أدب السيرة الذاتية أ. د. مصطفى رجب - أيامي السابقات (1...8)

(1)

كنت ألقي محاضرة بدار المعلمين بمدينة (طهطا) صيف عام 1982، وكان رحمه الله من بين الضيوف الذين يستمعون إليَّ، تصافحنا وجلسنا بعض الوقت عقب المحاضرة، ثم عاد هو إل القاهرة حيث يعيش ... وتصادف بعدها بعدة أسابيع أن سافرت إلى السعودية للعمل محاضرا للنحو والصرف في كلية المعلمين بأبها بالمنطقة الجنوبية، وفور وصولي أقمت في فندق، فالدراسة ستبدأ بعد يومين ، وكنت في أحد هذين اليومين قد تشوقت جدا لرؤية الصحف المصرية التي يتحتم أن أراها يوميا، فسألت عن "كشك" يبيع الصحف وذهبت إليه، وهناك كانت المفاجأة، كنت قد التقطت نسخة من جريدة الأهرام وأحذت أبحث عن تاريخ صدورها، وفوجئت بمن يقف عن يميني ويدس رأسه في الصحيفة مثلي، ففوجئت مفاجأة شديدة إذ رأيت ذلك الرجل الكريم الذي كنت معه قبل عدة أسابيع في ندوة طهطا !!
عندما عرف مني أنني أقيم في فندق ، أخذني في سيارته إلى الفندق ودفع الحساب وطلب منهم إخلاء طرفي وأخذني معه إلى بلد قريب يقيم فيه ، دخلت معه شقة بها ثلاث غرف يقيم هو في واحدة منها وفي الغرفة الثانية يقيم شخص كان موظفا بهيئة الكتاب، وفي الغرفة الثالثة يقيم مهندس زراعي من أرياف الدقهلية..
كان الثلاثة منعزلين في الأكل والشرب، نعم: يشتركون في استعمال ثلاجة واحدة لكن لكل واحد منهم نصيبه الخاص به، ولكنهم يشتركون في شراء جريدة "الأهرام" يوميا: يشترون نسخة يقرأونها، ثم يقسمون أوراقها ثلاثة أقسام (في اليوم التالي) ليستعملوها فيما يشاؤون!
بقيت عند هذا الرجل قرابة أسبوع ، وتسلمت عملي في الكلية ، لكنني أسافر نحو خمسة عشر كيلو متر يوميا من تلك البلدة ( خميس مشيط) إلى ( أبها) حيث تقع الكلية. وبعد هذه المدة اقترح ذلك الرجل الكريم أن أبقى معه في حجرته (وهي الأوسع والأكبر) فاشتريت سريرا ودولابا بلاستيكيا صغيرا وأقمت معه..
كان الثلاثة يستغربون أنني أشتري (الأهرام) يوميا، و(الأحرار) أسبوعيا كل يوم اثنين و(الأهالي) كل أربعاء، و(الحقيقة وأخبار اليوم) كل سبت وأحتفظ بتلك الصحف بعد قراءتها!! كانوا يرون في ذلك إسرافا وتبذيرا غير معقول ولا مفهوم ..
وكنت من وقت لآخر أتجول في المكتبات فأشتري بعض المجلات أو الكتب التي أراها مهمة.... وكانوا ينبهونني إلى أنني في آخر العام سأدفع كل دخلي لو حملت كل تلكم الكتب والمجلات والصحف معي إلى مصر... ولكنني كنت تعرفت إلى زملاء مصريين بالكلية وكان منهم رئيس قسمنا (قسم اللغة العربية) الدكتور محمدين يوسف (الدمياطي) وعرفت منه أنه يسافر بسيارته ويمكنه أن ينقل لي معه مخلفاتي تلك الورقية...

