أنا في حقيقة الأمر لا أعرفك يا نضال إلاّ بعد الاطّلاع على الخبر المفزع و الموجع الّذي نشرته أحد الصّحف التّونسيّة اليوميّة بتاريخ 30 مارس 2018 تحت عنوان لافت للنّظر « ضال الغريبي ينتحر شنقا » . قرأت في تأنّ هذا الخبر المزلزل و أنا مشدود إلى كلّ تفاصيله لا أعير أيّ انتباه لما يدور حولي داخل المقهى الذّي ارتدته في ذلك الصّباح .
كن واثقا أيّها الشّابّ الأبيّ من أنّني ابتأست لفداحة حزنك وتألّمت لجسامة خيبة أملك و انسداد الآفاق أمام وجهك العابس الأمر الّذي أدّى بنفسيّتك إلى التأزّم و الإصرار على الانتحار شنقا بحبل اقتنيتنه مع بضعة سجائر بدراهيم معدودة مقدارها 1500 ملّيم من أحد متاجر مدينة بوحجلة أحد معاقل البطالة الّتي تعجّ بها مناطق الحقرة و الإهمال في بلادنا .
أنت يا نضال واحد من الشّباب المبدعين الّذين تخرّجوا من الجامعة التّونسيّة ولم يظفروا بشغل يحفظ ماء وجوههم و يخلّصهم من براثن الفقـــر و الحرمان و الخصاصة و يحجب عنهم ظلمات البطالة فهي أشدّ حلكة من ظلمات القبور و أعتى وطأة على النّفس من الضّجر داخل السّجون.
يا نضال أنا أبيت إلاّ أنشر رسالتك المؤثّرة حتّى يطّلع عليهــــــــــا القاســــــي و الدّانـــــــــي غير مبال بدموعي المنهمـــــرة كالسّيــــــل و تكدّري المتواتر على رحيــــــــلك و أسفي الشّديد على انتحارك بواسطة حبل لعين ابتعته بثمن بخس يضاهي وضاعة الحياة و تفاهتها و عبثيّتها عند احتدام الخطوب .
هذه الرّسالة القيّمة هي برهان ساطع على مدى قتامة الإحباط و حدّة الاستسلام و القنوط عندك يا نضال و عند الكثير من الشّباب الّذين عصفت بهم زوابع البطالة طيلة سنوات و سنوات فحطّمــــــــت آمالهم و شيطنت تفكيرهم و وأدت عشقهم للحياة و دفعت بهم في وحشيّة إلى مجهول قاتم و في كثير من الأحيان إلى الذّبول و الفناء كأوراق الخريف .
متّى سيهتمّ أولو الأمر في تونس الخضراء بشباب مناطق الظلّ فيؤمّنون لهم الشغل و الحرية و الكرامة حتّى لا يركنوا إلى الانتحــــار
و الإجــــــــــرام و السرقـة و الإرهاب و الهجرة السريّة على قوارب الموت ؟ .
رسالة نضال الغريبي
« أنا الآن لا شيء، تفصلني خطوة عن ألاّ شيء، أو فلنقل قفزة، غريب أمر الموت ما أبخس ثمنه، دينار ونصف الدينار ثمن الحبل وبعض السّجائر، غريب أمر الحقيقة ما أبخسها ثمنها لكّننا لا نرى، نملأ أبصارنا وبصائرنا دومًا بالأوهام حتى تصير الحقيقة تفاصيل لا نراها .. نحن لا نرى غير ما نريد رؤيته، لا نرى من الأخضر غير يابسه حتّى تختلط علينا الألوان، ومفاهيمها، شأننا شأن أحبّتي الذين رغم تواضعي يظنّون أنّني عيسى، فإذا ما صدّقوا ما ادّعوا، اختلط عليهم الأمر، فراحوا لا يفرقون بين القلب والمعصم، وصارت أوتادهم تنهمل على صدري كسهام الوغى ..
غريب أمرهم، بل غريب أمركم جميعًا اذ تظنُّون بموتي أنّني أنانيّ، لكنّني في الحقيقة أبعد ما يمكن عن الأنانية، دقّقوا في التفاصيل، لو كنت كما تدّعون لكنت التهمت ما استطعت من أدوية أمي المريضة ورحلت، لكنّني أعلم على يقين أنّ عائلتي المسكينة ستنصرف إلى مراسم دفني وقبول التعازي، وسينسون بالتأكيد أن يشتروا لها دواء بدل الذي دفن في معدتي، لكنني لم أفعل، لو كنت بالأنانية التي تدّعون، لكنت رميت بنفسي أمام سيارة على عجل، أو من فوق بناية عالية، لكن، حرصا مني أن لا تتلف أعضائي، التي أوصي بالتبرّع بما صلح منها، لم أفعل ..
سادتي، أحبّتي، عائلتي المضيّقة والموسّعة، أوصيكم بأنفسكم خيرا، وبأولادكم حبّا .. أحبّوهم لأنفسهم، لا تحبّوهم لتواصل أنفسكم فيهم، اختاروا لهم من الأسماء أعظمها وأرقاها، وكونوا شديدي الحرص في ذلك فالمرء سادتي رهين لاسمه، شأني، أمضيت عقودي الثلاثة بين نضال وضلالة وغربة .. علّموا أطفالكم أنّ الحبّ ليس بحرام، وأنّ الفنّ ليس بميوعة، لا تستثمروا من أجلهم، بل استثمروا فيهم، علموهم حب الموسيقى والكتب ..
السّاعة الآن الرابعة بعد الظهر، من السابع والعشرون من مارس ثمانية عشر وألفين، أفارقكم عن سن تناهز أسبوعين وأربعة أشهر واثنان وثلاثون سنة ..
أحبّكم جميعا دون استثناء، وأخص بالذكر هيرا، تلك العشرينية إيناس، تلك البريئة التي شيطنتها الحياة وحبي ..
آسف من الجميع »