كنت أعلم بأن المرأة التي تجلس على المقعد المجاور لي ترمقني بزاوية عينيها، وتهتم بملاحظتي أكثر من اهتمامها بمتابعة أطفالها الذين تفاوتت أعمارهم بين العشرين والعشرة أعوام. أكبرهم ، هذا إذا لم يكن لها آخرون في مكان ما، إبنة أخمن عمرها بأكثر قليلا من عشرين عاما. هذا يعني أن المرأة الآن في الأربعين تقريبا وهي في سني أو أقل بسنة على الأكثر. ولا يمنحها السن المتقدم قليلا ولا الأمومة الحق بهذه النظرة التي تبدو غامضة وشرسة وأحيانا داعرة حين نترجمها إلى ثقافتنا، وربما هو ليس الحال ذاته لو كانت إمرأة من أهل مونتريال. لا أعلم إذا ما كانت المرأة غريبة عن المدينة ، أما أنا فلست من المدينة وأسكن في العاصمة على مسافة ساعتين من هنا، فكرت أن أنهض ولكني لم أفعل لأي سبب يجعل رجلا وحيدا في مدينة غريبة ينتظر ما وراء هذه النظرات الغامضة والشرسة أو الداعرة حين أكون وقحا في تفسيري.
المرأة جميلة ويستطيع المرء أن يتنبأ بأنها كانت أكثر جمالا وإشراقا حين كانت في عمر ابنتها التي ترافقها الآن. ولرجل في سني يرى جمالها المكتمل حاليا يفوق ما يراه في الإبنة الناعمة والتي تكاد تكون نسخة من الأم في شبابها.عينان شهلاوان واسعتان تظللهما رموش كثة وبشرة بيضاء صافية، أنف دقيق يطل على شفتين دائريتين ناعمتين رطبتهما الأم بأحمر شفاه خفيف ولم تفعل الإبنة ذلك محافظة على لونهما الوردي الطبيعي. يبدو أن النظرات المستترة بيننا تتطور، فبعدما كنت أنظر إليها حين تصد عني وتفعل الشيء ذاته أصبحت أعيننا أكثر وقاحة ونظراتنا تستمر طويلا لثوان عديدة حتى ينكسر بصر أحدنا. أثار ذلك الإبنة التي كانت عائدة من دعوة الأطفال الذين ابتعدوا عن المشهد ببراءة مناقضة إلى حيث تجلس الأم. همست الإبنة بأذن الأم ما معناه أنني أنظر إليها بوقاحة رجل غريب وطلبت منها أن تنهض ولكن الأم أخرجت ورقة صفراء وكتبت شيئا والإبنة تفتح عينين واسعتين احتجاجا على هكذا تصرف غير مقبول أخلاقيا من أمها. يبدو أن الأم لم تكترث لكل هذا وأرسلت الورقة بيد الإبنة الصغرى بينما وقف شقيقها الأصغر ينظر إليها حتى وقفت إلى جواري ومدت الورقة نحوي وحين وضعت يدي على طرفها أفلتتها وانطلقت تركض.
“إذا كنت أنت “سعد” فاذهب لتجلس في المقهى الذي خلفنا”.
تأملت الورقة جيدا وقرأت اسمي أكثر من مرة والتفت إلى المقهى الذي خلفنا لأراه وعدت أدقق في وجه السيدة التي تقدمت في السن قليلا ووجه الإبنة التي تشبهها في يوم ما. من هي وأين رأيتها من قبل؟ يا الله! كيف عرفتني ولم أعرفها؟ ماذا سأقول لها في المقهى إذا سألتني هل تعرفني؟ ولم تفلح صورتها الحالية ولا صورتها القديمة مرتسمة في نسختها التي مثلتها الإبنة أن تقرع جرسا في ذاكرة ميتة.
بدا الأمر مربكا، في وضع كهذا كنت أتمنى أن نكون غريبين يلتقيان، لا يقتسمان ماضٍ ولا يربطهما سوى ماهو عابر دون أن يترتب على هكذا لقاء أن نعرف ما قبل ومابعد. لم أكن في وضع لأحتمل إحياء ذاكرتي. منذ عشرين عاما وأكثر قليلا وأنا أدرب نفسي على النسيان. كلما التقيت بوجه يعرفني وبالكاد أتذكره فيسألني هل تعرفني؟ وأقول بصدق “لا” بعضهم يرمقني بحنق أفهم منه أنه يتهمني بالانكار والتكبر وووو صفات من هذا النوع المزعج. ولم أكن أغضب ، كنت أشعر بالفرح أنني وبعد مران طويل على النسيان نجحت. استطعت أن أتحكم إراديا بذاكرتي فأقصي من أريد عن قصد منها ولكن العيب الذي صاحب هذا المران أنني أقصيت منها من لا أريد إقصاءه.
وهاهي السيدة إحدى الصور التي ليس بإمكان ذاكرة تتمتع بشيء من الجمال أن تقصيها. ولكن ربما كانت تعرفني وليس بالضرورة أن أعرفها. ربما رأتني مرة أو مرتين هنا أو هناك وها هي غير متأكدة من أنني أنا. ربما هو المكان الذي لا يساعدني على تذكر صورتها، فلو رأيتها في المكان الذي رأيتها فيه أول مرة وفي زمن أفقي ومتسق لكان احتمال خروجها من الذاكرة صعبا مهما بلغت قسوة المران. لن أنكر أن الذي ساعد في تغلبي على ذاكرتي هو انفصال المكان والخروج من دائرة الزمن الذي تحيط به. فمنذ النفي الأول وأنا في عزلتي لا ألتقي أحدا من وطني، لا يكاتبني أحد ولا أكاتب أحدا. أغرقت نفسي في تفاصيل المكان الجديد وانتظام حركتي في مداره الزمني، تعثرت قليلا، تراجعت قليلا ، تقدمت، هرولت ، مشيت، ركضت ولكني انتظمت مستفيدا من أقدمية الزمان وهشاشة المكان في ذاكرتي، المكان الذي تركته وأنا في العشرين من عمري وكان حينها مكانا مهشما وزمنا متوقفا.
نهضت نحو المقهى وقبل أن أجلس كانت تتجه نحوي. اقتربت مني ولم تجلس ، انحنت بنصفها نحوي، رأيت في عينيها لهفة لا يخفيها البريق الذي يمنح لون عينيها بهاء استثنائيا. “سعد، سعد”. رددت إسمي وكأنها أمضت حياتها كلها تعد نفسها ألا تنساه. لم أتحدث توقعت أنها ستجلس ولكنها بذات الانحناءة كتبت رقمها على ورقة من أوراق المناديل أمامي “اتصل بي ضروري الليلة بعد العاشرة”. وانسحبت تاركة ملامح وجهها كلها علامة استفهام كبيرة أحاول الإجابة عليها وأفشل.
كان اليوم هو الأحد وعلي أن أعود إلى مدينتي ليلا حتى أباشر عملي في الصباح، وقدرت أن الوقت باكرا ومازال الوقت يسمح لي أن أسافر بعد العاشرة ولن أتأخر عن عملي. رأيتها تخرج من الباب الرئيس للمجمع التجاري تتقدمها البنات الثلاث والطفل الأصغر سنا وتنظر إلى الخلف وكنت بعيدا ولا أظنها رأتني. أنهيت قهوتي وبدأت أتذكر كل النساء اللائي بقين في الذاكرة. وتذكرت أشباحا، عباءات وبراقع وقمصانا وتنانير وأجسادا عارية جميعها بلا رؤوس. ربما مرّت هي ذاتها بهيئتها الخارجية علي ولكنني لم أر عينيها.
عدت إلى الفندق ليلا وجلست أنهي بعض الأعمال الضرورية لليوم التالي وأنا أخمن أنني سأتأخر عن عملي غدا ربما لساعتين أو أكثر. في العاشرة مساء اتصلت. ردت بسرعة “تأخرت” قالت. ولم أقل شيئا فأكملت “هذا رقمك” قلت نعم سأرسل لك عنواني ” تعال بسرعة”.
كان كل شيء سيبدو غامضا ومريبا لو أنه دون ذكر اسمي “سعد” في السطر الذي أرسلته لي وتكرارها له مرتين لما يشبه اللهفة. أن تعرف اسمي فهي تعرفني وربما كانت علاقتي بها طويلة وعميقة وأنني قسوت على ذاكرتي ومسحت كل خلايا العضو المسؤول عن الذاكرة البعيدة في الدماغ. والاجهاد في المران الذي دمر الذاكرة لا يمكن استخدام مران معاكس له لاستعادتها. ركبت سيارتي وكان العنوان في مدينة “لافال” المجاورة لمونتريال والتي تبعد عنها عشرين دقيقة في وقت متأخر من ليلة أحد تكاد تخلو فيه الشوارع من السيارات. وصلت العنوان. كان بيتا صغيرا متصلا بمجموعة من البيوت المشابهة له. أمام الباب خمس عتبات مرتفعة عن الأرض قبل أن أرتقيها رأيت وجه السيدة يطل من الشباك الذي لا ينعكس خلفه نور. حين فتحت الباب قبل أن أطرقه وكأنني أمام صورة أخرى لامرأة غير التي التقيتها هذا النهار. شعرها البني ينسدل على أكتافها ويصل حتى ملتقى ردفيها بظهرها. كان غزيرا ومتوحشا. ترتدي قميصا مشمشيا يصل إلى ركبتيها يكشف عن كتفيها العاريين وملتقى نهديها. رغم مسحة الألوان الصناعية الخفيفة كنت أرى تعبا وما يشبه الإخفاق أقرأه في عينيها. أخذتني من يديّ وضمتني إلى صدرها وبكت. خجلت من نفسي وأنا الذي جئت أطمح لغير ذلك. أجلستها على الكنبة ليتحول بكاؤها نشيجا حقيقيا. وكأنها رأت صدرا مهملا تحوله إلى مبكى.
حين هدأت نهضت إلى المطبخ الذي يطل على الصالة الصغيرة التي نجلس بها. وضعت إبريق الماء على موقد الكهرباء وتناولت زجاجة ماء من الثلاجة وكأسين من الرف الذي يعلو المغسلة الصغيرة وعادت بخطوتين إلى جواري تلتصق بي بشكل لا يدعو إلى الشك في أن علاقتي السابقة كانت أكثر حميمية من وضعنا الحالي. وفي كل تلك المساحات الزمنية الصامتة وانا أفكر بزمن ما التقينا به. بدا الأمر وكأنني أفتش في تاريخي الذي امتد إلى قرنين من الزمان وليس عشرين عاما أو أكثر قليلا. بالتأكيد فإنني لم أعرفها طفلا وفي أكثر الأحوال كنت في الثامنة عشرة من عمري فكيف يستحيل علي أن أتذكر علاقة بهذه الحميمية التي تتكرر الآن؟ وكيف تستطيل بي السنون لأضاعفها ببؤسي مرات ومرات؟ سأقتنع أنني في الأربعين أو سنة فوق الأربعين ، هكذا هو جسدي الآن ، وهكذا العدد الحقيقي لأيامي ولكن ذاكرتي تزدحم بالماضي البعيد وتقف عاجزة عن تذكر العشرين سنة الماضية. علي الآن أن أحصد نتيجة خطأ ارتكبته في مراني على النسيان دون أن أتوقع لحظة كهذه أجد نفسي حائطا حقيقيا لعينين تدمعان دون أن أتعاطف لسبب تعتقد هي أنني أعرفه بمجرد أن عرفتني أو ربما بمجرد أنني بادلتها نظرات الفحش.
حين لاحظت برودي وهي تهم بعينيها أن تحتضنّي ولا أبادلها الرغبة نفسها ليس تعففا وإنما لأنني لا أحب أن أحتضن النساء الباكيات. “سعد أنت لا تتذكرني؟” وهزت رأسهاوكأنها تستبق إجابتي. كان علي أن أخرج من هذا الإحراج بأي ذريعة ولأنني لا أمتلك حاليا كذبة مرتبة ومقنعة كان علي أن ألجأ إلى نصف الحقيقة. “أعتذر منك ما تعرضت له أفقدني ذاكرتي”. ووضعت يديها على وجهها ضاغطة بأطراف أناملها على عينيها فرأيت طلاء أظافرها كبقع من الدم توقف عند أول عُقَل أصابعها. ” يالله وأنت أيضا، مالذي حصل لنا؟” أخفضت رأسها وهي تتحدث ثم نهضت ثانية حين سمعت صوت الماء يغلي آخذة بيدي لتمررها على فخذها وجزء من مؤخرتها قبل أن تفلتها حين لاحظت أنني لن أنهض وراءها. لا أعرف الآن إن كنت قد فعلت ذلك عن قصد أو لا ولكن هذا التردد كان يثيرها أكثر من تسرعي في ردة فعل تبدو غير متزنة. أما ما أشعر به فهو اعتمادي على عدميةاحتمال أن يجتمع حزن امرأة وشبقها. وكنت أعرف بحكم تخصصي في علم النفس أن تجربة جسر “بريتش كولومبيا” المخيف أثبتت أن شعور الانسان بالهلع يدفع به إلى الشهوة الجنسية بعد انقضاء الهلع مباشرة . أما اقتران حزن المرأة وبكاؤها بشبقها فهو حالة أمر بها للمرة الأولى ولم أقرأ تجربة معتمدة بخصوصها. إلا أنني سأفترض أنها ليست حزينة الآن وإنما تستعيد حزنها، والذي حتى الآن لا أعرفه، واستعادة الحزن لا يتمكن بمشاعر أخرى كالشبق كما يفعل الحزن ذاته.
لم تسألني إن كنت أفضل الشاي أو القهوة أو حتى شرابا آخر، وضعت كيسين من الشاي الأحمر في كوبين من البورسلان ، وأردت أن أتدخل فأنا أفضل أن أرى لون الشاي حين أشربه. ولم أفعل. عادت وقالت “هل تذكر حين شربت الشاي في بيتنا؟” ولأنني لم أتذكر ذلك صمت ولم أرد. ثم أكملت “أنا من صنعت لك الشاي يومها”. رأيت أن أتحدث بأي شيء “وهل كان بنفس الطريقة؟” وضحكت وكأن كل الحزن الذي جسدته في المشهد الماضي كان مشهدا أدته ببراعة ليس إلا. “لا طبعا ، كان كل شيء مختلفا”. ربما أفهم الآن أنها صنعت الشاي ولكننا لم نشربه معا ربما كنت ضيفا على شقيقها وبالتأكيد لن تخرج لتجلس معنا.
الراحة التي تجلس بها وهي تسند جسدها على الكنبة وتجمع ساقيها العاريتين إلى فخذيها تاركة قميص المشمش ينحسر بين حين وآخر عن جسم ناعم لن أبالغ إذا قلت مثاليا. تميل نحوى أكثر مما تبتعد عني وكانت رائحتها مزيجا من عطر عربي وبخور كمبودي. ثم فجأة سألتني “كيف رحلت؟ ترددت الكثير من الأقاويل عنك ، حتى شقيقاتك لم يتفقن على قول واحد، وبعد ذلك تركنا بيتنا ولم ألتق بهن أبدا ويبدو أننا لن نلتقي”.
ثم مسحت بإصبعين على وجنتي، أبعدت ،برغبة واضحة، وهي توغل بصرها بعيني فمددت أصابعي أحركها على خصلات شعرها المتدلية نحوي. “لماذا كنت تبكين إذاً حين التقينا. بدأ وجهها يتغضن ثانية محاولة أن ترسم عنوة ابتسامة خفيفة لا تتلاءم وهذا الحزن الذي غيّر نبرة صوتها وهي تتحدث. وتمنيت أن أمارس الجنس معها بذات الملامح المختلطة وبحة الصوت ولكني خجلت من ذهني المريض والغريب وهي تقول” لقد بكيت فراقك الذي لم أبكه وأعيش الآن فرحة لقاءك”.
كانت السيدة التي تدعي الآن أنها كانت حبيبتي يوما ما ولا أملك يقينا أجاريها فيه ولا شكا أرفضها به. ماذا لو كانت أحبت شخصا يشبهني واسمه أيضا سعد. وأنا الآن أتقمص شخصه وأجلس مكانه. “لا. لا. لا يمكن. هذا ضرب من الجنون”. قلت في نفسي رغم أن تلك احتمالية قدرية لا تقل عن قدرية أن تفقدني منذ رحيلي قبل عشرين سنة ونلتقي هكذا فجأة في لحظة زمنية لا تفسير لها. فربما كانت هي تتردد على المجمع التجاري بحكم سكنها بالقرب منه أما أنا فهذه المرة الأولى التي أدخله وليس في نيتي أن أعود إليه. لو أنها تأخرت في الوصول أو أنني لم أقرر الجلوس هل كان سيحدث كل هذا؟
يبدو أنها تشعر براحة وهي تستضيف رجلا غريبا في بيتها،لا أرى عليها ملامح ارتباك. ربما كان زوجها في سفر بعيد ولا تتوقع أن يعود في أي لحظة. ورغم أن ذلك يطمئنني قليلا ولكن ما يشغلني الآن هو الوقت الذي أحببتها فيه ، أو بأكثر دقة ، الوقت الذي أحبتني فيه وليس الوقت الذي سيطرق فيه زوجها الباب. لو بدأت تتحدث عن تفاصيل ربما تمكنت من إحياء ذاكرتي الميتة.
“أعرف أنك لا تتذكرني، لا يبدو عليك أنك تتذكر إسمي الآن وربما لم تتذكره أبدا طوال الفترة التي غادرتنا فيها ، يبدو أنك حتى لم تعد لأهلك خلال تلك السنوات. ولكنني أحببتك، أحببتك كما تحب فتاة للمرة الأولى وحلمت بك كما تحلم فتاة برجل اختارته ليكون لها أبدا. التقيتك مرة واحدة سأذكرها لك فيما بعد.
كان ذلك قبل عشرين عاما أو أكثر قليلا. كنت تسكن في البيت المقابل لبيتنا، شاب هادئ بالكاد ترفع رأسك عن الأرض وحتى حين تجلس أمام البيت لا تهتم كثيرا بفتاة تنظر إليك من فرجة صغيرة بين حافة الستارة والشباك، واقترنت بشقيقتك التي أصبحت الآن فنانة تشكيلية معروفة ، كنت أحبك في صحبتي لها، وكانت تزودني بكتاب من مكتبتك كل اسبوع حتى قرأت كل كتبك تقريبا “هل ضاعت مكتبتك الآن؟” (هززت رأسي الذي بدا ثقيلا جدا بنعم) ضاعت توقعت أنها ضاعت”.
وكأنها تذكرت شيئا، نهضت بسرعة أربكتني ، صعدت إلى الدور الثاني عبر السلم الخشبي المصقول حافية، غابت قليلا لتعود برسم بورتريه قديم وورقة زرقاء “انظر! رسمتها لي أختك بعد حيلة احتلت بها عليها”. تناولت الصورة منها دققت فيها كثيرا. ربما كنت أنا فعلا ولكنني لست متأكدا، فشلت في أن أتعرف علي. “وهذه هي الرسالة الوحيدة التي كتبتها لي أخذتها منك في المرة الوحيدة التي التقيتك فيها”.
التصقت بي أكثر وهي تضع الصورة أمامي، ألقت بصدرها في حضني متظاهرة بأن تلك حركة عفوية وحين رفعت رأسها قليلا إلي كادت شفتاها تلامس شفتي فارتعدت.
عادت إلى جلستها ووضعت الصورة على الطاولة أمامي أنظر إليها أحيانا وإلى جسدها المسترخي كإغواء يثيرني قربه دون الإمساك به أكثر مما كان يثيرني التصاقه بي.
“في صيف تلك السنة التي سألتحق بها في الجامعة وأحلامي تتمدد حتى يصعب على خيالي أن يحيط بها. كنت أحلم أن أراك. أسير إلى جانبك. أجعلك تحبني. ذات ليلة جاءت الحرب وضاع كل شيء. ولم أرك طيلة ذلك الصيف. رفضت شقيقاتك حتى القريبة مني أن تقول لي أين أنت. ثم رفضن استقبالي في البيت. ليس بسبب أنني أحبك، أعرف ذلك. تحولنا إلى أعداء تبعا لحسابات ما بعد الحرب. وقبل أن تنتهي حرب وتبدأ أخرى أكثر مرارة منها غادرنا البلد الذي أحببنا إلى البلد الذي غادره والدي وهو لا ينوي العودة إليه. حاصرنا الجوع وضاعت مدخراتنا ولكنني لم أتوقف عن حبك أبدا”.
اعتدلت في جلستها ثم تربعت على الكنبة. التفت نحوها بنصفي. لم أتخيل أن فتاة مثلها تسكن جارة لنا. ربما رأيتها ونسيت كما نسيت جميع جيراننا الآن.
“أرسلت لك مرة رسالة، في صيف ما قبل الحرب، وطلبت منك أن أراك. كان البيت خاليا من أبي وأخوتي. وحين وقفنا في الظلمة التي تفصل بيتينا لم أر خوفا يرتسم على جسد كالخوف الذي رأيتك ترتجف منه. وحين سألتك هل أنت خائف؟ أنكرت وقلت لا جمالك جعلني أرتجف”. كانت تلك أجمل كذبة سمعتها في حياتي. الكذبة الوحيدة التي تمنيت لو كانت حقيقة. كان بودي أن ألتقيك وأسألك هل خفت أيام الحرب كما خفت من جمالي”.
مدت يدها نحوي
“يحق لي أن أحتفل بفرحي الأول بك”
أخذتني من يدي وصعدت أمامي إلى غرفة النوم وهي تسير بخفة وتضع سبابتها على إصبعها كي أصعد دون جلبة. خرجت في الثالثة فجرا، كانت نائمة لم أدقق كثيرا في وجهها ولم أعرف إن كانت حزينة أو مبتسمة. وحين ركبت سيارتي إلى المدينة حاولت أن أتذكر اسمها. لو تذكرت اسمها لعرفت بأن كل ماقالته قد حدث فعلا. لو.
المرأة جميلة ويستطيع المرء أن يتنبأ بأنها كانت أكثر جمالا وإشراقا حين كانت في عمر ابنتها التي ترافقها الآن. ولرجل في سني يرى جمالها المكتمل حاليا يفوق ما يراه في الإبنة الناعمة والتي تكاد تكون نسخة من الأم في شبابها.عينان شهلاوان واسعتان تظللهما رموش كثة وبشرة بيضاء صافية، أنف دقيق يطل على شفتين دائريتين ناعمتين رطبتهما الأم بأحمر شفاه خفيف ولم تفعل الإبنة ذلك محافظة على لونهما الوردي الطبيعي. يبدو أن النظرات المستترة بيننا تتطور، فبعدما كنت أنظر إليها حين تصد عني وتفعل الشيء ذاته أصبحت أعيننا أكثر وقاحة ونظراتنا تستمر طويلا لثوان عديدة حتى ينكسر بصر أحدنا. أثار ذلك الإبنة التي كانت عائدة من دعوة الأطفال الذين ابتعدوا عن المشهد ببراءة مناقضة إلى حيث تجلس الأم. همست الإبنة بأذن الأم ما معناه أنني أنظر إليها بوقاحة رجل غريب وطلبت منها أن تنهض ولكن الأم أخرجت ورقة صفراء وكتبت شيئا والإبنة تفتح عينين واسعتين احتجاجا على هكذا تصرف غير مقبول أخلاقيا من أمها. يبدو أن الأم لم تكترث لكل هذا وأرسلت الورقة بيد الإبنة الصغرى بينما وقف شقيقها الأصغر ينظر إليها حتى وقفت إلى جواري ومدت الورقة نحوي وحين وضعت يدي على طرفها أفلتتها وانطلقت تركض.
“إذا كنت أنت “سعد” فاذهب لتجلس في المقهى الذي خلفنا”.
تأملت الورقة جيدا وقرأت اسمي أكثر من مرة والتفت إلى المقهى الذي خلفنا لأراه وعدت أدقق في وجه السيدة التي تقدمت في السن قليلا ووجه الإبنة التي تشبهها في يوم ما. من هي وأين رأيتها من قبل؟ يا الله! كيف عرفتني ولم أعرفها؟ ماذا سأقول لها في المقهى إذا سألتني هل تعرفني؟ ولم تفلح صورتها الحالية ولا صورتها القديمة مرتسمة في نسختها التي مثلتها الإبنة أن تقرع جرسا في ذاكرة ميتة.
بدا الأمر مربكا، في وضع كهذا كنت أتمنى أن نكون غريبين يلتقيان، لا يقتسمان ماضٍ ولا يربطهما سوى ماهو عابر دون أن يترتب على هكذا لقاء أن نعرف ما قبل ومابعد. لم أكن في وضع لأحتمل إحياء ذاكرتي. منذ عشرين عاما وأكثر قليلا وأنا أدرب نفسي على النسيان. كلما التقيت بوجه يعرفني وبالكاد أتذكره فيسألني هل تعرفني؟ وأقول بصدق “لا” بعضهم يرمقني بحنق أفهم منه أنه يتهمني بالانكار والتكبر وووو صفات من هذا النوع المزعج. ولم أكن أغضب ، كنت أشعر بالفرح أنني وبعد مران طويل على النسيان نجحت. استطعت أن أتحكم إراديا بذاكرتي فأقصي من أريد عن قصد منها ولكن العيب الذي صاحب هذا المران أنني أقصيت منها من لا أريد إقصاءه.
وهاهي السيدة إحدى الصور التي ليس بإمكان ذاكرة تتمتع بشيء من الجمال أن تقصيها. ولكن ربما كانت تعرفني وليس بالضرورة أن أعرفها. ربما رأتني مرة أو مرتين هنا أو هناك وها هي غير متأكدة من أنني أنا. ربما هو المكان الذي لا يساعدني على تذكر صورتها، فلو رأيتها في المكان الذي رأيتها فيه أول مرة وفي زمن أفقي ومتسق لكان احتمال خروجها من الذاكرة صعبا مهما بلغت قسوة المران. لن أنكر أن الذي ساعد في تغلبي على ذاكرتي هو انفصال المكان والخروج من دائرة الزمن الذي تحيط به. فمنذ النفي الأول وأنا في عزلتي لا ألتقي أحدا من وطني، لا يكاتبني أحد ولا أكاتب أحدا. أغرقت نفسي في تفاصيل المكان الجديد وانتظام حركتي في مداره الزمني، تعثرت قليلا، تراجعت قليلا ، تقدمت، هرولت ، مشيت، ركضت ولكني انتظمت مستفيدا من أقدمية الزمان وهشاشة المكان في ذاكرتي، المكان الذي تركته وأنا في العشرين من عمري وكان حينها مكانا مهشما وزمنا متوقفا.
نهضت نحو المقهى وقبل أن أجلس كانت تتجه نحوي. اقتربت مني ولم تجلس ، انحنت بنصفها نحوي، رأيت في عينيها لهفة لا يخفيها البريق الذي يمنح لون عينيها بهاء استثنائيا. “سعد، سعد”. رددت إسمي وكأنها أمضت حياتها كلها تعد نفسها ألا تنساه. لم أتحدث توقعت أنها ستجلس ولكنها بذات الانحناءة كتبت رقمها على ورقة من أوراق المناديل أمامي “اتصل بي ضروري الليلة بعد العاشرة”. وانسحبت تاركة ملامح وجهها كلها علامة استفهام كبيرة أحاول الإجابة عليها وأفشل.
كان اليوم هو الأحد وعلي أن أعود إلى مدينتي ليلا حتى أباشر عملي في الصباح، وقدرت أن الوقت باكرا ومازال الوقت يسمح لي أن أسافر بعد العاشرة ولن أتأخر عن عملي. رأيتها تخرج من الباب الرئيس للمجمع التجاري تتقدمها البنات الثلاث والطفل الأصغر سنا وتنظر إلى الخلف وكنت بعيدا ولا أظنها رأتني. أنهيت قهوتي وبدأت أتذكر كل النساء اللائي بقين في الذاكرة. وتذكرت أشباحا، عباءات وبراقع وقمصانا وتنانير وأجسادا عارية جميعها بلا رؤوس. ربما مرّت هي ذاتها بهيئتها الخارجية علي ولكنني لم أر عينيها.
عدت إلى الفندق ليلا وجلست أنهي بعض الأعمال الضرورية لليوم التالي وأنا أخمن أنني سأتأخر عن عملي غدا ربما لساعتين أو أكثر. في العاشرة مساء اتصلت. ردت بسرعة “تأخرت” قالت. ولم أقل شيئا فأكملت “هذا رقمك” قلت نعم سأرسل لك عنواني ” تعال بسرعة”.
كان كل شيء سيبدو غامضا ومريبا لو أنه دون ذكر اسمي “سعد” في السطر الذي أرسلته لي وتكرارها له مرتين لما يشبه اللهفة. أن تعرف اسمي فهي تعرفني وربما كانت علاقتي بها طويلة وعميقة وأنني قسوت على ذاكرتي ومسحت كل خلايا العضو المسؤول عن الذاكرة البعيدة في الدماغ. والاجهاد في المران الذي دمر الذاكرة لا يمكن استخدام مران معاكس له لاستعادتها. ركبت سيارتي وكان العنوان في مدينة “لافال” المجاورة لمونتريال والتي تبعد عنها عشرين دقيقة في وقت متأخر من ليلة أحد تكاد تخلو فيه الشوارع من السيارات. وصلت العنوان. كان بيتا صغيرا متصلا بمجموعة من البيوت المشابهة له. أمام الباب خمس عتبات مرتفعة عن الأرض قبل أن أرتقيها رأيت وجه السيدة يطل من الشباك الذي لا ينعكس خلفه نور. حين فتحت الباب قبل أن أطرقه وكأنني أمام صورة أخرى لامرأة غير التي التقيتها هذا النهار. شعرها البني ينسدل على أكتافها ويصل حتى ملتقى ردفيها بظهرها. كان غزيرا ومتوحشا. ترتدي قميصا مشمشيا يصل إلى ركبتيها يكشف عن كتفيها العاريين وملتقى نهديها. رغم مسحة الألوان الصناعية الخفيفة كنت أرى تعبا وما يشبه الإخفاق أقرأه في عينيها. أخذتني من يديّ وضمتني إلى صدرها وبكت. خجلت من نفسي وأنا الذي جئت أطمح لغير ذلك. أجلستها على الكنبة ليتحول بكاؤها نشيجا حقيقيا. وكأنها رأت صدرا مهملا تحوله إلى مبكى.
حين هدأت نهضت إلى المطبخ الذي يطل على الصالة الصغيرة التي نجلس بها. وضعت إبريق الماء على موقد الكهرباء وتناولت زجاجة ماء من الثلاجة وكأسين من الرف الذي يعلو المغسلة الصغيرة وعادت بخطوتين إلى جواري تلتصق بي بشكل لا يدعو إلى الشك في أن علاقتي السابقة كانت أكثر حميمية من وضعنا الحالي. وفي كل تلك المساحات الزمنية الصامتة وانا أفكر بزمن ما التقينا به. بدا الأمر وكأنني أفتش في تاريخي الذي امتد إلى قرنين من الزمان وليس عشرين عاما أو أكثر قليلا. بالتأكيد فإنني لم أعرفها طفلا وفي أكثر الأحوال كنت في الثامنة عشرة من عمري فكيف يستحيل علي أن أتذكر علاقة بهذه الحميمية التي تتكرر الآن؟ وكيف تستطيل بي السنون لأضاعفها ببؤسي مرات ومرات؟ سأقتنع أنني في الأربعين أو سنة فوق الأربعين ، هكذا هو جسدي الآن ، وهكذا العدد الحقيقي لأيامي ولكن ذاكرتي تزدحم بالماضي البعيد وتقف عاجزة عن تذكر العشرين سنة الماضية. علي الآن أن أحصد نتيجة خطأ ارتكبته في مراني على النسيان دون أن أتوقع لحظة كهذه أجد نفسي حائطا حقيقيا لعينين تدمعان دون أن أتعاطف لسبب تعتقد هي أنني أعرفه بمجرد أن عرفتني أو ربما بمجرد أنني بادلتها نظرات الفحش.
حين لاحظت برودي وهي تهم بعينيها أن تحتضنّي ولا أبادلها الرغبة نفسها ليس تعففا وإنما لأنني لا أحب أن أحتضن النساء الباكيات. “سعد أنت لا تتذكرني؟” وهزت رأسهاوكأنها تستبق إجابتي. كان علي أن أخرج من هذا الإحراج بأي ذريعة ولأنني لا أمتلك حاليا كذبة مرتبة ومقنعة كان علي أن ألجأ إلى نصف الحقيقة. “أعتذر منك ما تعرضت له أفقدني ذاكرتي”. ووضعت يديها على وجهها ضاغطة بأطراف أناملها على عينيها فرأيت طلاء أظافرها كبقع من الدم توقف عند أول عُقَل أصابعها. ” يالله وأنت أيضا، مالذي حصل لنا؟” أخفضت رأسها وهي تتحدث ثم نهضت ثانية حين سمعت صوت الماء يغلي آخذة بيدي لتمررها على فخذها وجزء من مؤخرتها قبل أن تفلتها حين لاحظت أنني لن أنهض وراءها. لا أعرف الآن إن كنت قد فعلت ذلك عن قصد أو لا ولكن هذا التردد كان يثيرها أكثر من تسرعي في ردة فعل تبدو غير متزنة. أما ما أشعر به فهو اعتمادي على عدميةاحتمال أن يجتمع حزن امرأة وشبقها. وكنت أعرف بحكم تخصصي في علم النفس أن تجربة جسر “بريتش كولومبيا” المخيف أثبتت أن شعور الانسان بالهلع يدفع به إلى الشهوة الجنسية بعد انقضاء الهلع مباشرة . أما اقتران حزن المرأة وبكاؤها بشبقها فهو حالة أمر بها للمرة الأولى ولم أقرأ تجربة معتمدة بخصوصها. إلا أنني سأفترض أنها ليست حزينة الآن وإنما تستعيد حزنها، والذي حتى الآن لا أعرفه، واستعادة الحزن لا يتمكن بمشاعر أخرى كالشبق كما يفعل الحزن ذاته.
لم تسألني إن كنت أفضل الشاي أو القهوة أو حتى شرابا آخر، وضعت كيسين من الشاي الأحمر في كوبين من البورسلان ، وأردت أن أتدخل فأنا أفضل أن أرى لون الشاي حين أشربه. ولم أفعل. عادت وقالت “هل تذكر حين شربت الشاي في بيتنا؟” ولأنني لم أتذكر ذلك صمت ولم أرد. ثم أكملت “أنا من صنعت لك الشاي يومها”. رأيت أن أتحدث بأي شيء “وهل كان بنفس الطريقة؟” وضحكت وكأن كل الحزن الذي جسدته في المشهد الماضي كان مشهدا أدته ببراعة ليس إلا. “لا طبعا ، كان كل شيء مختلفا”. ربما أفهم الآن أنها صنعت الشاي ولكننا لم نشربه معا ربما كنت ضيفا على شقيقها وبالتأكيد لن تخرج لتجلس معنا.
الراحة التي تجلس بها وهي تسند جسدها على الكنبة وتجمع ساقيها العاريتين إلى فخذيها تاركة قميص المشمش ينحسر بين حين وآخر عن جسم ناعم لن أبالغ إذا قلت مثاليا. تميل نحوى أكثر مما تبتعد عني وكانت رائحتها مزيجا من عطر عربي وبخور كمبودي. ثم فجأة سألتني “كيف رحلت؟ ترددت الكثير من الأقاويل عنك ، حتى شقيقاتك لم يتفقن على قول واحد، وبعد ذلك تركنا بيتنا ولم ألتق بهن أبدا ويبدو أننا لن نلتقي”.
ثم مسحت بإصبعين على وجنتي، أبعدت ،برغبة واضحة، وهي توغل بصرها بعيني فمددت أصابعي أحركها على خصلات شعرها المتدلية نحوي. “لماذا كنت تبكين إذاً حين التقينا. بدأ وجهها يتغضن ثانية محاولة أن ترسم عنوة ابتسامة خفيفة لا تتلاءم وهذا الحزن الذي غيّر نبرة صوتها وهي تتحدث. وتمنيت أن أمارس الجنس معها بذات الملامح المختلطة وبحة الصوت ولكني خجلت من ذهني المريض والغريب وهي تقول” لقد بكيت فراقك الذي لم أبكه وأعيش الآن فرحة لقاءك”.
كانت السيدة التي تدعي الآن أنها كانت حبيبتي يوما ما ولا أملك يقينا أجاريها فيه ولا شكا أرفضها به. ماذا لو كانت أحبت شخصا يشبهني واسمه أيضا سعد. وأنا الآن أتقمص شخصه وأجلس مكانه. “لا. لا. لا يمكن. هذا ضرب من الجنون”. قلت في نفسي رغم أن تلك احتمالية قدرية لا تقل عن قدرية أن تفقدني منذ رحيلي قبل عشرين سنة ونلتقي هكذا فجأة في لحظة زمنية لا تفسير لها. فربما كانت هي تتردد على المجمع التجاري بحكم سكنها بالقرب منه أما أنا فهذه المرة الأولى التي أدخله وليس في نيتي أن أعود إليه. لو أنها تأخرت في الوصول أو أنني لم أقرر الجلوس هل كان سيحدث كل هذا؟
يبدو أنها تشعر براحة وهي تستضيف رجلا غريبا في بيتها،لا أرى عليها ملامح ارتباك. ربما كان زوجها في سفر بعيد ولا تتوقع أن يعود في أي لحظة. ورغم أن ذلك يطمئنني قليلا ولكن ما يشغلني الآن هو الوقت الذي أحببتها فيه ، أو بأكثر دقة ، الوقت الذي أحبتني فيه وليس الوقت الذي سيطرق فيه زوجها الباب. لو بدأت تتحدث عن تفاصيل ربما تمكنت من إحياء ذاكرتي الميتة.
“أعرف أنك لا تتذكرني، لا يبدو عليك أنك تتذكر إسمي الآن وربما لم تتذكره أبدا طوال الفترة التي غادرتنا فيها ، يبدو أنك حتى لم تعد لأهلك خلال تلك السنوات. ولكنني أحببتك، أحببتك كما تحب فتاة للمرة الأولى وحلمت بك كما تحلم فتاة برجل اختارته ليكون لها أبدا. التقيتك مرة واحدة سأذكرها لك فيما بعد.
كان ذلك قبل عشرين عاما أو أكثر قليلا. كنت تسكن في البيت المقابل لبيتنا، شاب هادئ بالكاد ترفع رأسك عن الأرض وحتى حين تجلس أمام البيت لا تهتم كثيرا بفتاة تنظر إليك من فرجة صغيرة بين حافة الستارة والشباك، واقترنت بشقيقتك التي أصبحت الآن فنانة تشكيلية معروفة ، كنت أحبك في صحبتي لها، وكانت تزودني بكتاب من مكتبتك كل اسبوع حتى قرأت كل كتبك تقريبا “هل ضاعت مكتبتك الآن؟” (هززت رأسي الذي بدا ثقيلا جدا بنعم) ضاعت توقعت أنها ضاعت”.
وكأنها تذكرت شيئا، نهضت بسرعة أربكتني ، صعدت إلى الدور الثاني عبر السلم الخشبي المصقول حافية، غابت قليلا لتعود برسم بورتريه قديم وورقة زرقاء “انظر! رسمتها لي أختك بعد حيلة احتلت بها عليها”. تناولت الصورة منها دققت فيها كثيرا. ربما كنت أنا فعلا ولكنني لست متأكدا، فشلت في أن أتعرف علي. “وهذه هي الرسالة الوحيدة التي كتبتها لي أخذتها منك في المرة الوحيدة التي التقيتك فيها”.
التصقت بي أكثر وهي تضع الصورة أمامي، ألقت بصدرها في حضني متظاهرة بأن تلك حركة عفوية وحين رفعت رأسها قليلا إلي كادت شفتاها تلامس شفتي فارتعدت.
عادت إلى جلستها ووضعت الصورة على الطاولة أمامي أنظر إليها أحيانا وإلى جسدها المسترخي كإغواء يثيرني قربه دون الإمساك به أكثر مما كان يثيرني التصاقه بي.
“في صيف تلك السنة التي سألتحق بها في الجامعة وأحلامي تتمدد حتى يصعب على خيالي أن يحيط بها. كنت أحلم أن أراك. أسير إلى جانبك. أجعلك تحبني. ذات ليلة جاءت الحرب وضاع كل شيء. ولم أرك طيلة ذلك الصيف. رفضت شقيقاتك حتى القريبة مني أن تقول لي أين أنت. ثم رفضن استقبالي في البيت. ليس بسبب أنني أحبك، أعرف ذلك. تحولنا إلى أعداء تبعا لحسابات ما بعد الحرب. وقبل أن تنتهي حرب وتبدأ أخرى أكثر مرارة منها غادرنا البلد الذي أحببنا إلى البلد الذي غادره والدي وهو لا ينوي العودة إليه. حاصرنا الجوع وضاعت مدخراتنا ولكنني لم أتوقف عن حبك أبدا”.
اعتدلت في جلستها ثم تربعت على الكنبة. التفت نحوها بنصفي. لم أتخيل أن فتاة مثلها تسكن جارة لنا. ربما رأيتها ونسيت كما نسيت جميع جيراننا الآن.
“أرسلت لك مرة رسالة، في صيف ما قبل الحرب، وطلبت منك أن أراك. كان البيت خاليا من أبي وأخوتي. وحين وقفنا في الظلمة التي تفصل بيتينا لم أر خوفا يرتسم على جسد كالخوف الذي رأيتك ترتجف منه. وحين سألتك هل أنت خائف؟ أنكرت وقلت لا جمالك جعلني أرتجف”. كانت تلك أجمل كذبة سمعتها في حياتي. الكذبة الوحيدة التي تمنيت لو كانت حقيقة. كان بودي أن ألتقيك وأسألك هل خفت أيام الحرب كما خفت من جمالي”.
مدت يدها نحوي
“يحق لي أن أحتفل بفرحي الأول بك”
أخذتني من يدي وصعدت أمامي إلى غرفة النوم وهي تسير بخفة وتضع سبابتها على إصبعها كي أصعد دون جلبة. خرجت في الثالثة فجرا، كانت نائمة لم أدقق كثيرا في وجهها ولم أعرف إن كانت حزينة أو مبتسمة. وحين ركبت سيارتي إلى المدينة حاولت أن أتذكر اسمها. لو تذكرت اسمها لعرفت بأن كل ماقالته قد حدث فعلا. لو.