***

( 2)

كان ساكن الغرفة الوسطى كما قلت سابقا موظفا في الهيئة العامة للكتاب ، ويلعب في السنوات الأولى من الخمسينيات أو نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات ، ولم يكن متزوجا ، مع أنه عاش قصص حب كثيرة - من طرف واحد – وكان حشاشا عظيما ، وأفيونيا صميما ، وكنت أستغرب حين ينزل مساء بعض الأيام فيشتري ما يشاء من الحشيش والأفيون، وحين أسأله كيف ومن أين يحصل على تلك المكيفات ، كان يصف لي المحل الذي يشتري منه.
قلت له : لقد رأيت بعيني رجال المطار يأخذون من رجل مسنّ ومن امرأة كبيرة كل ما معهما من (الفريك) أو (الملوخية) ويفرغونه في براميل الزبالة لأن من الممنوع عندهم دخول أي مأكولات لأرض بلادهم... فكان يقول إن تلك المخدرات تأتي من بلادها إلى هذه البلاد ضمن معلبات مسموح باستيرادها لكن على علبها علامات لا يفقهها أهل الأمن في المطارات والمواني...!!
وكان يحدثني عن رئيس له من الصعيد، كان يوقع لموظفين على إقرار تسلم العمل ويوقع لهم – هم أنفسهم – على قرارات خروجهم إلى المعاش !! فلما يرى استغرابي يشرح لي قائلا: كان ذلك الصعيدي رحمه الله كلما اقترب من سن الستين يذهب بنفسه إلى إدارة شؤون العاملين ويطلب ملفه ، فيسحب منه شهادة ميلاده ويضع شهادة ميلاد جديدة ينقص فيها عمره نحو عشر سنوات أو أكثر!!
وبالفعل كنت أعرف أن هذا المحكي عنه عينه النحاس باشا عام 1944 تقريبا وظل في الخدمة حتى توفي وهو على رأس العمل أواخر السبعينيات.
وكان تعيين النحاس باشا له غريبا فقد كان النحاس باشا إذا خرج من الحكم يسافر من وقت لآخر - بالقطار- من القاهرة إلى طنطا أو الاسكندرية ، فكان يتعرض لمضايقات وربما لتهور من أتباع خصومه السياسيين ، فجاء له هذا الصعيدي باثنين لا يفارقانه من فقراء الصعيد واشترى لهما بندقيتين ورخصهما لهما ... وبالفعل لما عادت الوزارة للنحاس باشا عينهما غفيرين نظاميين حكوميين...

***

( 3)

كان قسم اللغة العربية الذي عينت به يضم تسعة أعضاء هيئة تدريس : واحد تونسي وواحد فلسطيني وواحد صعيدي ، والباقون من الدلتا ، وكان في الكلية كلها 37 مصريا ، منهم ثلاثة من الصعيد فقط أستاذ فيزياء من علوم أسيوط ( د. شوقي الجمال)، وأستاذ نحو وصرف بقسمنا من مركز قوص بقنا ( د. علي النابي ) وأنا ثالثهم ... وباقي ال 37 دلتاوية ويكاد يكون 60 % منهم منايفة .. وكان رئيس قسمنا كما ذكرت من قبل هو د. محمدين محمدين يوسف ( من دمياط) ، كان ( وما يزال ربنا يبارك في عمره وصحته) مرحا ، ضحوكا ،كريما ، إيجابيا ، مجاملا ، وكان الدكتور شوقي الجمال (الفيزيائي ) يشبهه في بعض تلكم الصفات .. أما الدكتور على النابي – رحمه الله – وهو من قرية تدعى المفرجية مركز قوص – إن لم تخني الذاكرة – فكان أزهريا تخرج في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر ، وكان رحمه الله طيبا جدا ، خدوما ، كريما ، ولكنه بحكم صعيديته كان عصبيا ، غضوبا ، حاد الطبع ، لا يعرف المجاملة إذا دخل في شقاق أو خلاف ، وكان متمكنا في تخصصه ( النحو والصرف) كل التمكن ..
كان الفلسطيني الوحيد معنا في الغرفة [ وهو الفلسطيني الوحيد في كل الكلية واسمه د. عبد الحميد ] عالما حقا ، درَّس الرياضيات ثمانية عشر عاما في التعليم الابتدائي في فلسطين ، ومع حبه للغة العربية حصل على ليسانس كلية اللغة العربية من جامعة الأزهر ودرس الماجستير والدكتوراة – في النحو والصرف - مع المرحوم الدكتور عبد العظيم الشناوي المحقق المعجمي الكبير .. وبحكم هذا التكوين كان الدكتور عبد الحميد الفلسطيني هذا يفوق كل أعضاء قسمنا في إتقان اللغة ومعرفة أسرارها ، فكانوا يكنون له بغضا وحقدا يظهر حينا ويتستر في أكثر الأحيان ...
ولما عينت محاضرا للنحو والصرف [ وأنا تربوي] لأكون ثالث الثلاثة ( د. على النابي ود. عبد الحميد وأنا) كان ذلك غير مستساغ عند الدكتور عبد الحميد الذي كان يجادل التسعة فيفحمهم في بعض الأحيان ..
وكان أحد أساتذة الأدب العربي منياويا يسمى د. شبكة عالي الصوت جدا ، إذا كان يشرح في فصل تتضرر من صوته أربعة فصول مجاورة ... وذات مرة كنت أجلس أنا والدكتور عبد الحميد على مكاتبنا ، وانطلق ( ميكروفون) د. شبكة يقول : وقال المتنبي .... كذا وكذا ، فالتقط الدكتور عبد الحميد كلمة غريبة من بيت المتنبي وقال لي : " شو تعرب هاي الكلمة يا أبا درش ؟ " فأعربتها له فورا ، فطأطأ برأسه مؤيدا مبنسطا ، وكرر هذا الموقف معي مرة ثانية في أسبوع تالٍ ، ثم ثالث .... وكنت كل مرة حسن الظن به ولم يخطر ببالي أنه مازال موسوسا : ماالذي جاء بهذا التربوي بيننا ؟ ... إلى أن حدث ما حدث بعد ذلك ....

***

( 4) :

بعد عدة أسابيع من وصولي جاء إلى قسمنا محاضر جديد من مصر تخصصه الأدب العربي، وكان يعمل في مصر سكرتيرا لتحرير مجلة منبر الإسلام، ويكتب أحيانا فيها بعض المقالات، وكانت رسالته للماجستير عن شاعر عربي قديم ، ولا أتذكر الآن بلده ولا اسمه، لأنه كان متحفظا في الكلام عن نفسه، وما هي إلا أيام واندلع صوت صاحبنا (د. شبكة) وهو يشرح أبياتا لطلابه، فسأل الدكتور عبد الحميد الفلسطيني أخانا هذا: كيف تعرب كلمة كذا في هذا البيت ؟ ففوجئ الشاب واحمر وجهه وخجل ولم يعرف كيف يجيب، فقلت للدكتور عبد الحميد : إعرابها كذا وكذا ، وهذا الزميل تخصصه الأدب وليس النحو والصرف.. وبدأت أشك في نوايا د. عبد الحميد... مجرد شك.
لكن شكي تحول إلى يقين حين جاءنا بعد أيام فتى متفائل ضحوك طيب من أدغال القليوبية ليدرس ( القراءات) وهو خريج معهد القراءات العالي ، [ كلية القرآن الكريم بطنطا حاليا] وكان ذلك المعهد يعطي مؤهلا عاليا ، ويقبل حفظة القرآن وإن لم يكونوا حاصلين على الثانوية الأزهرية ، وماهي إلا أيام حتى اندلع صوت صاحبنا ( د. شبكة ) وهو يشرح أبياتا لطلابه، فسأل الدكتور عبد الحميد الفلسطيني أخانا القراءاتي هذا : كيف تعرب كلمة كذا في هذا البيت ؟ واحمر وجه الفتى ... فقلت له : يا دكتور عبد الحميد ، زميلنا هذا خريج معهد قراءات ، اسأله عن القراءات يجبك ، أما الإعراب فأجيبك عنه أنا ...وأجبته
حضر الدكتور الصعيدي علي النابي بعض هذه المواقف فكان " يزوووووم " ويصدر أصوات ضيق عنيفة لكنها دون حدود الاحتكاك المباشر بالدكتور عبد الحميد ..
خلال تلك الأيام كنت أنا قد تعرفت إلى صحف المملكة ( الرياض- عكاظ - المدينة -...الخ ) أشتريها وأقتنيها وبدأت أراسل ملاحق بعضها الأدبية الأسبوعية ، وأذكر أن قصيدة لي نشرت في إحداها بإخراج رائع بعد أقل من خمسة عشر يوما من إقامتي هناك وبالطبع رآها جميع الزملاء بالقسم ...
وكان من عادة المصريين آنذاك أن يستضيف كل من معه أسرة أي قادم جديد على غداء أو عشاء ، وحدث هذا معي فقد دعوني جميعا وتغديت في بيوتهم إلا هذا الفلسطيني..
وكنت قد تعرفت إلى مقالات العلامة أبي تراب الظاهري الأسبوعية ، واشتريت ( جميع) كتبه [ وهي فرائد حقا وروائع حقا وأنصح كل مهتم باللغة والأدب باقتنائها !!) من المكتبات وعكفت عليها ، فقد شدني أسلوبه اللغوي الغريب ، وأعجبتني حدته في خصوماته .
وذات يوم كنت وبعض الزملاء نجلس فجاء الدكتور عبد الحميد الفلسطيني وقال : لقد وضعت الليلة قاعدة لكتابة الهمزة المتوسطة[ أي الواقعة وسط كلمة] لم يسبقني إليها أحد من أيام سيبويه! اكتبوها لعلها تنفعكم ، وكتبناها ...
وبعد أيام وجدت في كتاب أبي تراب الظاهري قاعدة مختصرة لكتابة الهمزة المتوسطة فأحضرت الكتاب معي ووضعته في درج مكتبي ، وانتظرت وقتا معينا يوم الاثنين يكون فيه جميع أعضاء القسم موجودين ، فقلت له وسط هذا الجمع الحاشد : كنت قلت لنا يا دكتور إنك وضعت قاعدة لكتابة الهمزة المتوسطة، لم يسبقك إليها أحد من أيام سيبويه! قال بفخر: نعم!
قلت له : ولكني وجدت هذه القاعدة قديمة ومستعملة وسبقك إليها أبو تراب الظاهري وذكرها في كتابه هذا ، وأخرجت الكتاب ورفعته وأريته لجميع الحاضرين ... فصرخ الدكتور /على النابي : الله أكبر ، فليحيا الصعيد . واحمر وجه الرجل وخجل خجلا شديدا وأقسم أنه لم ير كتاب أبي تراب من قبل ...
وبعد هذه الواقعة بأيام دعاني للغداء عنده في بيته ، فتشاورت مع رئيس القسم ود. علي النابي فتردد رئيس القسم ورفض علي النابي أن أذهب خشية أن يسمني ... ورزع طلاقا ثلاثا لو سمَّني ليقتلنه ...

***

( 5)

....أخذني الدكتور عبدالحميد الفلسطيني في سيارته إلى بيته بعد انتهاء يومنا الدراسي، وهناك رحب بي ترحيبا كثيرا، وعرفني باليافعين من أبنائه، وبقينا نثرثر إلى أن جيء لنا بالطعام، حكى لي الدكتور يومها عن معاناته وهجراته المتكررة للعمل خارج وطنه، وعن المضايقات التي يتعرض لها، هو وكل فلسطيني، يوم عودته إلى منزله في القدس أو الضفة الغربية.. طالت جلستنا عدة ساعات ولكنها كانت جميعا خلوا من أي كلام في النحو أو الصرف !!
ولكنني توقفت عند جملة قالها : " إنه يعتزم أن يؤلف كتابا في اللغة لم يسبقه إليه أحد منذ وُضعت قواعد اللغة العربية!!"
فقلت له : مثل كتاب فؤاد عبدالباقي رحمه الله؟ [معجم ألفاظ القرآن الكريم] قال: نعم!
وأذكر أن قال لي يومها: حرام عليك أن تضيع عمرك مع علوم التربية التي يستطيعها كل أحد، وتحول بدراستك إلى كلية الآداب لتخدم اللغة والنحو والصرف بنوع خاص، فقلت له: قدر الله وما شاء فعل.
بعدها تصادقنا بقوة ، وكنا نترك مكاتبنا ونذهب لمكتبة الكلية فنقضي بها ساعات طوالا نتجادل في النحو ومسائله الشائكة ، والصرف وألاعيب الصرفيين العجيبة...
وأتذكر أن عميد الكلية الشيخ سالم مصطفى الحامدي جاء إلى قسمنا أواخر العام ووقف على الباب وقال لي: أنت يا شيخ مصطفى قدمت استقالة ليه؟ نريدك أن تبقى معنا ، فقلت له: لقد وعدت عميد كليتنا بأن أغيب عاما واحدا ولا أجدد، وأعدكم لو كتب الله لي السفر ثانية سأطلب أن يكون لأبها ولكلية المعلمين بها بنحو خاص، فتبسم... ونظر إلى رئيس القسم (د. محمدين) وانصرف. فلما سألت د. محمدين عن معنى ابتسامته ونظرته إليه قال : هذه أول مرة يتوجه لمكتب أحد المتعاقدين ويطلب منه البقاء !!
وكان من عادة عميد الكلية الشيخ سالم مصطفى الحامدي أن يقيم في آخر العام حفلا لتوديع من انتهت مدد إعارتهم، أو أنهيت خدماتهم، وتكريمهم... وأذكر أنني في ذلك الحفل قلت قصيدة أعجبت كل الحاضرين ، وفي نهاية الحفل والكلمات، رأيت – والله على ما أقول شهيد – الدموع في عيني د. عبد الحميد الفلسطيني، فلما اقتربت منه وتحدثت إليه قال: هذه أول مرة أحزن من قلبي على فراق مصري من هذه الكلية...كان يقول هذا وأنا أردد في داخلي مقولته القديمة: "إنه يعتزم أن يؤلف كتابا في اللغة لم يسبقه إليه أحد منذ وُضعت قواعد اللغة العربية!!"
وبعد سنوات طوال رأيت في معرض القاهرة الدولي للكتاب كتابه الفريد [ معجم الأدوات والضمائر في القرآن الكريم ] الذي لا مثيل له من قبل ، والذي يكمل كتاب فؤاد عبد الباقي رحمه الله..
وأرجو من أصدقائي الأردنيين على هذه الصفحة أن يفيدوني بعنوان هذا الرجل إن كان ما يزال حيا يرزق ..
وبعد ذلك أعود للحديث عن رئيس قسمنا الدكتور محمدين يوسف الذي كان يقول كلما سألناه عن سنواته الطوال في السعودية مستشهدا بشطر بيت قديم: "........ وإني مقيمٌ ما أقام عَسيبُ!!"

***

( 6)

كان رئيس قسمنا [ الدمياطي ! ] الدكتور محمدين محمدين يوسف [ بارك الله في عمره وصحته] أزهريا متفتحا ودودا كريما ، وكان كلما حدث عنده حادث جلل : كأن ينجح أحد أبنائه ، يدعونا إلى غداء في بيته ، فإذا اصطففنا حول مائدة الغداء ، أخذ يشرح لنا قصة اللحم الذي بين أيدينا منذ كان فكرة إلى أن جاء أمامنا ، وكيف أنه يختلف عما نشتريه نحن – المساكين !!- من لحوم لا نعرف أصولها ...
فإذا مد أحدنا يده إلى طبق شوربة يقول : وماله !! اشرب يا فلان ولا يهمك ، ده أنا مشتريه ب 10 ريال مش زي ابو نصف ريال اللي بتشتروه أنتم ..
وإذا مد أحد يده إلى تفاحة قال: وماله !! كل يا فلان ومزمز فإنك لم تر هذا التفاح في حياتك في مصر ، ولن تراه هناك بعد أن تعود إليها .. كل ولا يهمك ، لا تظن أنني نادم لأني مشتريه لكم الكيلو ب 30 ريال ، مش خسارة فيكم ...
- مد ايدك يا .......... وتذوق هذا الخضار أنا جايب الكيلو منه ب 23 ريال علشان تشبعوا ...كل ولا يهمك
- حاسب يا......... السكين تعورك دي مش زي سكاكينكم المصدية اللي بتشتروها ، دي سكين حادة غالية جايبها ب 44 ريال من جدة
- اشرب يا....... ولا يهمك ، ده عصير مانجة أصلي ب 18 ريال ، اشرب ولا يهمك ، اشبع ولا تخجل
- خذ يا.......... تذوق الكبدة دي ، دي ب 40 ريال ، غير كبدة الشوارع اللي أنتم عايشين عليها ... كل ولا يهمك
....... وهكذا يظل الدكتور محمدين طوال الأكل يحكي لنا عن أسعار كل شيئ أمامنا حتى مفرش مائدة السفرة وتاريخ اقتنائه وقصة شرائه ..
فإذا انتهينا وذهبنا لنغسل أيدينا حكى لنا تاريخ الصابونة التي نستعملها وكيف تختلف – في سعرها- عن الصابون الرخيص الذي نقتنيه
يقول كل ذلك بجدية صارمة ولا يضحك مطلقا .... وإن كان في داخله يضحك ضحكا شديدا نحسه ولا نكاد نسمعه ...

***

( 7)

..... وكان بلدياتي الذي التقطني من أمام كشك الصحف ، وأسكنني معه في حجرته قد طلب مني أن نتشارك في إيجار غرفته وأن نتشارك في المأكل والمشرب ، كانت مهمتي محدودة : أن أشتري بعض ما أفهم من الفواكه والخضروات ، وأن أغسل الصحون عقب الأكل ، وكانت مهمته : أن يشتري الكبائر كاللحوم والدجاج وأن يطبخ ... كان – رحمه الله – يزيد عني في الطول نحو أربعين سنتيمترا ، وتبدو صحته – برغم عمره – قوية جيدة ، وكان المصريون يأتون إليه فيعطونه مئات أو آلاف الريالات ، ويأخذها ذووهم في مصر من ابنه بالعملة المصرية ، دون حاجة للتعامل مع البنوك ودفع عمولاتها ، وقد عوَّد ابنه الكبير على أن يطلبه كل يوم جمعة [ فالمكالمات الهاتفية يوم الجمعة أرخص] ويكون الفتى أمامه ورقة فيقول له مثلا : فلان 2000ج فلان 5000 ج فلان 7000ج... وهكذا فلا تستغرق مكالمته أكثر من دقيقة أو دقيقتين !!
وقصة زواجه عجيبة جدا ، فقد كان يشهد فرحا لأحد أصدقائه في وسط شارع عريق بأسيوط أواسط الأربعينيات ، وقد جلس العروسان فيما يسمى ( الكوشة) والطبالون والزمارون في غاية النشاط ، وفجأة دار صياح عظيم ، فقد اختلف والدا العريس والعروس على المبلغ الذي يكتبونه في ( القائمة) التي كانت تحرَّر يوم الفرح عادة قبيل عقد القران ...
تزايد الصياح وتفرقت الأسرتان ، فقام العريس مما يسمى ( الكوشة) وهربوا ، وسيطر السكون والوجوم والحزن على العروس وأهلها ، فأخذت بلدياتي نزعة مروءة حادة ، فقام وأعلن أن سيجلس مكان العريس ويوقع على ( القائمة) ويتزوج تلك العروس التي ما جاء إلا ليشهد فرحها ..
وقد رزقه الله منها ثلاثة بنين أكبرهم ذلكم الأستاذ الجامعي المرموق في إحدى كليات القمة [ الذي كان يقوم وهو طالب بتوصيل المبالغ لأهلها] والثاني رتبة عسكرية كبرى والثالث مهندس كبير ، وثلاث سيدات فضليات في مركز طيبة ...
وكان العجيب في تلك السيدة أنها كانت تأتي لزيارة صاحبي هذا من القاهرة إلى جدة إلى أبها إلى خميس ولا يدري بها إلا وهي تطرق عليه باب شقته تلك !!

***

(8)

... كان عميد الكلية الشيخ سالم الحامدي صارما شديدا حازما ، وكان من ال 37 المصريين أخصائي اجتماعي مهذب ، ولكن الطبيعة المتحفظة للمجتمع لم تكن تسمح له بأداء عمله على النحو الطبيعي كما هو الحال هنا في مصر ، لأن من مقتضى عمله الطبيعي أن يتعرف أسرار البيوت . وهذا غير مسموح به ، فكلفه العميد أن يجلس في مكتبه ويتابع غياب الطلاب وحضورهم [ لأن الطلاب كانوا يتقاضون رواتب شهرية تفوق رواتبنا ليتفرغوا للدراسة إذا كانوا معينين بالفعل معلمين بمؤلات متوسطة مختلفة وكان الهدف من إنشاء هذه الكليات تسوية مؤهلاتهم ] ويستعين بمن يشاء ..فكان مما أوعز به إليهم أن يجلسوا على باب الكلية ليراقبوا الحاضرين والمغادرين ..
وذات مرة أُوعِزَ للعميد أن يأمر كل أساتذة الكلية بالحضور يوميا من 8ص إلى 5م ، سواء أكان عليهم محاضرات أم لم يكن ،
فوقفنا نحن الصعايدة الثلاثة : د. علي النابي ( قوص) رحمه الله ، ود. شوقي الجمَّال ( أسيوط) وأنا ( سوهاج ) نتباحث في هذا القرار الغريب !!
وأقسم د. على النابي- وكان حبيب العميد ومقربا منه- قائلا : عليَّ الطلاق ما يمشي القرار ده علينا احنا الثلاثة " لنطلِّع السمس ف ددَّة !!" ، وقوله [ نطلع السمس ف ددَّة ] معناه : ليغادرنَّ أبها فورا إلى جدة قبل أن تطلع شمس الصباح !! ومن جدة إلى مصر بطبيعة الحال ...
وفيما نحن واقفون نتجادل جاء إلينا العميد الشيخ سالم الحامدي متبسما وقال : أنا عارف بتتكلموا في ايه.
وأنا نزلت مصر قريبا من 40 مرة وحافظها بلدا بلدا ، أنتم الثلاثة مستثنون من قراري هذا بيني وبينكم ... تعالوا وارجعوا كما تحبون وسيأتي لي هؤلاء " الخباصون" بأخباركم فلا أهتم !!
وفجأة وهو معنا جاء أستاذ مزيكا من جامعة حلوان فسلم علينا جميعا ثم توجه للعميد قائلا : والله يا سيادة العميد نحن سعداء كل السعادة بقراركم الجديد : أن نأتي هنا يوميا من 8 صباحا !! لنستفيد بالمكتبة وما بها من كتب قيمة ! كان الواحد منا يجلس في بيته بلا أي عمل فيشعر بالملل !!
فنظر إلينا العميد وتبسم ولم يعقب !!

***

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى