أ. د. عادل الاسطة - تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ : الكتابة عن الأحذية...

في تتبع كتابات أبناء قطاع غزة ، عن حياتهم في ظل الحرب الدائرة حاليا ، يلفت النظر ما كتبوه عن الأحذية .
لم ينزح أبناء القطاع ولم تدمر منازلهم ولم يقيموا في الخيام يعانون من القتل والخوف والجوع والعطش وقلة الدواء وحسب ، بل عانوا أيضا من نقص في الأحذية حتى أن قسما منهم مشى حافيا ، فانطبق عليه قول الشاعر توفيق زياد :
" وقفت بوجه ظلامي يتيما عاريا حافي " .
وفي الشهر الأول من الحرب لفت منظر المقاتل الغزي الذي يذهب ليقاتل عدوه بالشبشب الأنظار ، فكثرت التعليقات الإيجابية من الفلسطينيين حوله ، وكثر أيضا الغمز واللمز من العدو الذي يوجعه مقاتل شبه حافي .
وبإحصائية غير دقيقة أو شاملة يمكن أن ألفت النظر إلى تسع فقرات ومشاهد تابعتها وقرأتها بهذا الشأن وهي كتابات وإدراجات الناشطين الآتية :
- فايقة الصوص ام ايمن الصوص " ليس تفاحا " ( ٢١ / ٣ / ٢٠٢٤ )
و " الإسكافي " ( ٦ / ٨ / ٢٠٢٤ )
- رياض عواد " صورة شبشب مرتوق " ( ١٢ / ٨ / ٢٠٢٤ ) Riyad Awad
- شجاع الصفدي " باب الحارة " ( ١٤ / ٨ / ٢٠٢٤ )
- مريم قوش " ثمن قبقاب ساندريلا " ( ٢٤ / ٨ / ٢٠٢٤ )
- الجزيرة . صورة لطفلين يحملان جردل الماء يتبادلان انتعال الحذاء . فردة لكل منهما
- رزق مزعنن " شبشب صناعة مصرية ثمنه في غزة الآن ٣٠٠ شيكل . قبل الحرب ٣٠ شيكل وقبل إغلاق معبر رفح ٤٠ شيكل " Rezek Muzaanin .
- يوسف القدرة " أمي الحبيبة " ( ١ / ٩ / ٢٠٢٤ ) Yousef Elqedra .
- في ٢ / ٩ / ٢٠٢٤ أدرجت صفحة " اخبار غزة أول بأول " صورة حذاء مهتريء ممزق كتب أعلى منها " صورة حذاء لطفل " .
وهذه كلها تصف مشاهد وتجارب تظهر مدى افتقاد الناس لأبسط احتياجاتهم : أن يرتدوا حذاء .
وأنا أدرس الأدب الفلسطيني ، في جامعة النجاح الوطنية ، غالبا ما درست سيرة جبرا إبراهيم جبرا " البئر الأولى " وتوقفت أمام ما كتبه عن الحذاء الذي حظي به من الدير ، ففرح ولكن فرحته لم تكتمل . وهذه القصة دفعتني لأن أكتب مقالا عنوانه " الأدباء الفلسطينيون والأحذية " ( ٢٢ / ١ / ٢٠٢٢ ) تتبعت فيه ما أورده أدباء فلسطينيون عن الأحذية وعن فقرهم وفقر طلابهم ، وهم ، عدا جبرا ، معين بسيسو وطه محمد علي وحنا إبراهيم وراشد عيسى .
وأنا أقرأ ما كتبه أبناء غزة تذكرت ما مر به الأدباء الواردة أسماؤهم .
في " إنه ليس تفاحا " تروي فايقة الصوص المولعة بالتسوق مشاهداتها في آذار . رأت كومة تقارب الألف قطعة ذات لون أحمر فظنتها تفاحا ، ما أثار دهشتها :
- أيعقل أن يكون تفاحا ؟ ولكن التفاح لا يبسط على الأرض هكذا !
عندما اقتربت من الكومة أبصرت ألف فردة حذاء ، فأعجبتها فردة أرادت شراءها لحفيدتها ، وهنا سألت البائع عن أخت الفردة فأجابها بأن لا فردة تشبه الأخرى .
ما حكته أم أيمن ذكرني بقصة طه محمد علي " سيمفونية الولد الحافي " ما يكون " " وفيها روى ، في ١٩٩٦ ، حكايته طفلا مع الحذاء . أراد طه أن يشتري حذاء من بائع مغربي ، فلما عثر على فردة يمينية أعجبته سأل عن أختها الشمالية فلم يجد ، فانتقى ، مصرا ، فردة يمينية ثانية ولما لبسها عانى معاناة كبيرة ومرض إثرها . الفقر هو ما دفعه إلى ذلك .
أما في " الإسكافي " فتروي فايقة ما ألم بحذائها ذات جولة تسوق . لقد انفرط جانب منه ، فلما رأت إسكافيا ذهبت إليه ليرتقه ، فرأت ما يبعث على الضحك ، ومع ذلك فقد ازدهرت مهنة الإسكافي في الحرب في حين بهتت مهن أخرى . ما روته الكاتبة ذكرني ب " البئر الأولى " لجبرا إبراهيم جبرا وما كتبه فيها عن مهنة أبيه في عشرينيات القرن العشرين وعن طبيعة الأحذية التي كانت تصنع من الكاوتشوك .
أما شجاع الصفدي فيكتب عن سيره وصديقه وملاحظتهما الناس تمشي حفاة ، ما ولد لديه فكرة مشروع اقتصادي يتمثل في إقامة مصنع قباقب تشبه تلك التي في مسلسل " باب الحارة " ، ولكنهما يخشيان من أن يستخدمها الناس في أثناء تعاركهم ، فما أكثر ما يتعاركون في الحرب .
تحكي مريم قوش في " ثمن قبقاب ساندريلا " عن حوار سمعته بين أم وطفلتها . تصطحب الأم ابنتها لتشتري لها قبقابا ، فهو المتوفر ، في حين تحلم الابنة بحذاء يشبه حذاء ساندريلا ، ولكن أين يتوفر هذا ؟ تضطر الابنة مكرهة أن تخضع لأمها ، فليس باليد حيلة ، فيما تعد الأم ابنتها أنها ستحقق لها رغبتها حال انتهاء الحرب .
وتقول الصورة أكثر مما تقول الكتابة . الناشط رياض عواد أدرج صورة حفاية مهترئة مرتوقة ، وصفحة أخبار غزة أولا بأول أدرجت صورة مختلفة لحفاية تمزق الجزء الخلفي لكلتا فردتيها اللتين لا تلحظ مثلهما إلا في عربات القمامة فقد انتهت صلاحيتهما منذ أشهر . صار امتلاك حذاء أمنية ، وهو ما نلحظه في الرسالة التي كتبتها هبة في منشور الكاتب يوسف القدرة في ١ أيلول ٢٠٢٤ :
" أمي الحبيبة
أكتب لك اليوم عن شيء بسيط ، لكنه أصبح مشكلة كبيرة بالنسبة لي . شبشبي الذي كنت ارتديه منذ فترة طويلة أصبح ممزقا ومهترئا لدرجة اني لا أستطيع المشي به جيدا . كل خطوة اخطوها تجلب لي ألما وإحراجا ، ولا أستطيع العثور على بديل له في السوق .
أشعر بالعجز حين أرى أنني لا أملك شيئا بسيطا كشبشب سليم لأرتديه . كل ما أريده الآن هو شيء بسيط . شبشب جديد يمكنني أن أمشي به دون أن أشعر بالخجل أو الألم ...... الخ " .
كانت أمنية الشاعر اللاجيء راشد عيسى في بداية خمسينيات القرن ٢٠ أن ينتعل حذاء ، وحول هذا كتب في سيرته " مفتاح الباب المخلوع " . كأننا نستنسخ النكبة وأكثر .

عادل الاسطة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى