى .. في استانبول يضمخنه بعطر الليمون .. أما هنا فيشيّعنه باللعنات والسخرية .. كنت لا انفك احلم واحلم .. كنت يائسا وأريد الموت .. حلمت بمتع عابرة الا أنني كنت أضيعها متعة تلو متعة كما يفقد جندي محاصر اطلاقاته تباعا ..
- ترنحتَ كثيرا البارحة ... لااظنك كنت تبصر من هو أمامك . لولا عناية الله لشوهت وجهي بالتيزاب .. اين ذهبت بالقنينة ؟
- إنها في مكان ما .. في البيت ..
- لكن هل كان فيها تيزاب حقا أم عرق مسكر ؟
راح ينظر ساهما اليها :
- الحقيقة انني كنت احمل زجاجتين. لا اعرف بالضبط أياّ من الاثنتين قمت بتهشيمهما على جدران احد بيوت الحارة .. ترن في عميق الليل قهقهاتها .. انت تذكرينها .. مؤكد تذكرينها . كانت قصيرة القامة .. بيضوية الوجه . من العلامات الفارقة وجود شامة على خدها الأيسر بحجم حبة بندق .ألا يليق ماء النار بذلك الوجه الحقير ؟ !
- طيش في طيش .. أضغاث احلام .. لا أحسبك جادا حقا بمسعاك هذا.. لعلها فورة كأس .. أنت تقلِّب أوراقا قديمة .. تتلف كبدك بتيزاب الخمرة بينما انت ما زلت في أربعينيات سنك كما اظن .. ماذا اقول انا عن نفسي ؟! انا التي بارت تجارتها وهي خاسرة أصلا .. لكنني عهدتك دوما بهذا الشكل .. تجيد محض النصح لمن هب ودب وتنكرها على نفسك .. انت تجري وراء سراب .. !
استل من جيبه ورقة ألقى بها الى صينية تحمل شكل قلب .. جلب قطعة ملابس .سكب ما في الزجاجة عليها .. انتظر دقائق قبل ان يرفع الخرقة من القلب ويعرضها امام عيني المرأة التي أعرضت بوجهها عن المنظر :
- لعلك تصدقينني الان. لكم ابغض نفسي وازدريها .. ان سخطي حالة لا تعرف الوسط فأما ان ينتابني سكون الموتى او ان تباغتني براكين تتفجر في ثنايا روحي وتنصهر جارفة معها كل شيء .. ذلك رديء .. بل انه خاسر لا محالة ..
عقبت المرأة في هدوء :
- انها تجارة بائرة !

قصاصة رقم ( 2 ) :
.... للجسد حقائق عتيقة وقاسية الى حد الانكار لكن الى حين/ لابد لكل قمقم من ان يتكسر وكل صرخة الم من ان تتفجر/ أي ليل أي نهارأي غضب وأية قهقهات/ انها ليست حكاية بيوت بقدر ما هي حكاية أجساد بل هي حكاية سخريات لا أكثر ولا اقل/ الجنون استثنائي /كل شي استثنائي : الفقر معول والحرمان صحراء / في هذه الأيام كأنها لم تفتح لي بابا / كأنها تتأبى كأنها لم تتفتح تويجا / ولم تتقلب جمرة ما تلبث ان تتوهج ثم تنطفئ / الجسد يلامس الجسد يرى يشم/ من يتشمم اللحم البائت سوى طوابير الجياع والذئاب والخراتيت/ الجنون أفضل الطرق لإضاعة البهجات او استعادتها /هذه الكأس هذه الزجاجة / اطلب الكأس ولو في آسيا بار .. اطلب اللحم ولو في شارع (بشار) ....!
قصاصة ( بدون رقم ) :
.. من منكم بلا خطيئة . الرب خلق ابن آدم من أربعة عناصر : ماء تراب نار وهواء , أنا ثلج ونار.. ما زال جسدي يرسف بأغلال الخطيئة .. إنْ تهنِ الروح يهن الجسد .. ان تحلق يسمو اذ يعرض عن كل لحم بائـت او شهوة محنطة ..لماذا لا نترك الأمور على سجيتها فيتحرر الجسد من اسار الروح بأن تزال عنه تابوهات ال.. ؟ كلا .. الجسد تنين .. ولابد لكل تنين من ان يطوق بأسلاك وشراك ومعرقلات .. وجد الجسد قبل ان ترتب له قيود وقوانين .. الرغبة فطرة .. التلامس فطرة .. إمتاع العين بالجمال فطرة .. هراء .. ليس للعبد ان يصنع قانونا .. تكفل الرب بذلك . . ليس الجسد بغاية الغايات بل الروح .. الجسد قنطرة نعبر عليها الى حقيقة اسمها الآخرة .. الأجساد تفنى .. القناطر تتداعى واحدة تلو الأخرى .. يمارس الجسد لعبة الحواس .. ينظر.. يسمع .. يتشمم.. يتذوق .. يلامس .. هو قنطرة تشاد قبل ان يدب اليها النخر.. أنت تهذر .. أحصِ كؤوسك .. تتهاوى القناطر لتحل محلها قناطر أخرى .. زمبرك هو الجسد بداخله آلة هدفها صناعة أشكال لا متناهية من الحياة .. نحن المخدوعين تضللنا حواسنا .. تمنحنا المرأة قلبها وجسدها .. نهرع اليها بحثا عن الخلاص من رعب الموت .. كلا .. بل من رعب الحياة .. نستشعر جنون اللذائذ والمسرات ..وما ان نفتح اعيننا مستيقظين من ذلك الحلم اللذيذ حتى نكتشف اننا على وشك اغماضها الى ابد الآبدين !
غادر بار( سومر ) منعطفا الى الساحة الصغيرة التي يتوسطها ( أسد بابل ) ونخلات النارجيل العجفاء ومن ثم سار بتؤدة تاركا التمثال خلفه متوغلا في شارع الوطن :
".. شارع الوطن .. شارع الإثم .. شارع الانتشاء .. شارع النسيان .. تعددت التسميات والزقاق واحد ! " . جعل يتنقل من رصيف الى آخر بحثا عن مساحات فئ توفرها شمسيات محلات الملابس واستديوهات التصوير والمطاعم والبارات . وها هي قدماك قد بليتا دون ان تفلح في العثور عليهما .. هل تعرفون واحدة اسمها فاتن ؟ لا نعرفها .. لكن لماذا تسأل ؟ ! لاشئ .. كلا .. لا أريد بها شرا ..! "
الجميع ينكر معرفته بها .. لكن صاحب المقهى المقابلة لملهى الغزالة .. انتحى به جانبا وطلب منه ان يوقف عملية البحث :
ـ ليس من صالحك ان تفعل .. هي موجودة في مكان ما .. في شقة من شقق الشارع .. لا تلزمني بأن أدلك عليه .. لأن التي تبحث عنها هي الآن خليلة كبير ضباط المخابرات في المنطقة .. هذا الشارع امتلأ بالمقاولين ، واثرياء الحروب ومهربي الرقيق .. فلماذا تغامر بالسباحة في نهر زاخر بكواسج القرش ؟ ! القِ بأوهامك الى ماء النهر .. وعد من حيث اتيت .. !
انصت لمشورة صاحب المقهى الى دخيلته لبضعة أيام .. ثم عاد ليستأنف مهمة البحث مدفوعا بقوة لم يعد في ميسوره ايقافها ، لكنه اجرى تغييرا بسيطا في عملية البحث : توقف عن اصطحاب زجاجة ماء النار .. أخفاها في مكان قريب .. تحت سلم احدى العمارات ..
دلف لبار آخر .. اقتعد طاولة . استل من دفتره ورقة وطفق يكتب ويخربش :
ورقة بدون ترقيم ولا تاريخ /
" تيزاب .. ماء النار .. الزمن تيزاب .. يأكل الوجوه والأحلام .. الرغبة في الجسد تيزاب .. الرغبات تلتهم الأجساد والأرواح ..العزلة تيزاب .. انها تلتهم دفء أركاننا التي اليها نلوذ .. "
دس يده في جيبه . اخرج قصاصة ورق . دفع الحساب وغادر البار . اقترب من احد الحلاقين . ناوله القصاصة . حملق فيه الحلاق العجوز في ارتياب :
ـ اعرف واحدة بهذا الاسم .. كثيرا ما كانت تمر من امامي ..
أشار الى عمارة حديثة الطراز :
ـ انها تسكن الطابق الثاني .. لكنني لم اعد أراها منذ شهرين او يزيد .. قد تكون انتقلت الى عنوان ثان .. من يسأل لا ريب ملاق ضالته ..
لم يقل شيئا للحلاق . اسرع الى مخبأ الزجاجة السري . تناول الزجاجة . واصل سيره حيث تلك العمارة الجديدة . توقف امام صف من الشرفات المصطفة شاقوليا على واجهة العمارة . غرز عينيه في شرفة الطابق الثاني . كانت ثمة امرأة في الشرفة ، غادرت كرسيها مطلة على الشارع حيث مخلوق مترنح يمسك زجاجة فيها سائل يحمل لون الماء ومهمة النار . هتف :
ـ هيه .. انتِ هناك !
ألقتْ بجسدها على افريز الشرفة . كانت ترتدي منامة حمراء . انضغط نهداها المكشوفان على الإفريز . لوحت بيدها لشخص كان في الداخل :
في تلك اللحظة وفيما راحت عيناه تمسحان شرفات العمارات المحيطة به بشكل دائري ، التمعت على حين غرة بنادق ـ من كل الإتجاهات ـ سددت فوهاتها نحو الأسفل حيث يقف .. ومن ثم انهمر الرصاص !

محمد سهيل احمد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى