الحنين حالة نفسيّة تتوق فيها النّفس لأمر ما، قد يكون ماضياً، وقد يكون مُتخيَّلا، وليس شرطاً أن يتطابق مع الواقع، وقد يكون حنيناً لرؤية شخص، أو مكان، وقد يحنّ أصحاب الخيالات النشيطة لأمر لم يكن، وقد يُضفي جَمالاً خاصّا على الشيء الذي تحنّ إليه، والنفس من مناطق الروح، وما نحنّ إليه، في الغالب، حالة ماديّة، فنحن أبناء عالم ماديّ يُحيط بنا من جميع الجهات، فإذا كان الحنين لشخص حيّ ربّما وجد بعض كمالاته التي يتوق إليها، أمّا إذا كان مكاناً فالأمر مُختلف، ونحنّ أحياناً إلى ما لا نعرف،
حدّثني شاعر معروف أنّه في بدايات شبابه داهمه الحنين إلى مكان ما عرفه في طفولته وفي يفاعه، وكان قد غادر ذلك المكان منذ أمد، فلم يستطع المقاومة فسافر إلى ذلك المكان وحين وصله وجده أجرد، وللصمت في جوانبه حضور لا يخلو من وحشة، فعاد شبه خائب،
وحدّثني آخر بأنّه كان يعلّم في قرية مجاورة لنهر الفرات، ولم يمض على مغادرته لتلك القرية إلاّ شهر، فشعر بحنين جارف، فسافر ممسافة ثلاثمئة كيلو متر، وكان قبل يتمنّى لو يستطيع دفْع الأيام للوصول إلى نهاية العام الدراسي ليتخلّص من الرتابة، ومن قحولة الأرض، ومعظم الناس، وحين وصل شعر بأنّ حنينه كان خادعاً، لعلّ النفس تزيِّن بعض الذكريات لتخليصها من جفافها فتخلع عليها بعض ما يندّيها لتُقيم توازناً ترتاح إليه،
وبعض الحنين قد يكون خائبا، وبين الحنين والذاكرة، في بعض المقاطع تواشج عجيب، حدّثني مَن أثق بكلامه أنّه كان في سفرة إلى مدينة، وفيها مَن عاش معه أيام اليفاع، وبداية الصبا، وثمّة قرابة بعيدة بينهما، وكان فرحاً لأنّه سيلتقيه، وحين التقاه استقبله الآخر ببرود، فصُدم، واحتار كيف يتصرّف، وفكّ ذلك الحرَج صديقه في تلك المدينة، حين سأله :" ببتْريد شي؟!! فأجابه سلامتك، وانصرف صديقه مخلِّفا غمّاً عميقا،
وثمّة حنين غامض لأماكن نزورها لأوّل مرّة نشعر فيها بحالة من النّداوة النفسيّة، والارتياح العميق حتى كأنّنا كنّا عرفناها من قبْل، فهو أُنس لطيف شفّاف، ونتمنّى لو نُقيم فيها،
مُدهشة هذه الأغوار النفسيّة التي توقّف عندها طويلا يونغ، فلم يجد لها تفسيرا إلاّ أنّ في الانسان ذاكرة كونيّة لكل ما مرّ على هذا الكوكب، في مراحلها كلّها،
يبدو لي أنّ الحنين لا يتعلّق بالماضي وحده، بل هو نشدان أن يكون الانسان، بمجتمعه، أفضل مماّ هو عليه، فيسعى لتحقيق ذلك،
أمّا الذاكرة فتقول علوم التشريح إنّها متركّزة في القشرة البنيّة من الدماغ،
أذكر أنّ صديقا انتسب للجامعة لدراسة اللغة الانكليزيّة، وقد زرتُه في سنته الأولى فسألتُه عن أحواله ودراسته، فقال ما معناه إنّ المفردة الانكليزيّة تعلَق بالذاكرة لبعض الوقت ثمّ تَسقط، فتُسقط معها ثلاث كلمات عربيّة،
هذه الذاكرة مُتعبِة، بل مُرهِقة أحياناً، فلسنا نحن وحدنا مَن يتحكّم بها، فنستدعي حوادث لطيفة مؤنِسة، بل هي تعمل بطريقة غامضة، وبأسلوب لا يمكن تتبّعه، فكم من ذكرى مؤذية يتمنّى المرء لو يستطيع محْوَها وإعدامها تُفاجئ الانسان فيحرّك رأسه كمن ينفض عن نفسه غبارا، أو وحْلاً علق به، حتى هذه يبدو أنّ لها وظيفة ما، فهي تذكّر حتى النّادمين على ما فعلوه بما فعلوه،
هل يستطيع الانسان الهروب من ذاكرته؟ هذا مستحيل،
هل يستطيع التحكّم فيها؟!! وهذا يبدو غير ممكن،
إذن كيف نتعايش مع هذه الذاكرة؟!
يبدو أنّ خيارنا الوحيد فيها أن نتعايش معها، وأن نقف متأمّلين عند كلّ حدث ونتساءل، هل أنا الآن أفضل ممّا كنتُ عليه؟...
حدّثني شاعر معروف أنّه في بدايات شبابه داهمه الحنين إلى مكان ما عرفه في طفولته وفي يفاعه، وكان قد غادر ذلك المكان منذ أمد، فلم يستطع المقاومة فسافر إلى ذلك المكان وحين وصله وجده أجرد، وللصمت في جوانبه حضور لا يخلو من وحشة، فعاد شبه خائب،
وحدّثني آخر بأنّه كان يعلّم في قرية مجاورة لنهر الفرات، ولم يمض على مغادرته لتلك القرية إلاّ شهر، فشعر بحنين جارف، فسافر ممسافة ثلاثمئة كيلو متر، وكان قبل يتمنّى لو يستطيع دفْع الأيام للوصول إلى نهاية العام الدراسي ليتخلّص من الرتابة، ومن قحولة الأرض، ومعظم الناس، وحين وصل شعر بأنّ حنينه كان خادعاً، لعلّ النفس تزيِّن بعض الذكريات لتخليصها من جفافها فتخلع عليها بعض ما يندّيها لتُقيم توازناً ترتاح إليه،
وبعض الحنين قد يكون خائبا، وبين الحنين والذاكرة، في بعض المقاطع تواشج عجيب، حدّثني مَن أثق بكلامه أنّه كان في سفرة إلى مدينة، وفيها مَن عاش معه أيام اليفاع، وبداية الصبا، وثمّة قرابة بعيدة بينهما، وكان فرحاً لأنّه سيلتقيه، وحين التقاه استقبله الآخر ببرود، فصُدم، واحتار كيف يتصرّف، وفكّ ذلك الحرَج صديقه في تلك المدينة، حين سأله :" ببتْريد شي؟!! فأجابه سلامتك، وانصرف صديقه مخلِّفا غمّاً عميقا،
وثمّة حنين غامض لأماكن نزورها لأوّل مرّة نشعر فيها بحالة من النّداوة النفسيّة، والارتياح العميق حتى كأنّنا كنّا عرفناها من قبْل، فهو أُنس لطيف شفّاف، ونتمنّى لو نُقيم فيها،
مُدهشة هذه الأغوار النفسيّة التي توقّف عندها طويلا يونغ، فلم يجد لها تفسيرا إلاّ أنّ في الانسان ذاكرة كونيّة لكل ما مرّ على هذا الكوكب، في مراحلها كلّها،
يبدو لي أنّ الحنين لا يتعلّق بالماضي وحده، بل هو نشدان أن يكون الانسان، بمجتمعه، أفضل مماّ هو عليه، فيسعى لتحقيق ذلك،
أمّا الذاكرة فتقول علوم التشريح إنّها متركّزة في القشرة البنيّة من الدماغ،
أذكر أنّ صديقا انتسب للجامعة لدراسة اللغة الانكليزيّة، وقد زرتُه في سنته الأولى فسألتُه عن أحواله ودراسته، فقال ما معناه إنّ المفردة الانكليزيّة تعلَق بالذاكرة لبعض الوقت ثمّ تَسقط، فتُسقط معها ثلاث كلمات عربيّة،
هذه الذاكرة مُتعبِة، بل مُرهِقة أحياناً، فلسنا نحن وحدنا مَن يتحكّم بها، فنستدعي حوادث لطيفة مؤنِسة، بل هي تعمل بطريقة غامضة، وبأسلوب لا يمكن تتبّعه، فكم من ذكرى مؤذية يتمنّى المرء لو يستطيع محْوَها وإعدامها تُفاجئ الانسان فيحرّك رأسه كمن ينفض عن نفسه غبارا، أو وحْلاً علق به، حتى هذه يبدو أنّ لها وظيفة ما، فهي تذكّر حتى النّادمين على ما فعلوه بما فعلوه،
هل يستطيع الانسان الهروب من ذاكرته؟ هذا مستحيل،
هل يستطيع التحكّم فيها؟!! وهذا يبدو غير ممكن،
إذن كيف نتعايش مع هذه الذاكرة؟!
يبدو أنّ خيارنا الوحيد فيها أن نتعايش معها، وأن نقف متأمّلين عند كلّ حدث ونتساءل، هل أنا الآن أفضل ممّا كنتُ عليه؟...