د. عوض النقر بابكر محمد - سموم...

تعود الشيخ الطيب أن يؤدى ركعتي الفجر عند شاطئ النيل ، وسط ذلك الجلال المهيب ثم يجذب شبكته ليرى رزق يومه. لكن ذلك الفجر لم يكن كمثله لم تصدق عيناه ما ترى أغمضهما فركهما ثم فتحهما لكن المرئيات ما زالت هي نفسها ، اتكأ بظهره على الضفة الطينية ، غرس يديه بقوة في عمق الرمال الندية حتى يستبين الحقيقة من غيرها تعوذ بالله الحى الدائم الذى لا يموت ثم انطلق نحو القرية لا يلوى على شئ وهو يصرخ بكلمات يصعب وضعها فى استقامة حتى يستبين السامع مغزاها.
استيقظت القرية رجالا ونساء وحتى الاطفال على ذلك الصوت الذى اضحى متحشرجا من شدة الانفعال والتعب. وأخيرا عند باب منزل العمدة توقف حاج الطيب عن الركض الجنونى وجلس على الارض يلتقط انفاسه فى صعوبة بالغة ، حيث قدم له العمدة الذى اخذته المفاجأة ولكنه تمالك نفسه عادة كبار القوم عند المحن ، كوبا من الماء ثم بدأ بسؤاله فى هدوء رزين ، وقتها كانت العتمة ما زالت مظلة طاغية لم تخترقها بعد اضواء الفجر الباهرة والشيخ الطيب عاجز عن الحديث وهو يشير بيديه صوب الشاطئ. تحرك الجميع وهم يحملون المشاعل والعصي إلى تلك البقعة من الشاطئ التي أشار إليها في البدء كان الجمع يتحرك في همة وحماس ثم بدأ الخوف بتسرب إلى النفوس شيئا فشيئا غير إن وجود النساء من خلفهم جعل فكرة التراجع ضربا من المخاطرة بسمعة قد تلتصق بأحدهم وأسرته ربما إلى أجيال قادمة رغم ان هذا لم يمنع الخطوات من التثاقل خاصة والغيوم وقتها قد تكاثفت ساحلة بذلك كل بذرة أمل في ضوء فجر آت .
وأخيرا وصلت الخطى المتثاقلة الى حافة الضفة الطينية العالية وعلى ضوء تلك المشاعل المرتجفة فاق المنظر تصور كل من عاش تلك اللحظة فخيم صمت نسجته دهشة لا حدود لها وخوف تمدد حتى بسط جناحيه فوق رؤوس الجميع …… هناك على الشريط الرملى الضيق بين الضفة والماء كانت العشرات من الاسماك و مخلوقات النهر تستلقى بين الحياة والموت والمزيد منها يخرج من النهر الى رمال الشاطىء مواصلا حلقة الانتحار الجماعى تلك. استعاد الجمع رباطة الجأش وبدأ البعض فى قراءة الآيات المنجيات والتعوذ الى ان قاطع الجميع بخارى المجنون والذى كان قبل ان تتدهور قواه العقلية مدربا لفريق الكرة بالقرية قال وهو يطلق ضحكته الشهيرة تلك ويحلل الموقف من وجهة نظره مستغلا جنون اللحظة وانتباه الناس له الامر الذى لا يحظى به فى أيام الحياة العادية فقال الامر يا أهلى فى غاية البساطة هم خرجوا ويريدون منا نحن الدخول تبادل مراكز يعنى ، انطلقت الضحكات من هنا وهناك فذاب جدار الصمت والخوف فى لحظة وحلت مكانه غريزة حب الاستطلاع فأخذ البعض يقلب فى الاسماك الميتة والبعض الآخر ينظر فى دهشة الى مخلوقات اخرى لا مسميات لها تلمع عيونها فى الظلام كالخرز. الفكى ابراهيم الفلاتى اختزل الامر كله فى كونه عمل الكفرة من الجن اما الشيخ حسن فقد أمر الجميع بالصلاة والدعاء لله ان يرفع عنهم البلاء كما اوصى بان لا يؤكل لحم هذه الاسماك. التفت العمدة الى أبناء القرية الذين تلقوا تعليما بالمدارس يبحث عن تفسير ما ولكن لم يتحدث منهم أحد عدا عامر غير المرغوب فيه والذى يحكى عنه فى القرية سرا بأنه شيوعى فقال بعد ان تنحنح وأصلح ياقة قميصه الغريب يا جماعة الرأسمالية الغريبة التى بدأت بالظهور فى مجتمعنا فى طورها البدائى لم يفهم احد شيئا ولم يقاطعه احد حتى لا يتهم بعدم الفهم فأضاف فى ثقة عززها الصمت بأنهم يلقون اى الرأسماليين الجدد بنفايات المصانع فى النهر مما يؤدى لتلوث النهر ونفوق مخلوقاته وأضعافنا نحن طبقات الشعب الفقيرة حتى لا نطالب بحقوقنا التى ياكلها فائض القيمة لديهم. فقط جبارة والذى كان فى السابق يعمل طباخا مع الجيش الانجليزى هو الذى ظل وحده أعلى الضفة الطينية ينظر الى الجميع على نحو لا يخلو من استخفاف وهو يدخن لفافة كريهة الرائحة هو الذى صاح عند نهاية هذا الحديث وهو يقول مؤيدا الجزء الذى فك طلاسمه (نعم اتذكر ان الجيش الانجليزى قد فعل نفس هذا الامر من قبل وقد كانت النتيجة ايضا كما ترون الآن). صاحت واحدة من النساء بصوت يفيض توسلا (يا الشيخ طه تنجدنا) قاطعها احدهم قائلا هذا كفر ، ولكنه كان كمن فتح النار على جبارة وعامر حين صاح احدهم فى عصبية كيف نستمع الى شيوعى وحشاش وقبة الشريف يوسف بقريتنا فهاج الجمع وماج واشتبكت العصى الغليظة فى قتال حقيقى وارتفعت اصوات النساء والأطفال بالصراخ والعمدة ينادى فى الناس وهو يتفادى الضربات الطائشة يمينا ويسارا ، يأمرهم بالهدوء وإلا استعان بالحكومة فى وسط ذلك الهرج وعلى حين غرة ارتفع صوت النهر قويا مدويا فهرع الكل دون سابق اتفاق ، السبعينى فى خفة ابن العشرين والمرأة مع صغارها بقوة الرجال نحو الضفة العالية فى حين اقتحمت شريط الرمل الناعم امواج هادرة اعادت الى جوف النهر كل مخلوقاته ثم هدأ كل شئ فى لحظة والجميع ينظر الى النهر من الضفة وهو يندفع فى جلال ومهابة وبقوة لا مثيل لها فى طريقه الابدى نحو الشمال وكأن شيئا لم يحدث فيما كانت الشمس تشرق من خلف الغيوم بألوان الذهب الاصيل.



[email protected]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى