منذ صغره أراد أن يصبح عورة إتكاء علي تلك الرغبة التي ابتلعت طفولته وتماسك أهل بيته وأماكن حساسة في جسد العادات والتقاليد ، وقراءات الحفظ والتجويد في خلوة الفقيه ” داود اقرع ، انفلت الصبي كحل عينيه بكحل الروغان ، تعلم (السفه) والبصاق وخنفسة الشعر بأمشاط الخشب والحديد وطد علاقته بالهرجلة والجردان والبحث عن عظام العصعص في طبيخ (الكمونية) في الوقت الذي كان فيه الصبيان دافئين ودلوعين ويشدون قرصات الدلال شداً إلي خدودهم .
في البداية نوه الفقيه ود أقرع إلي رفقاء السوء ثم إلي البرامج الإذاعية ، ثم إلي غابات النهم الواقعة خلف البلدة ،والتي تتمرغ فيها الشقاوة وألعاب الكرة ، وصيد الزرازير الحزينة .. وفي النهاية قال :
– الضرب في الميت حرام .
– وسكت
– وفي أحدي السنوات وصل إلي البلدة مع الصباح الباكر مثل معسول يقرر أن الشينة منكورة تقبلته البلدة بصدر رحب ، عممته علي البيوت والشوارع والأزقة وبدأ الناس ينكرون ( شيناهم ) بشدة حتي تكومت الشينات بلا أهل ولا أولياء عربدت الخمور بلا سكاري والصعلكة بلا صعاليك وسرقات الليل بلا لصوص وأكلت أموال اليتامي بلا أسنان .
ضرب عبدالوهاب أب غرة علي صدره ذي العظام اللينة في ذلك الحين :
– كلها شيناتي .
– وهجم علي المثل ومزق جسده .
– كانت أمه مغتاظة وغير مصدقة أنتجته بنفس الخطوات التي أنتجت بها أخوانه من قبل دوخان الصباح وتورم الساقين وكراهية الحرجل والدوم وطيور القطاء والشعور الأهوج بدنو الأجل كلما داهم الطلق امرأة في البلدة تركت عافيتها تتأرجح ولسانها يتمرغ في المذاق المر ، ومشاغلها البيتية تذهب إلي الجحيم وبدأت تنقب البلدة بحثاً عن عمل معمول أو طلسم مطلسم أو شيطان أعور حرضته الغيرة وموله الحسد ، ولم تقصر البلدة كانت تؤازر تنقيبها بشدة وتمده بالأعمال والطلاسم والشياطين العور باستمرار حتي ضج بيتها بجلود التيوس وخصلات الشعر ، والصفق المكسر ، وخلاصات الأجنة أيضاً ،وتحول بمرور الأيام إلي سلة همجية للمهملات .
– سألوه ذات يوم …
– متي تجعل أمك تمشط شعرها وتكحل عينيها وتنام الضحي والقيلولة مثل سائر النساء ؟
– ضحك ضحكة طاعنة في الخبث حسده عليها الكثيرون ..
– حتي يجعلها أبي تفعل ذلك ..
سمعه أبوه الذي كان مبعثراً في عرسه الثاني في إحدي القري المجاورة أخبره الفنانون وهم يحملون فتنة يومية كانت تمنح وتبهر وتطبخ علي نار مسعورة ويطاف بما في القري والأرياف لتوزع علي مستهلكيها من وسط بعثرة العرس لملموه .
– يا ود أب غرة … يا ود أب غرة .
مزق عمامة العرس (الكحرب ) ترنم بأغنية سكرانة وطوق ماشطات الشعر والمغنيات بأضعاف ما كان يطوقهن به العمد والمشايخ كانت حناؤه لينة حين عاد أبوته ساخنة ومتهيجة قبل أبنه وضع في جيبه جنيها ، في قدميه صندلاً جديداً وفي شفته السفلي ، سفه دارفورية وذهب .
تلك الليلة حلف الرجال طلاقاً علي التومة بنت المبارك ألا تنفعل سلفوها نساءهم ولياليهم للتهدئة رصوا علي حجرها المنتفض عيالها الآخرين وعيالهم الخجولين لإعادة الثقة إلي أمومتها أتتها عدة ضرات تصاحبن فجأة وجلسن عندها رزينات وغضب أحد المخلصين فتزوج في الليلة نفسها بثانية ، وجاء بزوجتيه أنيقتين ووديعتين تحتضن إحداهما الأخري .
وعندما هدأت في النهية كانت البلدة قد سيطت وانقلبت وتوعكت ومشت في إرثها عادات ما كانت تجرؤ علي المشي من قبل .
وكانت أكثر الأيام تحدياً لأمومتها ، تلك التي أعقبت دخول موضة المثل الأعلي إلي البلدة بعد أن فجرت أهواماًَ في العاصمة والمدن ، وحملتها الطرق المعبدة والوعرة إلي الريف .
كانت قد سألت من العالم علي البلاد عبر مواسير الصداقة والحقائب الدبلوماسية والجهود المبذولة لتحسين الوضع فجأة أصبحت ابتسامة تشرشل مثلاً أعلي لابتسامة رئيس الوزراء ومشدات ثدي إميلدا مثلاً أعلي لمشدات ثدي القرينات والعقيلات والدماء التي شهقت في شوارع منروفيا مثلاً أعلي للدماء التي سوف تشهق في شوارع العاصمة حتي مقابر البكري وحمد النيل والحزام الاخضر ، وجدت مثلاً أعلي في مقابر سيبريا وميدان أبي جرير الأعرج في وسط العاصمة تضرج أحمراراً عندما اتخذ مثلاً أعلي ميدان روسيا الشهير .
في الضجة والسكون في غياب القمر وحضوره بمناسبة وغير مناسبة بتراث منتزع من تراث البلدة وشخصيات منتقاه من طيشها واتزانها وسترها وعوراتها كان الصبية يتصايحون ..
– مثلي الأعلي الفقيه داؤد ..
– مثلي الأعلي الحسن ود زينب أفضل خياط في البلد .
– مثلي الأعلي العمدة ضو البيت أبو عيون مثل الصقر .
– مثلي الأعلي المرضي ود عقارب المرشح رمز الفأس . والصبيات أيضاً ..
– مثلي الأعلي جدتي زنوبة وكريمات الروماتيزم التي تلمع جلدها .
– مثلي الأعلي المعلمة كوثر أريد أن أصرخ مثلها يا بنات صه ..
– مثلي الأعلي وهيبة الحلبية بائعة الصيني الألمونيوم . والفساتين أيضاً .
– مثلي الا‘لي فساتين العرس .
– مثلي الأعلي فساتين السهرة .
– مثلي الأعلي فساتين الجورسيه .
فجأة ترنحمثله الأعلي في وسط التراث فارداً عضلاته ليجعل من الموضة الفاخرة موسماً خصباً لصراع الصراعات وخروج الضغائن إلي الطرق وحرب كلامية نشبت بين قبيلته السروراب وقبيل الكتراب التي كانت تنازعها علي متر من الأرض وجاءت حكومات ما بعد الاستقلال لتلون النزاع وتضفي عليه مسحة وطنية وتجعل المتر المسكين سنة للسروراب وسنة للكتراب وسنة للصالح العام .
– مثلي الأعلي كلب الحر .
بحثوا عن كلب الحر في حاضر البلدة فلم يجدوه .
بحثوا عنه في الماضي القريب والبعيد في غناء الجدات وبطولات الجهادية ، ومجاعة سنة سنة والأمراء الذين رفعهم المهدي وكتف بهم البلاد إلي جذع مهديته كانوا ، موقنين أن مثلاً أعلي لـ ” عبدالوهاب أب غرة ” لابد أن يكون مثلاً خارقاً وغير مألوف سألوه مراراً لكنه تصلد حتي كان صمته يضربهم بلا رحمة .
وكان ذلك اليوم الخشن في تاريخ البلدة عندما قالت الذاكرة المخرفة لعجوز من الكتراب أنت كلب الحر منذ مائة وعشرين عاماً والذين سموك في ذلك الوقت كانوا سرورابا وكانوا يقصدون أنفك وعينيك وركبتيك وكلك وذريتك من بعدك .
زحف الخرف العجووز من تحت رداء التملل ، وتقيح الشرايين وعطالة الغدد الصماء ليصبح في جيل الوسط الكترابي ويمسي في جيل الشباب ويبيت معززاً مكرماً في الرضع والأجنة التهبت قبيلة الكتراب مزق كبراؤها عمائمهم احتجاجاً ايقظوا خصومتهم القديمة أطعموها بغضب طازج وجاوا بها شبعانة تتجشأ .
– أعيدوا إلينا المتر بمحصوله وفوائده كل تلك السنوات التي كان فيها لكم .
– المتر سنة لكم وسنة لنا وسنة للصالح العام منذ جاء الأستقلال هل نسيتم ؟
– المتر لنا وحدنا أعيدوا المتر يا سروراب بدأت الألسنة تتقيح والتراب يجهز أجنحته غمزت المدي للمدي والعكاكيز للعكاكيز وأواصر النسب التي لملمها الأستقلال بدأت تتهيأ للبعثرة كان السروراب منهدشين جاءوا بالفتنة التي طبخت في ذلك اليوم كلها ، حللوها طعماً .طعماً ولم يصلوا إلي الطعم الذي تذوقه الكتراب بالتحديد إلي أن قفز الخرف العجوز وواجههم فعرفوا أن الفتنة إنما طبخت في مطبخ مهجور بنيران خابية وملح قديم ذهبوا إلي الصبي صاحب المثل الأعلي الملغم ..
– إذا كنت تعز الله يا ود صبر صرخ أعمامه .
– إذا كنت تعز الله ياود النومة .
صرخ أخواله .
– إذا كنت عز الله يا ود الكلب وود الكلبة .
صرخ الغضب العم والغضب الحال ، والغضب المقرون بصلة الرحم ، وغضب البلدة كلها فيما بعد .. فأبي ..
كان المرضي ود عقارب ، قد أنتهي في ذلك الوقت من تصفيف نظرته وترفيع ممتلكاته وتدريب صوته علي النعاس ويده اليمني علي استقلال موهبتها انتظر حتي هتف منافسه في الانتخابات برمز الشجرة ، فهتف برمز الفأس نكاية فيه تعارك الرمزان في وسط الريف خمسة وأربعين يوماً وفي النهاية بتر فأس المرضي شجرة منافسه وعبر علي أنقاضها إلي مجلس الشعب طلب المرضي من القبيلتين تكتيف الحرب عند حد الشتم حتي يعود زودهما بعدد واف من الألفاظ والشتائم وهاص في المدن والأرياف بحثاً عن المثل الأعلي الغريب كان بحثه مركزاً ودعايها اشتمل علي بعثرة فؤوسه وترطيب الأفواه بالعصاير والآذان بالكلام الطري وفي إحدي نقاط التفتيش المروري في خط الغرب عثر علي ضالته وعاد .
كانالمثل الأعلي هو الماحي البلال سائق اللواري السفرية العجيب والذي كرمته نقابة سائقي اللواري السفرية أخيراً لأنتهاكه وعورة الطرق سنوات طويلة بلا مبالاة ..وصموده الفذ أمام سبعمائة قاطع طريق قطعوا طريقه في إحدي السنوات كان الصبي قد سمع به من أحد المبهورين العابرين بالبلدة ، أخذ أوصافه وحسناته وسيئاته ورقم عربته وبدأ يراسله دون أن يعلم أحد .
عاد المرضي حاملاً البشري وإذنا خاصاً من الماحي البلال لإطلاق لقبه كلب الحر علي صبي بلدتهم فهدأت الحرب أعيد الخرف إلي عجوزه والمتر المسكين إلي تأرجحه رتقت المصاهرة والعمائم الكترابية وألصق بعبد الوهاب أب غرة أول لقب فيسلسلة الألقاب التي ستلحق به فيما بعد ..