العربي عبدالوهاب - السابعة إلا الربع تقريبا...

(1)
حين كانت برودة الصباح تغزو الأوصال وتفيق البيوت من نعاسها الليلى كان سائقو العربات وعاملو المزلقانات ورجال المرور يهشون النوم عن أحداقهم ويفتحون بصعوبة طريقا لهم وسط الشبورة الكاسية .
لم يذكر بالضبط متى بدأت عيناه ترقبان عقارب الساعة وهو يحاول الانفلات من إسارها ، ثم يجد نفسه فى الشارع مقتربا من الناصية فى السابعة إلا الربع تقريبا حيث تحاذيه عابرة باتجاه الطريق العام ، حيث تلتقط العربات تلك التجمعات الصباحية الصغيرة وتفر إلى مدينة العاشر الصناعية كالعادة .
على غير وجهتها كان يسير قاصدا إحدى المصالح الحكومية ، حين تدب بخطوها الوثاب نازلة سلم البيت ، يكون هو قد استقبل برودة الشتاء وتكون هى قد ودعت حلاوة النوم ولمملت جسدها المنغوم فى حيز الجيب الأسود المحبوك على تلك التفاصيل متلاقيا مع بلوزة موهير بيضاء ، ويترجرج الجسد إثر تعجل القدمين اللتين تتركان للحذاء فرصة عزف إيقاع متدلل .. ويستكمل معها الإيقاع .
كان يوازن بين تعجله وبين وصوله للناصية . حين يعبر كل منهما الآخر مانحا صاحبه ابتسامه دافئة ويمضى فى طريقه ؛ فى ذلك الوقت يصحو ـ هناك ـ الخفير مودعا زوجته وعياله الذين يهشون لمقدمه فى الحلم ،على وجه موظف الأمن بصرامته المعهودة ، فينهض ليعد شاى الصباح فى تكاسل ويفتح بوابة المصنع الكبيرة ،فى انتظار القادمين لوردية النهار.
(2)
ربما بعد ساعة تقريبا من إيقاظ الخفير تدب الحركة وتطلع الوجوه الليلية متعجلة ، تمنى نفسها بالركون إلى دفء العربات ، تعبر وجوه النهار البشوشة ، يتبادلون التحية محاولين بعث روح الحياة فوق ملامحهم المتعبة .
الآن يجلس الخفير القرفصاء حول السخان ، وسط كشك الأمن الزجاجى فى انتظار الشاى أن يدخل فى الغليان.. يتبادل بضع كلمات فاترة مع موظف الأمن المنشغل بانفلاق أول خيط للنهار من رحم الأمس .
ويهاتف رئيس الأمن ـ النائم الآن ـ كى يستعد للنزول ويشرب الشاى .
(3)
قبل أيام كان الشاب يحاول أن يستوقفها عند الناصية فى السابعة إلا الربع تقريبا ، لكنها ارتبكت وسقط منها الكارت الذى يحمل صورته الشخصية وهو يتجول وحيدا .. ولما ارتبكت ، ولم تلتفت إلا لعينيه الحالمتين .أصابه الخرس ثم فر هاربا كمن خدش حياء الشارع ، فقرر أن يطرق البيوت من أبوابها .. أصابع يدها اليسرى كانت دوما محتمية بالجيب ، واليمنى بعيدة عنه بحكم مجيئه عن يسارها .. قال لنفسه " ربما يكون ارتباكها مرجعه إلى تجاوزه إطار المصادفة .
هل كانت حيرته ترجع إلى الإحساس الحقيقى أم للعادة ؟!! "
(4)
بعدما ترحل الشبورة عن مناطق المدينة الصناعية ،مخلفة أشعة الشمس التى تلاطف أعين السائقين أمام المصانع ، فيرسل كل واحد ـ منهم ومنهن ـ عينيه ملوحا ، واعدا نفسه بقضاء إجازة الأسبوع فى أحضانها .إذا لم يكن مضطرا إلى التطبيق .
(5)
فى تمام الثانية عشرة تقريبا ..يرفس البـك غطاءه الدافئ ويهبط متكاسلا درجات السلم الداخلى ، واصلا إلى حجرة الطعام بعدما يكون قد قطع مسافة طويلة داخل الهول ...ثم يرتدى على مهل ملابسه الأنيقة جدا .
ويقود سيارته الحديثة جدا .
ويخطو نحو الحياة بقلب من حديد .

(6)
تغيبت بعد محاولة إعطائها الكارت بيوم واحد ،وفى السابعة إلا الربع صباحا لام نفسه لأنه ترك الكارت على الأرض وفر خجلان آسفا .كما همس لنفسه أن يغير الشارع .. صحيح أنه حاول أن يهشم حاجز الخجل ويسألها ، أن تفلت يدها اليسرى من الجيب ، وتغيبت وأصر أن يكون ابنا حقيقا للبلادة ،ولم يفلح .
(7)
قال الخفير وهو يدلى بشهادته : كان البك فى طريقه الصحيح حين فتح له بوابة المصنع .. وأنه شاهدها تتمايل بخطواتها على الإسفلت ؛ وقال موظف الأمن كانت قد ختمت منى إذنا بالخروج للتأمين الصحى ، ومرقت من البوابة الصغيرة للمصنع سائرة على الطوار حين سمعنا أنا والخفير فرامل سيارة البك وارتج سور المصنع من شدة الارتطام وأضاف بجلد ولم تكن البوابة الكبيرة مفتوحة ولم أسمع زامرة السيارة .
قال أحد المارة وقال الخفير وموظف الأمن ـ الذى رفت بعد يومين تماما ـ أنها كانت تبتسم ويدها اليسرى مطروحة فوق محتويات حقيبتها وأسفل اليد كارت قديم مضرج بدمائها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*من مجموعتي القصصية (باتجاه مصادفة ما) الصادرة عن سلسلة خيول أدبية ـ مصر 2010م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى