العربي عبدالوهاب - البرواز ...

لم يكن الصعود إلى هناك سهلاً
كان رغبة ملحة منذ الطفولة ، عمراً يفتح ذراعيه على الأفق ..حيث صباح جديد له رائحة النداوة .
هناك .. هناك في البعيد عند قمة الجبل :-
[ صعد صلاح الدين أعالى الجبل .. ثم اتخذ من القلعة حصناً وأمناً من غدر الخونة ]
يا ألله .. كم هو جميل أن تجتاز قدميَّ الحصى والرمال تنهال من تحتي وأنا أصعد ثم أصعد حاملاً خشباتي القلائل وسوف أصل .
... ربما كان هاتفاً في ليلة الصحو الأخيرة حين زجرني شيخ النجارين وقال .. قم يا نجاري الصغير ، احمل أخشابك واصنع بروازك ثم اتحد بالحلم ، لا بالأمنيات البعيدة
أعتقد أنه كان حلماً .. لا .. كان صحواً .. لا يهم
لكني رأيت واندهشت ولم أشد الغطاء ، بل صحوت مرتعشاً .. ضاماً ساقي بقوة ، محاولاً السيطرة على اصطكاك فكيَّ .
وكان شيخي – شيخ النجارين – يخرج من شرفتي الضيقة تاركاً إلحاحه يشدني من تحت الغطاء للبرد والنور .. إلى دكاني والناس نيام ..
صرخة مكتومة في الصدر كادت تدوي في ملكوت الله .. بينما شعاع الصبح الجديد يمتص كلَّ عداوة .. كل أنانية .. تقتادني رغبة محمومة نحو لقاء الشيخ الذي يتهلل بوقفته عند قمة الجبل .. درت أفتش عن حاجاتي وما يلزمني في رحلة الصعود .
ورفعت رأسي فإذا بجدتي تبتسم عند نهاية الحارة في ثوبها الأبيض .. هيئة شفافة ، تتماوج مع النسائم الصباحية .. ناديت :
- جدتي
- تقدم
- إلى أين ؟!
- تقدم ولا تسأل .. إلى هناك .. قمة الجبل سوف تنظر وترى
- …………………
- احمل بروازك
- بروازي يتهشم فور دخولي .
- بروازك حلم البسطاء .. إذا تبسطت
- بروازي حلمي أنا .
- أنانيتك جحيم الناس .. إحذر نفسك يا ولدي .
وتماوجت هيئتها ثم تلاشت صوب الجبل .. هممت حاملاً أخشابي ، شاكوشي ، مساميري ، وتعب السنين في حارة ضيقه تعج بأطفال حفاة . وعجائز تهدلت ملامحهم وتراخت أجفانهم .. ينادون العابر .
قلت في نفسي ربما أنا العابر ..أنا السبيل.. أنا البرواز وما بداخل البرواز :
- وما الفرق ؟
- حلم البسطاء أن يدخلون براويز أحلامهم .
ولا يفيقون إلا على وخز المسامير تحت أقدامهم .
- وحلمك أنت ؟
- أن أحتل قمة الجبل .
- ولا تهبط .
- آه .. ما أقسى الأحلام .
خفت قليلا وتعثرت قدمى فى حصى " المدق " ورمال اندكت تحت قدمىَّ بينما شمس الضحى كانت تغشى العين وكان وليدى الذى نسيته مازال فى أقماطه يحتمى ببروازه [ ناموسيته ] مخافة الناموس .. أصعد ناظرا إلى أعلى الجبل .. تثقل الأخشاب كاهلى ولا أكلُّ .
[ أنا الوحيد .
شيخ الوحيدين فى هذا العالم
خارج من ظلمة الحارات إلى قمة الجبل تغمرنى أضواء وشموس .. وفى الليل أقمار ونجوم .. هكذا قالت جدتى لأمى حين رأت لى حلما منذ كنت رضيعاً ..
هكذا أنا صاعد ولن يسقطنى بروازى سوف أخلد فيه إلى الأبد .. بلا نوم .. بلا ضجيج .. بلا حارات ونسوة ينادين العابر .. أنا حلمهم الآتى والغابر .. أنا العابر ]
وصعدت .
قلت لنفسى هنا .
ودققت أوتادى حتى لا تقتلعنى الريح ..
هنا .. وأمسكت بمعولى ودققت .. رمال الجبل ثم نصبت خيمتى ..
………………………………………………………………………
يجب الآن أن أبدأ فى صنع البرواز الخشبى فلتمنحنى يا شيخ النجارين بركتك رياح القمم تعصف بى ..
كانت مساميرى تندق مستقيمة سهلة وخشباتى تلتصق ببعضها ..
ويتشكل الحلم .. والوهم يأخذ شكل الحقيقة ..
حقيقة وحيدة لا تقبل الشك .. هو أنى صنعت بروازا لا مثيل له ..
هو أنى أصعد داخلاً إليه ..
يبدو ظهرى مستقيما ومفاصلى متماسكة ..
الحمد لله .. ها أنذا حاذيت البرواز
ها أنذا أرى الحارات ضباباً
والشمس قريبة
ما هذا الارتياح والنشوة والقوة الصاعدة …
لماذا كانت تخذلنى شجاعتى ؟
- عندما كنت صغيراً –
وتربكنى نظرة البنات وسخرية العجائز فترتطم قدمى بأعتاب البرواز وأتدحرج …
الآن قد صرت كبيراً حقاً
وصرت قادراً على البلادة
وعلى حساب التفاصيل
قد اعتدلت فى جلستي .. صارت كل الحارات والأبراج تحت قدمي
بروازى جبلٌ فوق الجبل .. أشعر برغبة فى الخلد
ياه .. ما أجمل أن تخلد فى أكبر برواز ..
الآن يمكنني أن أقرأ على النمل الزاحف خطبتي الأولى .. وأفرك الثعابين والحشرات المتصاعدة
الآن فقط .. يستطيع النجار – الذى أصبح شيخ النجارين – أن يخلد فى البرواز دون ضجيج .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مجموعة قصص (أربع نخلات) الصادرة عن ثقافة الشرقية عام 2000م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى