[HEADING=3]عام 1991، تزوجت امرأة أحبها من الناصرية. كان الناس في طفولتها يسمونها بنت الشهيد، رغم إن والدها كان عنصراً في الاستخبارات قتل سنة 1979على يد الثوار الأكراد في شمال الوطن. كنا نعيش تلك الفترة في منطقة الهارثة، في حيٍّ يشكل المتقاعدين من نواب ضباط الجيش العراقي غالبية سكانه. ولم تحتمل عروسي السومرية هواء البصرة الشرقي ورطوبته وملوحة ماء المدينة وحر صيفها الكافر، فأخذت تذبل أمامي يوماً بعد يوم وأنا أشاهد وجهها الرقيق يحترق ويتقشر كلما لفحته الشمس. كانت تطالبني بالإنصات إليها، وهي تتحدث عن فكرة انتقالنا إلى بيت أهلها، لنؤسس هناك أسرة يكون الأولاد والبنات فيها أطباءً ومهندسين.[/HEADING]
كنت مأخوذاً تلك الأيام بصنعة الكتابة، فقد أبهرتني قصص محمد خضير وعوالمها الساحرة. ولم يكن يعوزني سوى امتلاك أدوات هذه الصنعة، فقد كنت مدججاً منذ الطفولة بقراءاتٍ ثرية وفرتها لي مكتبة منزل عمٍّ لي كان يتطلع لامتلاك لقب المثقف. لذا رحت أصاحب القراء والشعراء والأدباء الشباب. وكان ممن عرفت شاعرين لم يفلحا مثلي طوال حياتهما في إصدار أي كتاب، هما الشاعر أدهم حسين من الجمهورية، وعباس عبار من الأبلّة. كانا يأخذاني معهما كلما نزلا العشّار، فيصعدان بي سلّماً حجريّاً يرتفع عدة درجات عن شارع الكويت، ليفضي بنا إلى مقهى صلاح ــ ملتقىً الأدباء والمثقفين آنذاك.
هناك التقيت لأول مرة بالقاص العراقي الكبير الأستاذ قصي الخفاجي. حدثته عن المملكة السوداء وعرائس البحر والنمور في اليوم العاشر، وحدثني هو عن خالد كتاب وحاتم العقيلي وبار علي بابا في شارع الوطن. عرضت عليه محاولات في كتابة القصة القصيرة، فاختار إحداها لتكون ضمن النصوص التي أصدرتها جماعة أدبية كان يدعو لها اسماها جماعة البصرة أواخر القرن العشرين. عندها وجدت أسمي يتوسط أسماءً مهمة في المشهد القصصي العراقي، أمثال قصي الخفاجي نفسه، وكاظم الحلاق وكريم عباس زامل ومحمد عبد حسن. وضمنت لنفسي كذلك حضوراً مبكراً مع بقية الأسماء المبدعة الأخرى التي شكلت أساس هذا المشروع الريادي في أدب الاستنساخ، أمثال القاص لؤي حمزة عباس، وجابر خليفة جابر، وكامل فرعون، ووحيد غانم وآخرين.
لم أسهم بغير ذلك العدد من اصدارات الجماعة، فقد لحقت بزوجتي إلى بيت أهلها في الناصرية. صارت البصرة بعيدة، وكان الحصار يطبق شدقيه تلك السنين على معايش الناس، فانشغلت عن الكتابة بالبحث عن فرصة عمل أعيل بها أسرتي الصغيرة، لكنني لم أتوقف عن القراءة كلما وقع بين يديّ كتاب. وكانت أخبار جماعة البصرة أواخر القرن العشرين تصلني مع الناس الذين كانوا يمرون بمقهى صلاح، ولم تكن الأخبار تسر بعد تعرض بعض أعضاء الجماعة للاعتقال من قبل أمن السلطة.
كان الطموح عندما كتبت قصة عين الذبابة التي نشرت في العدد الرابع من اصدارات الجماعة، أن أكتب قصصاً أخرى تصلح أن تكون نشيداً للمقهورين وللثورة، لكن مع تقدم العمر، تضاءلت تلك الأحلام، صرت أكتفي بكتابة قصصٍ تحرض على الحياة، معتمدةً التفاصيل الصغيرة ليوميات الإنسان المهمش، ولها في النفس تأثير الأجراس المعلقة حول رقاب صغار الحملان التائهة في السهوب.
عندما جاءتني دعوة اتحاد أدباء البصرة لحضور فعاليات ملتقى القصة القصيرة، وافقت لأحسم أمري، فإما أن أترك فكرة كتابة القصص نهائيّاً والاكتفاء بالعيش إلى جوار زوجتي السومرية الرقيقة، دافئاً مطمئناً منصتاً لأحاديثها المدهشة، أو أمضي قُدُماً لألحق أدهم حسين وعباس عبار لمرة أخيرة، وأصعد برفقتهما السلم القديم في شارع الكويت، وأغيب معهما داخل مقهى صلاح الذي تنفذ عبر واجهته الزجاجية خلال هذا الوقت من النهار شرائح من ضياء الشمس لا تخلف ظلالاً عند سقوطها على رواد المقهى الساكنين في أماكنهم منذ سنين، وليس لمجموعة الأباريق المستقرة على النار أبخرة تتصاعد منها، وصحن قدح الشاي لم يترك أثراً دائريّاً على الطاولة التي أنحني عليها، لأجري تعديلاً أخيراً على مجموعة القصص التي أود إصدارها في كتاب أسميته قرآن فاطمة، مكتوب على صفحته الأولى توطئة تقول:
" نزلت هذه النصوص في خمسة ميل ، وأنا رأيت الأجنحة التي أنزلتها".
كنت مأخوذاً تلك الأيام بصنعة الكتابة، فقد أبهرتني قصص محمد خضير وعوالمها الساحرة. ولم يكن يعوزني سوى امتلاك أدوات هذه الصنعة، فقد كنت مدججاً منذ الطفولة بقراءاتٍ ثرية وفرتها لي مكتبة منزل عمٍّ لي كان يتطلع لامتلاك لقب المثقف. لذا رحت أصاحب القراء والشعراء والأدباء الشباب. وكان ممن عرفت شاعرين لم يفلحا مثلي طوال حياتهما في إصدار أي كتاب، هما الشاعر أدهم حسين من الجمهورية، وعباس عبار من الأبلّة. كانا يأخذاني معهما كلما نزلا العشّار، فيصعدان بي سلّماً حجريّاً يرتفع عدة درجات عن شارع الكويت، ليفضي بنا إلى مقهى صلاح ــ ملتقىً الأدباء والمثقفين آنذاك.
هناك التقيت لأول مرة بالقاص العراقي الكبير الأستاذ قصي الخفاجي. حدثته عن المملكة السوداء وعرائس البحر والنمور في اليوم العاشر، وحدثني هو عن خالد كتاب وحاتم العقيلي وبار علي بابا في شارع الوطن. عرضت عليه محاولات في كتابة القصة القصيرة، فاختار إحداها لتكون ضمن النصوص التي أصدرتها جماعة أدبية كان يدعو لها اسماها جماعة البصرة أواخر القرن العشرين. عندها وجدت أسمي يتوسط أسماءً مهمة في المشهد القصصي العراقي، أمثال قصي الخفاجي نفسه، وكاظم الحلاق وكريم عباس زامل ومحمد عبد حسن. وضمنت لنفسي كذلك حضوراً مبكراً مع بقية الأسماء المبدعة الأخرى التي شكلت أساس هذا المشروع الريادي في أدب الاستنساخ، أمثال القاص لؤي حمزة عباس، وجابر خليفة جابر، وكامل فرعون، ووحيد غانم وآخرين.
لم أسهم بغير ذلك العدد من اصدارات الجماعة، فقد لحقت بزوجتي إلى بيت أهلها في الناصرية. صارت البصرة بعيدة، وكان الحصار يطبق شدقيه تلك السنين على معايش الناس، فانشغلت عن الكتابة بالبحث عن فرصة عمل أعيل بها أسرتي الصغيرة، لكنني لم أتوقف عن القراءة كلما وقع بين يديّ كتاب. وكانت أخبار جماعة البصرة أواخر القرن العشرين تصلني مع الناس الذين كانوا يمرون بمقهى صلاح، ولم تكن الأخبار تسر بعد تعرض بعض أعضاء الجماعة للاعتقال من قبل أمن السلطة.
كان الطموح عندما كتبت قصة عين الذبابة التي نشرت في العدد الرابع من اصدارات الجماعة، أن أكتب قصصاً أخرى تصلح أن تكون نشيداً للمقهورين وللثورة، لكن مع تقدم العمر، تضاءلت تلك الأحلام، صرت أكتفي بكتابة قصصٍ تحرض على الحياة، معتمدةً التفاصيل الصغيرة ليوميات الإنسان المهمش، ولها في النفس تأثير الأجراس المعلقة حول رقاب صغار الحملان التائهة في السهوب.
عندما جاءتني دعوة اتحاد أدباء البصرة لحضور فعاليات ملتقى القصة القصيرة، وافقت لأحسم أمري، فإما أن أترك فكرة كتابة القصص نهائيّاً والاكتفاء بالعيش إلى جوار زوجتي السومرية الرقيقة، دافئاً مطمئناً منصتاً لأحاديثها المدهشة، أو أمضي قُدُماً لألحق أدهم حسين وعباس عبار لمرة أخيرة، وأصعد برفقتهما السلم القديم في شارع الكويت، وأغيب معهما داخل مقهى صلاح الذي تنفذ عبر واجهته الزجاجية خلال هذا الوقت من النهار شرائح من ضياء الشمس لا تخلف ظلالاً عند سقوطها على رواد المقهى الساكنين في أماكنهم منذ سنين، وليس لمجموعة الأباريق المستقرة على النار أبخرة تتصاعد منها، وصحن قدح الشاي لم يترك أثراً دائريّاً على الطاولة التي أنحني عليها، لأجري تعديلاً أخيراً على مجموعة القصص التي أود إصدارها في كتاب أسميته قرآن فاطمة، مكتوب على صفحته الأولى توطئة تقول:
" نزلت هذه النصوص في خمسة ميل ، وأنا رأيت الأجنحة التي أنزلتها".