باقر صاحب - عازل مفتوح

لا يعرف ماذا يكتب، ليست هناك فكرةٌ محددة، لكن هوامش عزلة (مهموم صبّار) تدور حول سؤالٍ كبير، يعتقده هكذا، ولكنَّه لم يحسمْ يقينه، بشأن الإجابة عنه، هل هذه العزلة تضرُّه أم تنفعُه، أكبرُ دليلٍ على عدم الحسم صيغة الفعل المضارع في طرح السؤال.

أحياناً يحسد (مهموم صبار) الأشخاص العاديين، المفرَّغين من هموم الكتابة، يحسدهم لأنهم لا يفكرون في طرح هذا السؤال، بل يندمجون مع أفراد عوائلهم، وزملائهم في العمل، سواء أكان وظيفياً أم حراً. وأيضاً مع أصدقائهم في الجلوس طويلاً على تخوت المقاهي، والسفر براً داخل البلاد وخارجها.

لم يكنْ (مهموم صبّار) حاسماً بشأن هل أن العزلة تضيّق مساحات أفكاره، أم تجعلها رحبةً من خلال الكتب الناقلة لتجارب الآخرين؟ أم أن الاختلاط المفتوح على مصراعيه ليلَ نهار يسهم في صناعة تجاربَ شخصيةٍ جديدة، تغذّي نصوصه بالصدق والمتعة وإدارة خيوطِ النصِّ بإتقان.

حار (مهموم) في أمره.. إن اعتزل نفسه في خانقِ كتبه ومنضدة الكتابة التي تزدحم بأعداد الكتب بعضها فوقَ بعض، حرم نفسه من

مسرّات الاتصال مع الآخرين، فيسمع صوتاً داخلياً: وما أدراك أنها مسرّات، بل مشاكلها وإزعاجاتها وزيفها أكثر من صفائها ونقائها.

ولما ظلَّ (مهموم) مصغياً إلى الصوت الداخلي، وهو يردد: (احترم ذاتك بعزلتك، ولا تلوثها بعلاقات نفاقٍ وادّعاءٍ وزيف)، تمادى هذا الصوت حتى تحوّل إلى صراخ، يطفو في فضاء غرفته العلويّة، فأطنب الصوت الصارخ (قالها المتنبي: وخير جليس في الزمان كتاب).

ردّد (مهموم) مع نفسه ثانيةً: هل أخرج مع الأصدقاء حتى منتصف الليل لأفيد من هذه السهرة في إكمال إجابة ما وددت السؤال عنه، لكن أحد الكتب مدَّ مؤلفهُ لسانهُ من الغلاف الأمامي قائلاً:( أنا كتابٌ عن العزلة، اقرأني واستفد أكثر من صحبتك الجوفاء، وإن لم تكنْ كذلك، فهي أطراف حديث، ليس مثلما كتابي، موضوعته مركزية: مرض العزلة التي تعاني منها. الكمبيوتر أيضاّ يغنّي: لم يترك العم غوغل أمراً إلاّ وبحثه، ف(تغوغَلْ) ما شئت فيه.

ظلَّ (مهموم) ينهضُ من كرسيه ويعاودُ الجلوس، كتعبير عن كونه أصبح حلبةِ صراعٍ بين الصوت الداخلي لنفسه التي تشعر بالسأم والكآبة، وبين الكتاب والكومبيوتر وانضمَّ لهما ثالثهما الموبايل.. كلها تغنّي عن دوخة الرأس من صخب الأسواق والمقاهي وزحام الطرقات، ولكنه قال للثلاثة معاً: (امتدّت عدوى العزلة الباردة إلى علاقتي مع زوجتي وأبنائي وأخوتي وأخواتي، فردَّ عليه الثلاثة معاً: (برود العلاقات وجفاف الأواصر الاجتماعية هذا مرض العصر، ولسنا أطرافاً فيه)، فردَّ مهموم بدوره، بجنون، وبصوتٍ عالٍ:

- كيف.. أنتما التقنيان الحاسوب والموبايل، أحدث اختراعات العصر، ومازالت أجيالٌ جديدةٌ متناهيةٌ في التطوّر، تُولدُ كلَّ عام، وأنت الثالث الكتاب، الذي لا نتذوّقه ونستوعبه من دون هدوءٍ وجوٍّ شاعري.

كانتِ الغرفة مقفلة، فتجمّع أفراد عائلته أمام الباب يسمعون الحوار الطريف، فسمع أصواتاً: أبونا أصبح ممثلاً، وأخرى: قولوا.. أصبح مجنوناً، وقال صغيرهم: لا يا جماعة.. هذه قراءةٌ تفاعليةٌ لنصٍ ألّفه أبونا عنوانه؛ عازلٌ مفتوح...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى