فى أغلب الأوقات التى نلتقى فيها أنا والزميل (أيمن) كنا نتبادل النكات، السؤال عما تفعله بنا الأيام، أخبار عياله، أحوال إخوته، أعرفهم جميعا.. منذ ثلاثين عاما.
تقاطيع وجهه، تفرض باستمرار حضور أمه لمخيلتى، كأن روحها (معششة) فى المكان.. الشبه بينهما كبير.
كانت المرحومة بمثابة (أم) لى، قبل ثلاثين عاما وفى بداية شمس أيامى فى الوظيفة، هنا فى تلك المؤسسة، كانت أمه تلملم أوراقها استعداداً للانتقال مائة متر تقريبا، تفصل بين بيتها ومقر عملها؛ حتى تعيش عشرين عاماً أخرى بعد بلوغها سن المعاش.
أورثته ملامح بلون الحنطة المحببة، كما أورثته مكانها فى نفس المؤسسة، الفارق الوحيد، بيننا الآن ـ أنا وهو ـ أن ساعات دوامى تبدأ فى الصباح الباكر، وعندما أوقع فى دفتر الإنصراف، يحضر هو وقت آذان الظهر؛ ليوقع فى خانة الحضور، للعمل فى الفترة المسائية..هيئة جديدة بدفتر جديد، كنا نتقابل فى الوقت الفاصل بين الوقتين.
يتولى هو نقل المكاتبات، بين مدرسته وبين الادارة.
وفى الاجازة تتجمع الهيئتان، فى وقت دوام واحد، بعدما يكون الطلاب والطالبات قد إرتاحوا من أيام الدراسة، وفرغوا من الامتحانات، وحلت إجازاتهم الصيفية..لنا مكاتبنا ولهم مكاتبهم، نعرف بعضنا بعضا.. نتجاذب أطراف الحديث.. وقت الحضور والمغادرة.
أنا و"أيمن" تعرفنا لأول مرة حين نادتنى أمه أبلة(عزيزة) ومنحتنى كوبا من الشاى الساخن، لتخرجنى من عزلتى، كموظف جديد معهم.
فى اليوم التالى كررت النداء، وطلبت منى الجلوس، كنا فى حجرة صديقتها ـ المرحومة أيضا ـ أبلة الموسيقى .. كانتا رفيقتين، لا تتوقفان عن الثرثرة، وضحكاتهن تلعلع طالعة من حجرة صغيرة للغاية.
سألتنى عن شيخ يعرف التعامل مع شخص (ملبوس).. واضحة وضوح الشمس، تدخل لأى موضوع كالسهم.. بابتسامة وخفة ظل، ثم تقوم بتحويل الموضوع إلى قفشة لذيذة وقت اللزوم.
قلتً لها محاولا مجاراة طريقتها: ألف سلامة عليك يا أبلة.. لم تضحك هذه المرة،
وأخفت المرحومة حزنا باديا على وجهها، أحسستُ بها تستدعى الكلمات من بئر عميق: ليس لى يا روح خالتك
عاودت السؤال: لمن يا أبلة؟
سألتْ: تعرف.. أم لا؟
قلت: أعرف.
قالت: لابنى.
وكان أيمن هو المعنى بالسؤال بحزنها، ومصدر وجعها.
** **
لأول مرة أدخل أنا و"أيمن" إلى هذا العمق، عيناه تلتمعان، ترفرفان فى فضاء روحه عالمه الدافئ، دافئة اللحظات المشحونة بمرارة الذكريات، تستدعى إنخفاض الصوت، ليصبح همسا رقيقا بين الشجن، والتطهر. لحظات فارقة فى حياة الانسان. يضعف ليبدو من بعيد مثل طفل يتيم.. يبكى ملامحه القديمة.....
"أيمن.. ولد يا أيمن.. تعال.. تعال يا بنى "
همس لى: كان ينادينى
بذات الصوت الرقيق العطوف،
سمعتُ النداء.
تلفت حواليَّ فى تلك المساحات التى احتوتها كثافة الظلام.
حبستُ شوقى، ودموعى، وجراحى العميقة متحاملا على ساقيَّ وسرتُ خطوات قليلة.. ثمة ظلام يتولد عنه سواد غامض.
بالكاد لامستْ قدمى درجة السلم الأولى، ولم أرفع رأسى، صوته ملأ جوانحى، سمعتُ النداء.. ربما يحتاجنى فى حمل شئ عنه،
بعد درجتين أو ثلاث، طالعا حيث مصدر النداء.. عاودنى الوعي.. وتخلى عنى لباس النوم.
أجبتُه: حاضر يا أبى.. حاضر قادم إليك.
عند إكتمال الصحو...
وبعد صفاء ذهنى.
ويقينى،
أيقنتُ أننى خرجتُ من شقتى فى الطابق الأرضى لأصعد ثلاث درجات.
تلبية لنداء أبى الذى رحل منذ عشرين عاما.
** **
الفراق آية المترددين، والغافلين، ومنبع للهم الذى ينساب إلى مسامات أرواحنا المتعبة.
كأنه دمعة حبيسة فى ذواتنا الواقعة فى مرارة الانتظار.
الفراق يا أبى حجة علىَّ لا عليك، طالما صار خيالك بعيدا عن خيالى، وسيرتك لا تلوح إلا بعد عناء؛ وذكراك خيال حلو لا يتأتى إلا أحلام بينها وبينى مساحات زمنية غير قليلة.
عندما تتصلب الذاكرة ولا يرويها ماء الحنين إلا لماما.
** **
وأضاف هامسا، كمن يرسم فى روحى ملامح شفيفة.... منذ تجاوزتُ الخمسين.. صرتُ أخال أشياء لا يخالها غيرى.. مثل رؤيتى لكلب أسود ينبح كل ليلة بعد منتصف الليل، وهو نفسه وقت خلودى إلى النوم.
لا تعيرنى زوجتى أى حق فيما أرى.. بل يفاجئنى صوتها الذى كان ناعما منذ ربع قرن من الزمان.. وغدا نحاسياـ الآن ـ يعكس فى رناته علاقة باتت جوفاء، بلا مبرر.
بيننا ـ أنا وهى ـ بنتان، وسقيفة كانت تجمعنا، الآن بعد رحيل أمى وأبى ؛ وتوزيع الإرث، تمكنت من الفكاك بنفسى إلى حيث شقة الطابق الأرض التى صارت فارغة وصارت ضمن ميراثى، وكما عشت وحيدا فى الصغر، أعود الآن مؤتنسا بظلى، ليس من المستغرب أن تخترق خلوتى، امرأة حصلت على لقب زوجتى فى غفلة منى، واستغلته بأن أنجبت لى بنتين، الكبرى أنهت تعليمها المتوسط، والصغرى فى الجامعة
وبقيت البنت الكبرى فى الشقة برفقة أمها بدون أي عمل، أو عريس.
** **
تراجعتُ للوراء بظهرى نفس الدرجات التى صعدتها، ثم استدرتُ، عائدا نحو باب الشقة الموارب، فى الطابق الأرضى .. وضوء اللمبة السهارى فى الصالة، لم يزل يشيع جو مهيئا للنوم.
.................
"حاول أبى أثناء حياته لملمة أطراف العناد المحتد بينى وبين أمى، وكلما ذهب لنزع ذلك الفتيل، يلاحظ خيوطا أخرى أكثر عمقا وصلابة..يطوى وجهات النظر المتعاكسة على الدوام بينى وبينها، كأنما كانا نقيضين لا يستويان أبدا.
كانت تعرينى أمام أحب الناس لى، لا فرق لديها؛ فتاريخى منذ أيام طفولتى صار مستباحاً منها بلا إستئذان.
كأن سنوات عمرى المنصرمة ـ أنا بالذات ـ غير منضبطة حسب وجهة نظرها التى لا تقبل التشكيك أو النقض والابرام؛ أحفظ خصالها الفريدة فى تعرية المسكوت عنه أمام الغرباء، ترفع الغطاء عما خفى، ويعلمه أبى وبعض من إخوتى، ما ذنبى لتقوم بفضحى فى أى أمر، أمام الغرباء؟!!
الافتضاح سمة جوهرية فى تأطير الآخر عندها، والضغط عليه باستمرار، وحجم الضغط يتحدد حسب نوع الخطأ ومدى تأثيره، وأنا لا أنكر أن أخطائى كانت تنفلت رغما عنى، كمصاب بعسر فى الهضم أو(اضطرابات القولون)، يجئ التجشؤ فى غير أوقاته.. تلك التجاوزات الآدمية جدا، غير متعمدة.. خارجة عن سيطرتى، كأن جسدى ومدخلاته، ومخرجاته تخص إنسانا غيرى. ولأننى تعرفتُ على سمات جسدى، وتجاوزت نفسى أمام الضيوف، أو إخوتى.. كانت هى من ثم تعرينى فاضحة تلك السمات الباعثة على الخجل.
أو تقول بدون داعى، معبرة عن مقتها فى كل الأوقات: يا رب تخف من متاعب القولون والمعدة والعفاريت التى ركبتك.. حتى لا تنتقل العدوى إلى إخوتك.
فى شهور زواجى الأولى حاصرتنى أنا وزوجتى مخاوف مبعثها سماعنا لأصوات تمرح عابثة بجسدى، وزوجتى لما زاد قلقها منى، اشتكت لخالتها التى هى (أمى)، وحماتها فى نفس الوقت.. اشتكت مما تسمع فى الليل، وأنها تفيق علىَّ وأنا أتحدث مع أناس غير موجودين فى الحجرة، وأن (جتتها) صارت غير خالصة.
أذكر أنها حكت لغالبية من تعرفهم بغية الوصول لمعالج شعبى، لا يكون دجالا أو نصابا.
وكان أبى ـ رحمه الله ـ يستقبل الدجالين والنصابين مرحبا بهم، وهو الانسان المهذب للغاية، يؤمهم فى الصلاة، ويغدق عليهم بالمال، والهدايا، و ـ هى ـ أمى يتوقف دورها على البحث، وعلى تعريتى والسخط منى وعلى الزمن الذى ابتلاها بى.
كل ما بدر من أمى بعد ذلك يقع ضمن مفهوم بسيط، لا يقبل التشكيك، أننى وأمى مثل القضيبين المتشابهين.
والمعادلة العلمية تقول إن (القطبان المتشابهان يتنافران) والنفور جمعنى بأمى منذ الصغر.
أحبها لا أنكر، ولا أرغب ـ فى نفس الوقت ـ الجلوس معها فى مكان واحد لدقائق" .
** **
سألته بشكل مباشر: كأنك تكرهها يا صاحبى.
هز رأسه نافيا.
ثم أردف، ربما هى كانت تكرهنى.
تلك المرة أشرتُ بيدى نافيا تصورات "أيمن" عن أمه .. كيف تكرهك وأنا لمست روحها المحبطة التى تهاوت ابتسامتها يوم سألتنى عن شيخ لك، أيام موضوع تعبك القديم.
اقترب منى أكثر، وهمس: أنت فاهم غلط يا صاحبى.
والشيخ الذى جئت به كان دجالا.
سألته : كيف؟
قال : لأنك لم تتابع الموضوع.
قلتُ: بعد تلبيتى لطلب المرحومة والدتك، لم أتابع فعلا.
قال موضحا الأمر.. اتضح لهم طبياً أننى أعانى مرضا عضويا .. ثم تجمعت جبال الأسى رويدا رويدا،
واقترب منى ، هو يسر لى بهمس واهن:
"أنا أعانى من نوبات صرع يا صديقى."
تمنيت له السلامة.
كانت عينى ساقطة فى قعر عينيه، والأحزان ترفرف بجناحيها كملائكة الرحمة، فى آخر الزمان.
وهو يناشدنى أن
نتجاوز قنطرة اللهفة، ونعبر باتجاه تحرقنا للسهر فى صحبة دافئة، شاردا مع الرفاق، شاردا بين إخوتى، حتى مع أبنائى يتغشانى الشرود.
وأفضلُ العزلة.
وقال لى كمن يفضى بآخر تصوراته، ليؤكد صدق رؤيته للمواضيع الشائكة.. "بعدما صارت امرأتى بدينة، وملامحها تشبه ملامح أمى إلى حد بعيد.. لم أعد أرغب فيها، وانتحيت جانبا، والآن أعيش فى الدور الأرضى، أحيانا تنزل لى، وتعرينى بفجاجة مثل أمى أمام الضيوف، وأمام بناتى.. حاجة تقرف.
سألته: لماذا تنعزل عنها.. نبه زوجتك لتتراجع عن تقليد خالتها.
قال: يا حبى إنه ليس تقليدا، أقول لك صارت سحنتها نفس سحنة وملامح أمى، حتى أنها استخرجت هدوم أمى الفضفاضة، صارت مناسبة جدا لها.
إبتسمتُ دون تعليق.
قال: أعلم أنك تظن بى الظنون، لكن والله لو رأيتها لشعرت أن أبلتك عزيزة رجعت تانى.
قلتُ مبتسما: وماله أمك
أشاح بيده عنى، ونهض بعدما دق الجرس، وكان علىَّ الانصراف، وعليه البقاء معها.
• من مجموعة قصص (هذا مقعدك) ـ الصادرة عن مطبوعات اتحاد كتاب مصر ـ 2022م
تقاطيع وجهه، تفرض باستمرار حضور أمه لمخيلتى، كأن روحها (معششة) فى المكان.. الشبه بينهما كبير.
كانت المرحومة بمثابة (أم) لى، قبل ثلاثين عاما وفى بداية شمس أيامى فى الوظيفة، هنا فى تلك المؤسسة، كانت أمه تلملم أوراقها استعداداً للانتقال مائة متر تقريبا، تفصل بين بيتها ومقر عملها؛ حتى تعيش عشرين عاماً أخرى بعد بلوغها سن المعاش.
أورثته ملامح بلون الحنطة المحببة، كما أورثته مكانها فى نفس المؤسسة، الفارق الوحيد، بيننا الآن ـ أنا وهو ـ أن ساعات دوامى تبدأ فى الصباح الباكر، وعندما أوقع فى دفتر الإنصراف، يحضر هو وقت آذان الظهر؛ ليوقع فى خانة الحضور، للعمل فى الفترة المسائية..هيئة جديدة بدفتر جديد، كنا نتقابل فى الوقت الفاصل بين الوقتين.
يتولى هو نقل المكاتبات، بين مدرسته وبين الادارة.
وفى الاجازة تتجمع الهيئتان، فى وقت دوام واحد، بعدما يكون الطلاب والطالبات قد إرتاحوا من أيام الدراسة، وفرغوا من الامتحانات، وحلت إجازاتهم الصيفية..لنا مكاتبنا ولهم مكاتبهم، نعرف بعضنا بعضا.. نتجاذب أطراف الحديث.. وقت الحضور والمغادرة.
أنا و"أيمن" تعرفنا لأول مرة حين نادتنى أمه أبلة(عزيزة) ومنحتنى كوبا من الشاى الساخن، لتخرجنى من عزلتى، كموظف جديد معهم.
فى اليوم التالى كررت النداء، وطلبت منى الجلوس، كنا فى حجرة صديقتها ـ المرحومة أيضا ـ أبلة الموسيقى .. كانتا رفيقتين، لا تتوقفان عن الثرثرة، وضحكاتهن تلعلع طالعة من حجرة صغيرة للغاية.
سألتنى عن شيخ يعرف التعامل مع شخص (ملبوس).. واضحة وضوح الشمس، تدخل لأى موضوع كالسهم.. بابتسامة وخفة ظل، ثم تقوم بتحويل الموضوع إلى قفشة لذيذة وقت اللزوم.
قلتً لها محاولا مجاراة طريقتها: ألف سلامة عليك يا أبلة.. لم تضحك هذه المرة،
وأخفت المرحومة حزنا باديا على وجهها، أحسستُ بها تستدعى الكلمات من بئر عميق: ليس لى يا روح خالتك
عاودت السؤال: لمن يا أبلة؟
سألتْ: تعرف.. أم لا؟
قلت: أعرف.
قالت: لابنى.
وكان أيمن هو المعنى بالسؤال بحزنها، ومصدر وجعها.
** **
لأول مرة أدخل أنا و"أيمن" إلى هذا العمق، عيناه تلتمعان، ترفرفان فى فضاء روحه عالمه الدافئ، دافئة اللحظات المشحونة بمرارة الذكريات، تستدعى إنخفاض الصوت، ليصبح همسا رقيقا بين الشجن، والتطهر. لحظات فارقة فى حياة الانسان. يضعف ليبدو من بعيد مثل طفل يتيم.. يبكى ملامحه القديمة.....
"أيمن.. ولد يا أيمن.. تعال.. تعال يا بنى "
همس لى: كان ينادينى
بذات الصوت الرقيق العطوف،
سمعتُ النداء.
تلفت حواليَّ فى تلك المساحات التى احتوتها كثافة الظلام.
حبستُ شوقى، ودموعى، وجراحى العميقة متحاملا على ساقيَّ وسرتُ خطوات قليلة.. ثمة ظلام يتولد عنه سواد غامض.
بالكاد لامستْ قدمى درجة السلم الأولى، ولم أرفع رأسى، صوته ملأ جوانحى، سمعتُ النداء.. ربما يحتاجنى فى حمل شئ عنه،
بعد درجتين أو ثلاث، طالعا حيث مصدر النداء.. عاودنى الوعي.. وتخلى عنى لباس النوم.
أجبتُه: حاضر يا أبى.. حاضر قادم إليك.
عند إكتمال الصحو...
وبعد صفاء ذهنى.
ويقينى،
أيقنتُ أننى خرجتُ من شقتى فى الطابق الأرضى لأصعد ثلاث درجات.
تلبية لنداء أبى الذى رحل منذ عشرين عاما.
** **
الفراق آية المترددين، والغافلين، ومنبع للهم الذى ينساب إلى مسامات أرواحنا المتعبة.
كأنه دمعة حبيسة فى ذواتنا الواقعة فى مرارة الانتظار.
الفراق يا أبى حجة علىَّ لا عليك، طالما صار خيالك بعيدا عن خيالى، وسيرتك لا تلوح إلا بعد عناء؛ وذكراك خيال حلو لا يتأتى إلا أحلام بينها وبينى مساحات زمنية غير قليلة.
عندما تتصلب الذاكرة ولا يرويها ماء الحنين إلا لماما.
** **
وأضاف هامسا، كمن يرسم فى روحى ملامح شفيفة.... منذ تجاوزتُ الخمسين.. صرتُ أخال أشياء لا يخالها غيرى.. مثل رؤيتى لكلب أسود ينبح كل ليلة بعد منتصف الليل، وهو نفسه وقت خلودى إلى النوم.
لا تعيرنى زوجتى أى حق فيما أرى.. بل يفاجئنى صوتها الذى كان ناعما منذ ربع قرن من الزمان.. وغدا نحاسياـ الآن ـ يعكس فى رناته علاقة باتت جوفاء، بلا مبرر.
بيننا ـ أنا وهى ـ بنتان، وسقيفة كانت تجمعنا، الآن بعد رحيل أمى وأبى ؛ وتوزيع الإرث، تمكنت من الفكاك بنفسى إلى حيث شقة الطابق الأرض التى صارت فارغة وصارت ضمن ميراثى، وكما عشت وحيدا فى الصغر، أعود الآن مؤتنسا بظلى، ليس من المستغرب أن تخترق خلوتى، امرأة حصلت على لقب زوجتى فى غفلة منى، واستغلته بأن أنجبت لى بنتين، الكبرى أنهت تعليمها المتوسط، والصغرى فى الجامعة
وبقيت البنت الكبرى فى الشقة برفقة أمها بدون أي عمل، أو عريس.
** **
تراجعتُ للوراء بظهرى نفس الدرجات التى صعدتها، ثم استدرتُ، عائدا نحو باب الشقة الموارب، فى الطابق الأرضى .. وضوء اللمبة السهارى فى الصالة، لم يزل يشيع جو مهيئا للنوم.
.................
"حاول أبى أثناء حياته لملمة أطراف العناد المحتد بينى وبين أمى، وكلما ذهب لنزع ذلك الفتيل، يلاحظ خيوطا أخرى أكثر عمقا وصلابة..يطوى وجهات النظر المتعاكسة على الدوام بينى وبينها، كأنما كانا نقيضين لا يستويان أبدا.
كانت تعرينى أمام أحب الناس لى، لا فرق لديها؛ فتاريخى منذ أيام طفولتى صار مستباحاً منها بلا إستئذان.
كأن سنوات عمرى المنصرمة ـ أنا بالذات ـ غير منضبطة حسب وجهة نظرها التى لا تقبل التشكيك أو النقض والابرام؛ أحفظ خصالها الفريدة فى تعرية المسكوت عنه أمام الغرباء، ترفع الغطاء عما خفى، ويعلمه أبى وبعض من إخوتى، ما ذنبى لتقوم بفضحى فى أى أمر، أمام الغرباء؟!!
الافتضاح سمة جوهرية فى تأطير الآخر عندها، والضغط عليه باستمرار، وحجم الضغط يتحدد حسب نوع الخطأ ومدى تأثيره، وأنا لا أنكر أن أخطائى كانت تنفلت رغما عنى، كمصاب بعسر فى الهضم أو(اضطرابات القولون)، يجئ التجشؤ فى غير أوقاته.. تلك التجاوزات الآدمية جدا، غير متعمدة.. خارجة عن سيطرتى، كأن جسدى ومدخلاته، ومخرجاته تخص إنسانا غيرى. ولأننى تعرفتُ على سمات جسدى، وتجاوزت نفسى أمام الضيوف، أو إخوتى.. كانت هى من ثم تعرينى فاضحة تلك السمات الباعثة على الخجل.
أو تقول بدون داعى، معبرة عن مقتها فى كل الأوقات: يا رب تخف من متاعب القولون والمعدة والعفاريت التى ركبتك.. حتى لا تنتقل العدوى إلى إخوتك.
فى شهور زواجى الأولى حاصرتنى أنا وزوجتى مخاوف مبعثها سماعنا لأصوات تمرح عابثة بجسدى، وزوجتى لما زاد قلقها منى، اشتكت لخالتها التى هى (أمى)، وحماتها فى نفس الوقت.. اشتكت مما تسمع فى الليل، وأنها تفيق علىَّ وأنا أتحدث مع أناس غير موجودين فى الحجرة، وأن (جتتها) صارت غير خالصة.
أذكر أنها حكت لغالبية من تعرفهم بغية الوصول لمعالج شعبى، لا يكون دجالا أو نصابا.
وكان أبى ـ رحمه الله ـ يستقبل الدجالين والنصابين مرحبا بهم، وهو الانسان المهذب للغاية، يؤمهم فى الصلاة، ويغدق عليهم بالمال، والهدايا، و ـ هى ـ أمى يتوقف دورها على البحث، وعلى تعريتى والسخط منى وعلى الزمن الذى ابتلاها بى.
كل ما بدر من أمى بعد ذلك يقع ضمن مفهوم بسيط، لا يقبل التشكيك، أننى وأمى مثل القضيبين المتشابهين.
والمعادلة العلمية تقول إن (القطبان المتشابهان يتنافران) والنفور جمعنى بأمى منذ الصغر.
أحبها لا أنكر، ولا أرغب ـ فى نفس الوقت ـ الجلوس معها فى مكان واحد لدقائق" .
** **
سألته بشكل مباشر: كأنك تكرهها يا صاحبى.
هز رأسه نافيا.
ثم أردف، ربما هى كانت تكرهنى.
تلك المرة أشرتُ بيدى نافيا تصورات "أيمن" عن أمه .. كيف تكرهك وأنا لمست روحها المحبطة التى تهاوت ابتسامتها يوم سألتنى عن شيخ لك، أيام موضوع تعبك القديم.
اقترب منى أكثر، وهمس: أنت فاهم غلط يا صاحبى.
والشيخ الذى جئت به كان دجالا.
سألته : كيف؟
قال : لأنك لم تتابع الموضوع.
قلتُ: بعد تلبيتى لطلب المرحومة والدتك، لم أتابع فعلا.
قال موضحا الأمر.. اتضح لهم طبياً أننى أعانى مرضا عضويا .. ثم تجمعت جبال الأسى رويدا رويدا،
واقترب منى ، هو يسر لى بهمس واهن:
"أنا أعانى من نوبات صرع يا صديقى."
تمنيت له السلامة.
كانت عينى ساقطة فى قعر عينيه، والأحزان ترفرف بجناحيها كملائكة الرحمة، فى آخر الزمان.
وهو يناشدنى أن
نتجاوز قنطرة اللهفة، ونعبر باتجاه تحرقنا للسهر فى صحبة دافئة، شاردا مع الرفاق، شاردا بين إخوتى، حتى مع أبنائى يتغشانى الشرود.
وأفضلُ العزلة.
وقال لى كمن يفضى بآخر تصوراته، ليؤكد صدق رؤيته للمواضيع الشائكة.. "بعدما صارت امرأتى بدينة، وملامحها تشبه ملامح أمى إلى حد بعيد.. لم أعد أرغب فيها، وانتحيت جانبا، والآن أعيش فى الدور الأرضى، أحيانا تنزل لى، وتعرينى بفجاجة مثل أمى أمام الضيوف، وأمام بناتى.. حاجة تقرف.
سألته: لماذا تنعزل عنها.. نبه زوجتك لتتراجع عن تقليد خالتها.
قال: يا حبى إنه ليس تقليدا، أقول لك صارت سحنتها نفس سحنة وملامح أمى، حتى أنها استخرجت هدوم أمى الفضفاضة، صارت مناسبة جدا لها.
إبتسمتُ دون تعليق.
قال: أعلم أنك تظن بى الظنون، لكن والله لو رأيتها لشعرت أن أبلتك عزيزة رجعت تانى.
قلتُ مبتسما: وماله أمك
أشاح بيده عنى، ونهض بعدما دق الجرس، وكان علىَّ الانصراف، وعليه البقاء معها.
• من مجموعة قصص (هذا مقعدك) ـ الصادرة عن مطبوعات اتحاد كتاب مصر ـ 2022م