السرد حكايات، ولكن كيف تُروَى؟ ولماذا نروي هذه الحكاية ونترك الأخرى؟
عندما بدأت رحلتي مع القلم نهاية الثمانينات، كان الشِّعر هو عالمي الذي لا أتقنه، كنت أعلم بذلك، ولكن لا بديل لي عنه يومها، فتركت قلمي يتخبّط بين أمواج الشعر، علّه يومًا يجد فيه مرساه، حتى كان لقائي بالشاعر منذر عبد الحرّ الذي غيّر بكلمة واحدة منه مسار القلم (علي، أسلوبك أقرب إلى النثر، فلِمَ لا تحاول أن تكتب القصة)، لم أتردّد لحظتها من الانتقال للقصّة، وقد ساندني في ذلك أنّ قراءاتي قد طغت عليها الروايات والقصص، لا سيما روايات دوستويفسكي الذي أستطيع أن أقول إنّه هو الروائي الوحيد الذي قرأت كلّ رواياته، والذي ترك بصمة لم يستطع أيّ روائي آخر أن ينازعها، فضلًا عن آخرين كازنتزاكي وجون شتاينبك ونجيب محفوظ ممّن كنّا نستمتع بكتاباتهم وأفكارهم، مع ذلك لم يزل الخوف يحكم قبضته على قلمي حذرًا من الاقتراب من ساحة السرد، لا سيّما الراوية التي كنت أصفها كالبحر، الجمال المخيف، فكلاهما يجمع بين الجمال والخوف، كلاهما عندي جميل بمرآه، مخيف بعمقه وأمواجه المجنونة، فحتى عندما اقتربت من عالم السرد لم يرد في خاطري أن أقترب من الرواية، ففي القصة متعة خاطفة، ويمكن أن أقول ما أريد باختزال...
وتمضي السنوات، وأنا مستمتع بعوالم القصّة، برغم الرمزية التي أكتب فيها، ربّما كنت أمقتها، ولكنّي أشعر بهذه الرمزية ملاذًا من خوف يسكنني.. الوجود.. العدم.. الحياة.. الموت.. الواقع المخيف بحروبه وصراعاته.. كأنّما تلك القصص المرمّزة جدار أحتمي بها ممّا لا أعرف، وربّما ستضحكون إن قلت لكم إنّني كتبت قصّة في ذلك الوقت، عندما أقرأها أنا اليوم لا أفهمها.. وقد كان لقراءاتي الفلسفية لمسة واضحة المعالم في كتاباتي، لا سيّما الوجودية، وتأثّري بعبثية كامو، تلك العبثية التي لم تكن تختلف عن شِعري، أتخبّط بها، ولا أجيدها...
تمضي السنوات، وتتغيّر أحوال البلاد.. كلّ شيء تغيّر إلّا الخوف الذي عشعش في داخلي، والذي ازداد مع ازدياد حالات الفوضى، وبات الموت هو سمة شوارعنا.. مدننا.. حتى أحلامنا كاد الموت يصيبها، إن لم يكن قد أصابها بمقتل فعلًا، فراودتني تلك الفكرة، فكرة أن يعيش إنسان الخوف في أيّ زمان ومكان كان فيه، ولكن، كما هي عادتي في سردياتي القصصية منها والروائية، انحرفت الفكرة عن مسارها الذي في رأسي، كأنّما الأوراق تأبّى أن تتوافق مع رأسي، فأجدني أكتب على الورق غير ما أفكّر به، وقد قال لي يومًا صديق (أنت ثلاث شخصيات في آن واحد.. ففي آن واحد أنت تفكر بشيء.. وتقول شيئًا آخر.. وتكتب شيئًا غير الشيأين السابقين).
فكانت رواية (جئتُ متأخّرًا)، الرواية التي أرى أني ظلمتها يوم كانت هي ثاني رواياتي بعد (ذكريات معتّقة باليوريا)، ففكرة هذه الرواية هي السبب الرئيس في دخولي عالم الروايات المخيف.. الجميل... وليتها وقفت عند ذلك فسكتت، ولكن (وجه في كرة) كان هو وجهي الذي تقاذفته الأرجل في ملعب الزمن، حاولت مرارًا الإفلات منه، بلا جدوى.. وهربًا من صوت (ذكرَأة) الذي لا يهدًا، صرخت الأيام بي يومًا أن (ارفعوا صوت التلفاز)، عسى أن يكون في التلفاز منجاتي، ولكنّها كانت صرخة جعلت من مدينتي (سيبار.. مدينة بلا طيور)، لملمت نفسي، وانطويت على غربتي، وقذفت بها في (ثقوب عارية)، تائهة بين الشوارع، وكلّ صوت في داخلي يصرخ (لا تركب القطار)، ولكن إن لم أركبه فسيأخذني (المعبث) في متاهاته... ولكن للأسف كل شيء كان (مثل ذلك)... لأجدني هنا بينكم أبحث عني لعلّي أراني.
هكذا أروي حكاياتي.. وما انتقائي لهذه الفكرة أو تلك إلّا لصوت يناديني إليها في داخلي، مهما حاولت الإفلات منها أجدني أعود إليه.
" شهادة في مؤتمر السرد الخامس 26-28 أيلول 2024
عندما بدأت رحلتي مع القلم نهاية الثمانينات، كان الشِّعر هو عالمي الذي لا أتقنه، كنت أعلم بذلك، ولكن لا بديل لي عنه يومها، فتركت قلمي يتخبّط بين أمواج الشعر، علّه يومًا يجد فيه مرساه، حتى كان لقائي بالشاعر منذر عبد الحرّ الذي غيّر بكلمة واحدة منه مسار القلم (علي، أسلوبك أقرب إلى النثر، فلِمَ لا تحاول أن تكتب القصة)، لم أتردّد لحظتها من الانتقال للقصّة، وقد ساندني في ذلك أنّ قراءاتي قد طغت عليها الروايات والقصص، لا سيما روايات دوستويفسكي الذي أستطيع أن أقول إنّه هو الروائي الوحيد الذي قرأت كلّ رواياته، والذي ترك بصمة لم يستطع أيّ روائي آخر أن ينازعها، فضلًا عن آخرين كازنتزاكي وجون شتاينبك ونجيب محفوظ ممّن كنّا نستمتع بكتاباتهم وأفكارهم، مع ذلك لم يزل الخوف يحكم قبضته على قلمي حذرًا من الاقتراب من ساحة السرد، لا سيّما الراوية التي كنت أصفها كالبحر، الجمال المخيف، فكلاهما يجمع بين الجمال والخوف، كلاهما عندي جميل بمرآه، مخيف بعمقه وأمواجه المجنونة، فحتى عندما اقتربت من عالم السرد لم يرد في خاطري أن أقترب من الرواية، ففي القصة متعة خاطفة، ويمكن أن أقول ما أريد باختزال...
وتمضي السنوات، وأنا مستمتع بعوالم القصّة، برغم الرمزية التي أكتب فيها، ربّما كنت أمقتها، ولكنّي أشعر بهذه الرمزية ملاذًا من خوف يسكنني.. الوجود.. العدم.. الحياة.. الموت.. الواقع المخيف بحروبه وصراعاته.. كأنّما تلك القصص المرمّزة جدار أحتمي بها ممّا لا أعرف، وربّما ستضحكون إن قلت لكم إنّني كتبت قصّة في ذلك الوقت، عندما أقرأها أنا اليوم لا أفهمها.. وقد كان لقراءاتي الفلسفية لمسة واضحة المعالم في كتاباتي، لا سيّما الوجودية، وتأثّري بعبثية كامو، تلك العبثية التي لم تكن تختلف عن شِعري، أتخبّط بها، ولا أجيدها...
تمضي السنوات، وتتغيّر أحوال البلاد.. كلّ شيء تغيّر إلّا الخوف الذي عشعش في داخلي، والذي ازداد مع ازدياد حالات الفوضى، وبات الموت هو سمة شوارعنا.. مدننا.. حتى أحلامنا كاد الموت يصيبها، إن لم يكن قد أصابها بمقتل فعلًا، فراودتني تلك الفكرة، فكرة أن يعيش إنسان الخوف في أيّ زمان ومكان كان فيه، ولكن، كما هي عادتي في سردياتي القصصية منها والروائية، انحرفت الفكرة عن مسارها الذي في رأسي، كأنّما الأوراق تأبّى أن تتوافق مع رأسي، فأجدني أكتب على الورق غير ما أفكّر به، وقد قال لي يومًا صديق (أنت ثلاث شخصيات في آن واحد.. ففي آن واحد أنت تفكر بشيء.. وتقول شيئًا آخر.. وتكتب شيئًا غير الشيأين السابقين).
فكانت رواية (جئتُ متأخّرًا)، الرواية التي أرى أني ظلمتها يوم كانت هي ثاني رواياتي بعد (ذكريات معتّقة باليوريا)، ففكرة هذه الرواية هي السبب الرئيس في دخولي عالم الروايات المخيف.. الجميل... وليتها وقفت عند ذلك فسكتت، ولكن (وجه في كرة) كان هو وجهي الذي تقاذفته الأرجل في ملعب الزمن، حاولت مرارًا الإفلات منه، بلا جدوى.. وهربًا من صوت (ذكرَأة) الذي لا يهدًا، صرخت الأيام بي يومًا أن (ارفعوا صوت التلفاز)، عسى أن يكون في التلفاز منجاتي، ولكنّها كانت صرخة جعلت من مدينتي (سيبار.. مدينة بلا طيور)، لملمت نفسي، وانطويت على غربتي، وقذفت بها في (ثقوب عارية)، تائهة بين الشوارع، وكلّ صوت في داخلي يصرخ (لا تركب القطار)، ولكن إن لم أركبه فسيأخذني (المعبث) في متاهاته... ولكن للأسف كل شيء كان (مثل ذلك)... لأجدني هنا بينكم أبحث عني لعلّي أراني.
هكذا أروي حكاياتي.. وما انتقائي لهذه الفكرة أو تلك إلّا لصوت يناديني إليها في داخلي، مهما حاولت الإفلات منها أجدني أعود إليه.
" شهادة في مؤتمر السرد الخامس 26-28 أيلول 2024