هشام ناجح - باب سحر الوقف...

"لما بلغنا أيها الملك العظيم حظنا من سحر الوقف -فقد أُذن في كل المدائن: أيها الناس، اسمعوا وعوا، لقد عرف العالم طريق اليسار- كتبنا من يومها، عند الكل، بالسحرة المنقذين".
(من كتاب: إخوان سحرة سها البال عن تذكر قبيلهم)

من المتوقع أن تسقط المدن في يد العدو، لكن أن يضحى العدو من نفس الفصيل فإنه النقيض الذي يبعث من جوف المحصلة الجغرافية نفسها. ومهما اختلفنا، فإننا سنذعن للأخلاط التي تتحكم في النشوء والمباهاة والعمارة، ونسلم بأن ثمة تفاوتا في كمية خلط مقابل خلط آخر. لكننا لن نماري في أن التراب، الماء، الهواء والنار، هي الأخلاط التي تستدعي تحديد اسم مدينة "غرناطة"؛ الاسم الموغل في التماهي مع فاكهة الرمان، حيث إن فواكه الخريف تخلق الانتباه أكثر من فواكه الصيف الممعنة في تبادل الرضاب. وحتى ندرك التقارب الذي يفضي بنا إلى تحديد الحكم المطلوب، سنقول إن "غرناطة" ضحت بكلها لبعضها. وكمن تنبه لخلط آخر بداعي الشفقة أثناء التقهقرات التي تحيق بالأمم لحظة التشفيات المترذلة، فإننا سنجزم بأن غرناطة ضحية نفسها بعد سقوط حكم محمد عبدالله الزغبي، الذي كان من الأجدر أن يصحب معه إلى فاس كتاب " مخبأ الأسرار"؛ الكتاب المنغمر في كل أنواع السحر، منها: الظاهر، الخفي، البابلي والدمياطي. ذلك الكتاب المستند على سبعة كواكب واثني عشر برجا، وذروة تأمين حيزالساعة الفلكية التي تتوخى الاستجابة المرجوة. لكن، ما يهمنا ويدفعنا إلى تحاشي باقي أبواب الكتاب، والاهتمام بباب واحد هو "باب سحر الوقف"، إفراز الحدث الأهم حالما تشل المدينة عن الحركة مدة نصف ساعة من جهة تجميد الأفعال، فتدخل المدينة في حالة الفوات ذاعنة للموت الأصغر، كما يؤكد السطر الخامس من "باب سحر الوقف". ومن هنا يمكن أن نلوّح بمقاصد نية الملك الزغبي، وهو يتطلع من هضبة "زفرة المغربي الأخيرة"، ممعنا النظر في الغياب الدائم عن غرناطة، باستثناء كتاب "مخبأ الأسرار" الذي سيدرج الحضور مرة مرة كجبر الخاطر من خلال الأرواح المنجدلة في قواعدها، التي ستلوذ بالمهمات حين يتمكن أحدهم من توظيف الكتاب على النحو الصائب، فتحيق اللعنات المبثوثة في تصورات الملك الزغبي، في اتصالها بالخوارق، بغرناطة ولو بعد حين.
وكان من الضروري أن نشيد بحظ كتاب "مخبأ الأسرار"العظيم في أنه لم يدرج ضمن الكتب التي أُحرقت، كما هو معمول به أثناء التخلص من السالف وطمسه في الهزات التاريخية. أو بالأحرى ثمة شهوة تملك دلائل العوالم الخفية وما فوق الطبيعة، التي تتربص بالإنسان في الغالب، والحقيقة التي لا يمكن لأحد أن يحزرها سوى مالك الكتاب الأول، الذي انسجم مع الكتاب بتثمين الحواشي بالشروحات التي تيسر الطلاسم باللغة القشتالية.
وبما أن مالكة الكتاب حاليا هي مارطا رودريغيز، سليلة عائلة رودريغيز بالبيازين، سنوصد باب الصدف الذي يختفي وراءه الرواة أحيانا، حالما تستدعى التملصات من إبراز السياقات الحقة في كيفية الحصول على كتاب "مخبأ الأسرار"، وسنضفي عملية الوراثة من أجل التأمين المنسجم مع كل الأطراف.
لا نعلم كم مرة طبقت عائلة رودريغيز تعاليم الكتاب، لكننا على يقين أن مارطا كانت في قبضة قوى خفية على الدوام، تؤججها الخيالات الجامحة المحبوكة من مجاهل العوالم الفوقية. وحتى لا نغلب خلطا على خلط، كما أشرنا في البداية، سنرجع بكل بساطة الدوافع التي تلقي بكاهلها على مارطا إلى نشوء المسافة القريبة بين المماراة واليقين بالاندفاعات الناشئة والمغلفة بالتأثيرات والحاجة إلى التنبؤات. وسنؤول في الأخير إلى أن الكتاب تتردد فيه المغامرات الروحية المحببة إلى مارطا، الأمر الذي جعلها تكرس كل وقتها لحفظ الطلسم الأخير من باب سحر الوقف، قصد توليفه مع الساعة الفلكية المترقبة، التي تستوجب اليقظة والحذر في الوقت نفسه. وأي خطأ سيكلف غاليا، وهذا ما يجعل مارطا تكرر عبارتها المحببة: "عليّ أن أنقذ غرناطة من الآني"، حيث تمهد للموت الأصغر، الذي سيدفع غرناطة إلى الراحة، بنصف ساعة قصد إعادة رونقها، بعدما أضحى الكل يتحسر على المدينة السالفة من فرط اليأس الناشيء، البادي على كل الوجوه، خاصة بعد أن برز زوار جدد مجتاحين المدينة بالانجذاب الكلي لسطوة حيز الساعة الفلكية، المترقبة، وهم يهمهمون: "ياحسرة على غرناطة.. يا حسرة على أيام الملك محمد الزغبي!"
كانت الساعات وحدها ما يعلن أن غرناطة تخلفت بنصف ساعة عن الوقت المعهود.



* منشورة بالملحق الثقافي لجريدة العلم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى