د. زياد العوف - من الفوضى الخلّاقة إلى الشرق الأوسط الجديد

بعيداً عن المهاترات والصراعات الجانبية الضّارة بنا جميعاً، ومن أجل رؤية دقيقة وعميقة لمجريات الأحداث الدامية منذ عملية "طوفان الأقصى" (٧/١٠/٢٠٢٤ ) وتداعياتها المأساويّة المؤلمة على غزّة والضفّة الغربية بخاصّة، وعلى لبنان وبلاد الشام والمحيط العربيّ بعامّة..هذه التداعيات التي لن يكون آخرها -بالتأكيد- الهجمات التدميرية الإجرامية على ضاحية بيروت الجنوبية التي أودت بحياة الأمين العام لحزب الله اللبنانيّ وعدد من كبار معاونيه..نقول بعيداً عن التناحر وتبادل الاتّهامات ومن أجل فهم صحيح لكلّ هذه الأحداث، يجب العودة إلى الأسباب الحقيقية البعيدة لها .
تمثّل العناوين الثلاثة التالية- فيما نرى- المؤشّرات الكبرى لهذه الأحداث :
١- أنظمة الحكم العربية .
٢- "إسرائيل" والقضية الفلسطينية.
٣- موقع العالم العربيّ وثرواته النفطية.
منذ ثمانينيات القرن المنصرم بدأ المستشرق البريطانيّ اليهودي برنارد لويس(١٩١٦-٢٠١٨م) أستاذ دراسات الشرق الأوسط في (جامعة برنستون) الأمريكية بالتبشير بنظرية ( الفوضى الخلّاقة) بوصفها الطريقة المُثلى للهيمنة على العالم العربي ونهب ثرواته وتصفية القضية الفلسطينية، وإنّ أبسط تعريف لهذه النظرية هو التالي: خلق حالة من الفوضى السياسية الكبرى لتكوين حالة سياسية جديدة كليّاً. وقد أخذت هذه النظريّة العَقَديّة-السياسيّة طريقها إلى التنفيذ بُعيد أحداث تفجير برجَي التجارة العالمية في نيويورك (١١-٩-٢٠٠١م)؛ حيث بدأ الإعداد لغزو العراق عام (٢٠٠٣م) . ويكفي الإشارة هنا إلى تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية (كونداليزا رايس) بهذا الشأن، وبخاصّة إلى تصريحها الشهير لصحيفة (واشنطن بوست) الأمريكية عام(٢٠٠٥م) إذ رأت فيه أنّ من بين الأسباب الرئيسية لنمو ظاهرة ( الإرهاب) العربي/الإسلامي ضد أمريكا وجود الأنظمة السياسية العربية الديكتاتوريّة في الشرق الأوسط؛ هذه الأنظمة التي تولّد النقمة والكراهية لأمريكا بوصفها المسؤولة -بشكل أو بآخر- عن نشوء هذه الأنظمة واستبدادها بحقّ شعوبها.
إنّ الحلّ الأمثل لهذه المشكلة-حسب رايس- يكمن في نشر الديمقراطية أو فرضها عن طريق " الفوضى الخلّاقة " .
لقد قالت بالحرف الواحد : "أصبحت نظرية الفوضى الخلّاقة أولوية للسياسة الخارجية الأمريكية" .
بعد كلّ ذلك..لن نستغرب إذن بأنّ ماسمّي بأحداث ( الربيع العربيّ) مع بداية العقد الثاني من القرن الحالي في عدد من الدول العربية المعنية بهذا المخطّط إنّما تندرج في سياق هذه الفوضى الخلاّقة .
هذا لا ينفي بالطبع مشروعيةَ الحراك الشعبي العربيّ السلميّ المطالِب بالعدالة والديمقراطية والقضاء على الفساد الذي ينخر كالسوس في جسد معظم الأنظمة العربية الحاكمة، لكن "عسكرة" هذا الحراك واستثماره من القوى الخارجية الطامعة، وحَرفَه عن مساره الوطني والقومي لخدمة مصالح الدول الاستعماريّة هو الذي حوّله إلى وسيلة وذريعة لنشر "الفوضى الخلّاقة" عن طريق الترويج للفكر التقسيمي القائم على استلهام بعض الأحداث التاريخية المريرة بما يجدّد ويقوّي النزعات الطائفية والمذهبيّة والعرقيّة، الأمر الذي يؤدّي إلى ضرب الوحدة الوطنية، وتفكيك البنى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمجتمعات العربية تمهيداً لخلق كيانات سياسية هزيلة عاجزة عن مواجهة الكيان الصهيونيّ، بما يسمح بتصفية القضية الفلسطينية والاستمرار بنهب خيرات وثروات العالم العربيّ في ظلّ نظام إقليميّ جديد تشرف عليه الولايات المتّحدة الأمريكية وتقوده وتهيمن عليه "إسرائيل" بالتحالف مع بعض الدول العربية المعروفة.
هذه فيما نرى هي الملامح العامّة للصراع التاريخي الذي يدور في منطقتنا العربية.
أمام كلّ هذه التحدّيات المصيرية الكبرى ليس أمامنا سوى التعويل على الوعيّ السياسي والفكري وتعزيز وحدة الصفّ ونبذ كلّ أسباب الفُرقة والخلاف بين أبناء الشعوب العربية المستهدَفة بهذا العدوان على كيانها ومستقبلها ومصيرها.
ولن يقوم بذلك سوى شعوبنا العربية وقواها الحيّة ذات التاريخ النضالي المجيد .
*- في الصورتين أدناه عرّابا نظرية "الفوضى الخلّاقة" :
- المستشرق البريطاني اليهوديّ برنارد لويس .
- وزيرة الخارجية الأمريكية سابقاً كونداليسا رايس .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى