نسيمة بن عبدالله - شمس أيلول...

عندما التقت عيناه بعينيها الزرقاوين كعيون المها.. تسابق الريح.. تنطلق في هذه الصحراء الممتدة. شعر بالرمال تتحرك من تحته، وأن الصهد يطلع من قدميه الى رأْسه، وأن هذه الصحراء الفسيحة منذ أن رآها بدأت تضيق حوله لتختصر المسافات في الاقتراب منها واستنشاق عطرها هذا الذي يجيئه لذيذا كريح الصبا يرحل به بعيدا عن الزمان والمكان ليظللها بظله.. يضمها بين أحضانه.. يمنحها دفء روحه، حرارة جسده، يسمعها نبض قلبه، يسمع نبض قلبها، يمتطي معها جواده الذي ما امتطته امرأة ، وما اقترب منه أحد غيره وصديقه الذي كان كظله.
وجهه الأسمر البهي .. لون الرمل يلمع من عينيه الصافيتين وقلبه النقي كبياض الثلج وهو يغطي الجبال والسفوح فتصير رقعة حالمة بعرس أبدي ثم يذوب من أجلها.. يسقيها الماء الزلال فتحضنه بلهفة الأحبة عند اللقاء.
كنا نجلس أنا وهو إلى تلك النخلة العصماء كما كان يسميها. . نحلم مثل الأرض بالشتاء.. نحلم بالمطر.. نحلم بالثلج تداعبه أكفنا الصغيرة ، وعندما يرجفها البرد ؛ ندثرها بقفازات صوف ناعمة من صنع أمي .
كنا نبني القصور ونسكنها حوريات جميلة .. فساتينها بيضاء . وعندما تشرق الشمس، وتعلن الرحيل نحزن لفراقها وننتظر الشتاء القادم لنلقاها.
صديقي الطفل البريء معا حفظنا آيات الله ..معا ختمنا سورة يس، ولأن أمه غادرت مبكرا وتركته لزوجة أبيه التي لم تكن تعتني إلا بنفسها .
فرحت أمي بنا، زغردت لنا وأعدت للشيخ طبق الكسكس والملفوف الشهي .
كم كان شيخنا مبتهجا وهو يزدرد الطعام واللعاب يسيل من طرفي فمه فيروي لحيته التي لا تفارقها الحناء!.. كنا ننظر إليه وعيوننا تضحك، وعندما يرفع رأسه نحونا نزم فمنا ونغيِب الضحكة. شيخنا كان طيبا رغم شدته .
صديقي كبرنا معا والنخلة العصماء كبرت معنا، واستطالت كما استطالت قامتنا.. العصماء ظلت صديقتنا .. نحتمي بها من لهب الصحراء.. نحكي لها قصصنا فنشعر بها تضمنا بحنو..نهز بجذعها فتساقط حبات التمر الشهية نأكلها حينا، وحينا نهديها لمن نحبهم .
صديقي كان يحب الشعر وينظمه خفية عني ثم يأتيني ليقرأه على مسمعي وهو يقول لي:
- هذا البيت لك وهذا للعصماء ثم يتوارى خلفها ويشرع في ترتيل القرآن وقراءة ما حفظ من أشعار عنترة وأبا فراس الحمداني. عندما أسأله لماذا هذان الشاعران ؟ يرد :
- لأنهما فارسان ولأنهما عاشقان، والعشق رحلة أخرى في ملكوت الروح حيث يصير القلب للقلب قلبا.. تتهادى ذواتنا.. تستكين مرة .. تلتهب مرة وعند الغياب يشتعل الشوق في الصدر وفي اللقاء تقول عيوننا ما لم تقله الكلمات .
وأسأله: هل أنت عاشق وأنا لا أعرف؟!
فتحمر وجنتاه ويداري وجهه عني في صمت فأغير الحديث أو أ صمت مثله ، ويستغرق هو في القاء شعره بصوته الشجي .
كان صوته عذبا كرقرقة الماء المنساب من الشلال وكصوت العصافير وهي تغني أغاني الصباح .
كان يحب ابن رشد والحلاج ، ويظل يردد على مسمعي :
- التاريخ يعيد نفسه .. هذا الظلام القادم .. إنه يبسط رداءه في غفلة منا أو بتواطؤ منا .. إني أخاف أن نستفيق ذات صباح فلا نجد سوى ظلام الليل .. نفتش عن نور الشمس فلا نجده.. نفتش عن بعضنا فلا نجد سوى الرفاة.
كان يستقرئ الآتي بنظرته الثاقبة ، بعقله الراجح مذ كان طفلا.
أحاول أن أسكته فيرضخ لإلحاحي مهموما ونجلس سويا تحت العصماء نلعب على الرمل السبق ولخريبقة، وعندما يسأم يرمي الحجارة من يده ويسرح بخياله بعيدا عني .. بعيدا عن المكان .. بعيدا عن الزمان.
أنظر إليه صامتا وهو يستدني الكلمات منه.. تتراقص الحروف أمامه فأنسحب بهدوء عائدا إلى البيت تاركا أياه مع ربة الشعر وبوح الكلمات .
في ذلك الصباح الخريفي والناس قد شرعوا في جني التمر والعصماء رطبها الجني يدعونا إليه.. أسرعت الخطى إليها علني أسبقه وانتظر حضوره لنقتسم التمرة الأولى معا .. نرتشف عسلها الشهي معا، ونتعاهد كما كل عام أن هذه الصداقة التي جمعت طفولتنا وشبابنا ستظل حتى آخر العمر نستظل بظلها كما نستظل بظل العصماء .
ليت خطواتي ما سارت بي إلى هناك !
ليت ذلك اليوم ما جاء ! وليت الصبح ما أعلن بزوغه وليت عيني ما أبصرت ما كان !
كان يحتضن العصماء ، والدم ينزف من كل جسمه . . فاضت روحه ولم أسمع آخر كلماته .. لم أسمع آخر شعره . .لم أسمع آخر النبض من صوته .
سبقني ذاك الصباح كما كل مرة وسبقوني إليه..
أخذوا روحه من بين ضلوعه ..
أخذوا الشعر من فمه ..
أخذوا التمرة من العصماء
جردوني من الروح . .
جردوني من النبض ..
خطفوا منا الحلم ..
سرقوا أغنياتنا ..
سرقوا ابتساماتنا..
وما تركوا لنا سوى الهجير ..
وصوت الريح والأنين.
همت في الصحراء وما عدت أنظر في وجه البشر .
القصر الأحمر كان ملاذي وابن رشد والحلاج وعنترة وأبا فراس وعلي وعثمان والحسين صاروا رفاقي .
هجرت العصماء ..ما عادت عيناي تطيق رؤية دمها.. دمه .
ما عدت أقوى على أكل التمر . .
هجرت الدنيا واحتميت بالوهج، وفي الحلم رأيت النبي يهبني تمرا وكوب حليب فسرت على خطى السالكين في الأرض أسيح .
هذه الصحراء ميلاد أبي وأمي
وهذا الرمل
ذاك الصهد
جسدي يكويه اللهب
روحي ترتقي إلى السماء
هناك أراك
هنا أراك
قدماي ما عادت تتعبان من السير
وروحي ما عادت تتعب من الانتظار
العصماء تركتها لكنها ما ظلت وحيدة . .
العصماء صارت رفيقة العشاق وتمرها صار لهم الشفاء، وعيون الناس الناس تلهج بالدعاء ، وأرد :
أنا لست نبيًا ..
ولست من عرش الرحمن نزلت
أنا الحزن سكن صدري
أنا الشوق أضناني
زحمة البشر أخذت روحي من روحي
فما تبقى لي مني ؟؟
أنا الليل ما عاد سكني
والصبح ما عاد لي فيه درب
أنا التائه بين الرمل والحجر
أنا السالك منكم
تعلقت روحي بين السماء والأرض
فاطلبوا الدعاء من رب السماء
أنا لست نبيًا
هذه القصور الحمراء وحدها ما فرطت فيها ..هي واقفة منذ زمن الحجر.
ذاك الآدمي الذي اختار أن يكون هنا ما ارتعب من الفقر. . ما ارتعب من الحر أو القر.. ما ارتعب من الريح العازفة ، وما خاف من الأمطار العاصفة .
هنا بنى عشه.. وفي الماء الساخن أنضج البيض.. وفي الرمل المتأجج طبخ طعامه.
هنا أعبر بالسائحين الممرات الضيقة استدني الماضي مني ومنهم.. أحكي لهم قصة القصور، وأولئك الرجال الذين مروا من هنا.. أولئك الرجال الذين خاضوا الحروب، واحتموا بهذه الحصون.. أحكي لهم عن الدم الذي سال على هذا التراب .. لوَن الرمل . . منح قلوبنا طاقة العشق، وحب هذه الأرض .
هذه القصور واقفة في وجه الريح وأنا أعبر بالسائحين الممرات الضيقة كم غبت عنهم؟!
أخاطب الجدران والأسقف.. أخاطب الرمل الأحمر، وأسيح في هذه الأرض .. أحمل روح صديقي في صدري ومن السماء تأتيني.. تمسك بيدي نعبر الممرات الضيقة معا.. نسافر معا في الصحراء التي نعرفها شبرا شبرا.. نتوسد الحلفاء والعرعر.. أسمع شعره ..
غفوت لحظة .. لحظتين...
جاءني صوته شجيا كما أعرفه :
-عد إلى حياتك
لا تدع الفراشات تهرب منك
عسل التمر أرتشفه
واليد الناعمة توسدها
العصماء تستصرخك
عد إليها
لا تخذل ظلها
لا تخذل عمرنا الذي كان لها
وأنظر حولي فلا أجد سوى ريح الجنوب تعصف بي ، وروحه التي تتوزع في روحي تعبر بي المدى.. أبحث عني ..أبحث عنك تقف أمامي ووجهك الأسمر يبتسم لي والعصماء تظللنا.
وكانت عيناها الزرقاوان .. عينا المها ..لون البحر.. لون السماء .. كانت تحتضن العصماء ، والدمع ينسكب لآليء على وجنتيها .
تحرك الرمل من تحت قدمي .. أردت أن اقترب منها .. أن ارتشف الدمع بشفتيَ، وبيدي أمشط شعرها .. أضمها إلى صدري بشوق الحنين .. أهمس في صدرها .. أعانق جسدها . أعبر إليها...
طلع الصهد من قدمي إلى رأسي.. ارتعش الجسد بعد سكون العمر، أكانت هنا منذ زمن ؟ أكانت له وكنت أنا الذي يحبها ؟!

نسيمة بن عبد الله

* من المجموعة القصصية : ( أحيا) الصادرة عن دار خيال للنشر والترجمة 2021

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى