الجنس في الثقافة العربية الرسالة السابعة والثلاثون من رسائل إخوان الصفاء... الرسالة السادسة في ماهية العشق

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، آلله خيرٌ أمّا يُشركون? اعلم أيها الأخ أنّا قد فرغنا من رسالة الأدوار والأكوار، وبيّنا فيها كيفية أحوال القرانات حسب ما جرت عادة إخواننا الكرام. ونريد أن نذكر الآن في هذه الرسالة ماهيّة العشق ومحبة النفوس والمرضِ الإلهي، وما حقيقة ذلك، ومن أين مبدؤه فنقول: اعلم أن الحكماء قد أكثروا القيل والقال في فنون العلوم، وطرق المعارف، وغرائب الحكم من الرياضيات والطبيعيات والفلسفيات والإلهيات. ولكن بعض تلك العلوم والمعارف ألطف من بعض، وقد عملنا في كل منها رسالة شبه المدخل والمقدَّمات، ليقرُب تناوله على المتعلمين، ويسهل أخذه على المبتدئين. ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفاً مما قالت الحكماء والفلاسفة في ماهيّة العشق، وكمية أنواعه، وكيفية نشوئه ومبدئه، وما علله الموجبة لكونه، والأسباب الداعية إليه؛ وما الغرض الأقصى منه، إذ كان هذا أمراً موجوداً في العالم، مركوزاً في طباع النفوس، دائماً لا يعدَم البتّة، ما دامت الخليقة موجودةً.
واعلم يا أخي أن من الحكماء من قد ذكر العشق وذمّه، وذكر مساوئ أهله وقبح أسبابه، وزعم أنه رذيلة. ومنهم من قال إن العشق فضيلةٌ نفسانية، ومدحه، وذكر محاسن أهاه، وزيّن أسبابه. ومنهم من لم يقف على أسراره وعلله وأسبابه بحقائقها ودقّة معانيها، فزعم أنه مرضٌ نفساني. ومنهم من قال إنه جنون إلهي. ومنهم من زعم أنه هِمَّة نفسٍ فارغةٍ. ومنهم من زعم أنه فعل البطّالين الفارغي الهمم الذين لا شغل لهم.
ولعمري إن العشق يترك النفس فارغةً من جميع الهمّ إلاّ همّ المعشوق، وكثرة الذّكر له والفكرة في أمره، وهيجان الفؤاد، والوله به وبأسبابه. ولكن ليس ذلك من فعل البطّالين الفُرّاغ كما زعم من لا خبرة له بالأمور الخفيّة، والأسرار اللطيفة، ولا يعرف من الأمور إلاّ ما تجلّى للحواسّ وظهر للمشاعر. وأما الذي يُدرك منها بصفاء الذهن وجودة التمييز، وكثرة الفكر، وشدّة البحث، ودقّة النظر، فهم عنها بمعزل. وذلك أن الذين زعموا أن العشق هو مرض نفساني، أو قالوا إنه جنون إلهي، فإنما قالوا ذلك من أجل أنهم رأوا ما يعرض للعشاق من سهر الليل، ونحول الجسم، وغُؤور العيون، وتواتر النَّبض والأنفاس الصُّعداء، مثل ما يعرض للمرضى، فظنوا أنه مرض نفساني.
وأما الذين زعموا أنه جنون إلهي فإنما قالوه من أجل أنهم لم يجدوا لهم دواءً يعالجونهم به، ولا شربة يسقونها إياهم فيبرؤون مما هم فيه من المحنة والبلوى إلاّ الدعاء لله بالصلاة والصداقة والقرابين في الهياكل ورقى الكهنة وما شاكل ذلك كما حكا العاشق بقوله، وهو عُروة بن حزام قتيل الحب:
بذلت لعرّاف اليمامة حُكمـه، = وعرَّاف نجدٍ، إن هما شَفَياني
فما تركا من سلوةٍ يَعرِفانهـا = ولا رُقيةٍ إلاّ بهـا رقـيانـــــــــي
فقالا: شفاك الله! والله ما لنـا = بما ضَمِنتْ منك الضُّلوع، يدان
وأشعارٌ كثيرة للعشاق في هذا المعنى.
وأما الحكماء والأطباء من اليونانيين فكانوا، إذا أعياهم علاج مريضٍ أو مداواة عليل وأيِسوا منه، حملوه عند ذلك إلى هيكل المشتري، وتصدّقوا عنه وصلّوا لله تعالى، وقربوا قرباناً، وسألوا الكهنة أن يدعوا الله بالشفاء، فإذا برئ سمّوا ذلك طباً ومرضاً، وجنوناً إلهياً.
ومن الحكماء من زعم أن العشق هو إفراط المحبة وشدة الميل إلى نوع من الموجودات دون سائر الأنواع، وإلى شخص دون سائر الأشخاص، أو إلى شيء دون سائر الأشياء، بكثرة الذّكر له، وشدّة الاهتمام به، أكثر مما ينبغي. فإن كان العشق هو ذا فليس أحد من الناس يخلو منه، إذ كان لا يوجد أحدٌ إلاّ وهو يحب ويميل إلى شيءٍ دون سائر الأشياء، أكثر مما ينبغي. وكثيرٌ من الحكماء والأطباء يُسمّون هذه الحال ماليخوليا. وقد أكثر الأطباء القيل والقال في هذه العلة، وأعياهُم علاجها. وقد ذكرت في كتب أحكام المواليد علل ذلك تركنا ذكرها مخافة التطويل، لأنا نريد أن نتكلم في العشق المعروف عند جمهور الناس. وذلك أنهم لا يُسمّون العشق إلاّ ما كان من هذه الحال، نحو شخصٍ من أبناء الجنس، ذكراً كان أو أُنثى.
ومن الحكماء من قال إن العشق هو هوىً غالبٌ في النفس نحو طبعٍ مُشاكلٍ في الجسد، أو نحو صورةٍ مماثلةٍ في الجنس. ومنهم من قال إن العشق هو شدة الشوق إلى الاتحاد، فأي حالٍ يكون عليها العاشق يتمنى حالاً أُخرى أقرب منها، ولهذا قال الشاعر:
أُعانقها، والنفس بَعدُ مشوقةٌ إليها، = وهل بعد العناق تدانـي؟
وألثم فاها كي تزول صبابـتـــــي = فيزداد ما ألقى من الـهـيمـان
كأنّ فؤادي ليس يشفي غلـيــــله = سوى أن يرى الرُّوحين يمتزجان
وهذا القول أرجح ما قيل فيه، وألطف ما أُشير إليه. ونحتاج أن نشرح هذا الباب لتتّضح حقيقته، وتُعرف أسبابه، ولكن لما كان الاتحاد هوىً نفسانياً، وتأثيراً روحانياً، احتجنا إلى أن نذكر أنواع النفوس، وأنواع معشوقاتها، وعلل تلك وأسبابها. وأما الفرق بين العلل والأسباب، فهو أن العلل كائنةٌ في طباع النفوس، والأسباب خارجةٌ منها، كما سنبين بعد هذا الفصل.
واعلم يا أخي أن النفوس المُتجسدة لما كانت ثلاثة أنواع، كما قالت الحكماء والفلاسفة، صارت معشوقاتها أيضاً ثلاثة أنواع: فمنها النفس النباتية الشهوانية، وعشقها يكون نحو المأكولات والمشروبات والمناكح. ومنها النفس الغضبية الحيوانية، وعشقها يكون نحن القهر والغلبة وحبّ الرياسة. ومنها النفس الناطقة، وعشقها يكون نحو المعارف واكتساب الفضائل.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروحٍ منه، أنه ليس أحد من الناس يخلو من نوع من هذه الأنواع الثلاثة التي ذكرناها، أو يكون آخذاً بنصيب من كل واحدٍ منها قلّ أو كثر. والعلة في ذلك أنه لما كان من شأن النفوس أن تتبع أمزجة الأبدان في إظهار أفعالها وأخلاقها ومعارفها، وبخاصةٍ ما كان أغلب منها في المزاج، وأقوى في أصل التركيب، كما بينا في رسالة الأخلاق ورسالة مسقط النطفة: وذلك أن كل إنسان يكون المُستولي عليه، في أصل مولده، القمر أو الزهرة وزحل، فإن الغالب على طبيعته قوة النفس الشهوانية نحو المأكولات والمشروبات والجمع والادّخار لها. وإن يكن المستولي المريخ والزهرة أو القمر، فإن الغالب إلى طبيعته شهوة الجماع والمناكح. وإن كان المستولي على أصل مولده الشمس والمريخ، فإن الغالب على طبيعته تكون شهوة النفس الغضبة نحو القهر والغلبة وحب الرياسة. وإن كان المستولي عليه، في أصل مولده، الشمس وعطارد والمشتري، فإن الغالب على طبيعته تكون شهوات النفس الناطقة نحو المعارف واكتساب الفضائل والعدل.
وقد بينا في رسالة مسقط النطفة كيف يتقرر في جبلة الجنين وطبع المولود تأثيرات هذه الكواكب. وبينا في رسالة الأخلاق كيف يعتاد الإنسان باكتساب تلك الطباع، والأخلاق كيف يعتاد الإنسان باكتساب تلك الطباع، والأخلاق التي في الطباع، قبولها وتهيّؤها، أو ضدّ ذلك. وإذ قد فرغنا من ذكر ما احتجنا إلى أن نذكره، فنرجع الآن إلى تفسير قول من قال من الحكماء: إن العشق هو شدة الشوق إلى الاتحاد، فنقول: إن الاتحاد هو من خاصّيّة الأمور الروحانية، والأحوال النفسانية، لأن الأمور الجسمانية لا يمكن فيها الاتحاد، بل المجاورة، والممازجة، والمماسة لا غير. فأما الاتحاد فهو من الأمور النفسانية، كما سنبين في هذه الفصول.
واعلم يا أخي أن مبدأ العشق وأوله نظرةٌ أو التفات نحو شخصٍ من الأشخاص، فيكون مثلها كمثل حبةٍ زُرِعت، أو غصن غُرِس، أو نطفة سقطت في رحم بشرٍ. وتكون باقي النظرات واللحظات بمنزلة مادةٍ تنصبُّ إلى هناك، وتنشأ وتنمي على ممرّ الأيام، إلى أن تصير شجرةً أو جنيناً؛ وذلك أن همّة العاشق ومُناه هو الدنو والقرب من ذلك الشخص. فإذا اتفق له ذلك وسهل، تمنى الخلوة والمجاورة. فإذا سهل ذلك تمنى المعانقة والقُبلة. فإذا سهل تمنى الدخول في ثوب واحد، والالتزام بجميع الجوارح أكثر ما يُمكن. ومع هذه كلّها الشوق بحاله لا ينقص شيئاً بل يزداد وينمو كما قيل:
أُعانقها، والنفس بَعدُ مشوقةٌ إليها، = وهل بعد العناق تدانـي؟
وألثم فاها كي تزول صبابـتـــــي = فيزداد ما ألقى من الـهـيمــــان
كأنّ فؤادي ليس يشفي غلـيلــــه = سوى أن يرى الرُّوحين يمتزجان
ثم اعلم أن روح الحياة إنما هو بخارٌ رطبٌ يتحلل من الرطوبة والدم، وينشأ في جميع البدن؛ ومنها تكون حياة البدن والجسم، ومادة هذه الروح من استنشاق الهواء بالتنفس دائماً لترويح الحرارة الغريزيّة التي في القلب. فإذا تعانق العاشق والمعشوق جميعاً، وتباوسا، وامتصّ كل واحد منهما ريق صاحبه وبلعه، وصلت تلك الرطوبة إلى معدة كل واحد منهما، وامتزجت هناك مع الرطوبات التي في المعدة، ووصلت إلى جرم الكبد، واختلطت بجميع أجزاء الدم هناك، وانتشرت في العروق الواردة إلى سائر أطراف الجسد، واختلطت بجميع أجزاء البدن، وصارت لحماً ودماً وشحماً وعروقاً وعصباً ما شاكل ذلك.
وهكذا أيضاً إذا تنفس كل واحد منهما في وجه صاحبه، خرج من تلك الأنفاس شيء من نسيم روح كل واحدٍ منهما، واختلط بأجزاء الهواء. فإذا استنشقا من ذلك الهواء، دخلت إلى خياشيهما أجزاء ذلك النسيم من الهواء المُستنشق، ووصل بعضه إلى مُقدَّم الدماغ، وسرى فيه كسريان النور في جرم البلّور، واستلذّ كل واحد منهما ذلك التّنسّم. ووصل أيضاً من أجزاء ذلك الهواء المُستنشق بعضٌ إلى جرم الرئة في الحلقوم، ومن الرئة إلى جرم القلب من النبض في العروق الضوارب إلى جميع أجزاء الجسد، واختلط هناك بالدم واللحم، وما شاكل ذلك من أجزاء الجسد، وانعقد في بدن هذا ما تحلّل من جسد هذا، وفي بدن هذا ما تحلل من جسد ذاك، فيكون من ذلك ضروبٌ، ومن المزاجات من تلك الأمزجة ضروب الأخلاط، ومن تلك الأخلاط ضروب الأخلاق. كل ذلك بحسب أمزجة أبدانها.
ومن شأن النفس أن تتبع مزاج البدن في إظهار أفعالها وأخلاقها، لأن مزاج الجسد، وأعضاء البدن، ومفاصله للنفس بمنزلة آلات وأدواتٍ للصانع الحكيم يُظهر بها ومنها أفعاله. فلهذه الأسباب والعلل التي ذكرناها يتولّد العشق والمحبة، على ممرّ الأيام، بين المتحابّين، وينشأ وينمو. فأما الذي يتغير من المحبة ويفسد بعد التأكيد، فلأسباب يطول شرحها، ولكن نذكر أولاً ما العلة في محبة شخصٍ لشخصٍ، دون سائر الأشخاص، فنقول: إن العلة في ذلك اتفاق مُشاكلة الأشخاص الفلكية في أصل مولدهما بضربٍ من الضروب الموافقة من بعضٍ لبعضٍ، وهي كثيرة الفنون، ولكن نذكر منها طرفاً ليكون دليلاً علة الباقية. فمنها أن يكون مولدهما ببرج واحد، أو ربّ البرجين كوكبٌ واحد، أو يكون البرجان متفقين في بعض المثاني كالمُثلَّث، أو تكون مطالعهما متساويةً، أو ساعات نهارهما متّفقةً، وما شاكل ذلك مما يطول شرحه - يعرف حقيقة ما قلنا أصحاب الأحكام الناظرون في مواليد الناس.
وأما تغير العشق بعد ثباته زماناً طويلاً فهو تغير أشكال الفلك في تحاويل سني مواليد الناس، وسير درجة الطالع وتنقلها في حدود البروج والوجوه؛ وهكذا تسييرات شُعاعات الكواكب في أبراج الانتهاءات في مستقبل السنين.
واعلم يا أخي أن كل الكائنات التي دون فلك القمر، فهي مربوطة الأحوال بحركات الأشخاص الفلكية، كما بينا في رسالة ماهية الطبيعة، ورسالة الأدوار والأكوار، ورسالة الأفعال الروحانية.

* فصل في ماهية علة فنون المعشوقات
اعلم يا أخي أن كثيراً من الناس يظنون أن العشق لا يكون إلا للأشياء الحسنة وحسب! وليس الأمر كما ظنوا فإنه قد قيل: يا ربّ مستحسنٍ ما ليس بالحسن! ولكن العلة في ذلك هي الاتفاقات التي بين العاشق والمعشوق، وهي كثيرة لا يحصي عددها إلا الله جل ثناؤه، ولكن نذكر منها طرفاً ليكون دليلاً على الباقية. وذلك أن الاتفاقات بحسب المناسبات التي بين أجزاء المُركبات. فمن تلك المناسبات ما هي بين كل حاسة ومحسوساتها، وذلك أن القوة الباصرة لا تشتاق إلا إلى الألوان والأشكال، ولا تستحسن منها إلاّ ما كان على النسبة الأفضل، وهكذا القوة السامعة لا تشتاق إلاّ إلى الأصوات والمغم، ولا تستلذ منها ما كان على النسبة الأفضل، كما بينا في رسالة الموسيقى. وعلى هذا القياس سائر الحواس كل واحدة منها لا تشتاق إلاّ إلى محسوساتها، ولا تستحسن ولا تستلذ إلاّ ما كان منها على النسبة الأفضل بينهما في الآفاق. ولما كانت تراكيب أمزجة الحواس والمحسوسات كثيرة الفنون، وكثيرة التغيير، غير ثابتة على حالة واحدة، صارت القوى الحساسة في إحساسها لمحسوساتها مُفنّنةً متغيرة، وذلك أنك تجد واحداً من الناس، أو من الحيوان، يستلذّ مأكولاً، أو مشروباً، أو مسموعاً، أو مشموماً، والآخر ل يستلذه، بل ربما كلن يكرهه ويتألم منه. وهكذا تجد الإنسان الواحد يستلذ في وقت ما شاء ويستحسنه، وفي آخر يكرهه ويتألم منه. كل ذلك بحسب اختلاف التراكيب وفنون الأمزجة، وما يعرض لها، وما يعرض لها، وما يحدث بينها من المناسبات والمُنافرات، وشرحها طويل.
واعلم يا أخي أن الحكمة الإلهية والعناية الربّانية قد ربطت أطراف الموجودات بعضها ببعض رِباطاً واحداً، ونظمتها نظاماً واحداً. وذلك أن الموجودات لما كان بعضها عللاً وبعضها معلولات، ومنها أوائل ومنها ثوانٍ، جعلت في جبلة المعلولات نُزوعاً نحو علاّتها، واشتياقاً إليها، وجعلت أيضاً في جبلة علاّتها رأفةً ورحمةً تحنُّناً على معلوماتها، كما يوجد ذلك في الآباء والأُمهات على الأولاد، ومن الكبار على الصغار، والأقوياء على الضعفاء، لشدة حاجة الضعفاء إلى مُعاونة الأقوياء، والصغار إلى الكبار، كما أجاب رئيس قريش وحكيمها لما سأله كسرى: أيُّ أولادك أحبُّ إليك? فقال: صغيرهم حتى يكبر، وعليلهم حتى يبرأ، و غائبهم حتى يرجع.

* فصل في الرَّغبة في نكاح الغلمان
ثم اعلم أن الأطفال والصبيان، إذا استغنوا عن تربية الآباء والأُمهات، فهم بعد محتاجون إلى تعليم الأستاذين لهم العلوم والصنائع ليبلغوا بهم إلى التمام والكمال، فمن أجل هذا يوجد في الرجال البالغين رغبةٌ في الصبيان ومحبة للغلمان، ليكون ذلك داعياً لهم إلى تأديبهم وتهذيبهم، وتكميلهم، للبلوغ إلى الغايات المقصودة بهم، وهذا موجود في جبلة أكثر الأُمم التي لها شغف في تعلُّم العلم، والصنائع، والأدب، والرياضيات، مثل أهل فارس، وأهل العراق، وأهل الشام، والروم وغيرهم من الأُمم. وأما الأُمم التي لا تتعاطى العلوم والصنائع والأدب، مثل الأكراد والأعراب والزّنج والترك، فإنه قلّ ما يوجد فيهم، ولا في طباعهم الرَّغبة في نكاح الغلمان وعشق المرْدان.
وأما محبة النساء للرجال وعشقها فإن ذلك في طباع أكثر الحيوانات التي لها سِفاد. وإنما جُعِلت تلك في طبائعها لكيما يدعوها إلى الاجتماع والسِّفاد، ليكون منها النِّتاج. والغرض منها بقاء النسل، وحفظ الصورة في الهيولى بالجنس والنوع، إذ كانت الأشخاص دائماً في السيلان. والغرض من هذه كلها بعيد من أفكار أكثر العقلاء. وقد بينا في رسالة المبادئ ورسالة البعث.

* فصل في أنواع المحبوبات وما الحكمة فيها
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروحٍ منه، أن المحبة مُفنّنة، والمحبوبات كثيرةٌ لا يحصي عددها إلاّ الله، ولكنّا نذكر منها طرفاً ليكون دليلاً على الباقية. فمن أنواع المحبوبات محبة الحيوانات الازدواج والنِّكاح والسِّفاد، لما فيه من بقاء النسل. ومنها محبة الأُمهات والآباء للأولاد، وتحنُّنهم على الصغار، وتربيتهم لهم، وإشفاقهم عليهم، كأنها مجبولة في طباعهم، مركوزة في نفوسهم، لشدة حاجة الصغار إلى الكبار. ومنها الرؤساء للريسات، وحرصهم على طلبها، ومراعاتهم لمرؤوسيهم، وحفظهم لهم، وإشفاقهم عليهم، ومحبتهم للمدح والثناء والشكر، كأنها مجبولة في طباعهم، مركوزة في نفوسهم. ومنها محبة الصُّناع في إظهار صنائعهم، وحِرصُهم على تتميمها، وشهوتهم لتحصيلها وتركيبها، كأنه شيء مجبول في طباعهم، مركوز في نفوسهم، لشدة حاجتهم إليها. ومنها محبة التجار لتجاراتهم، ورغبة الراغبين في الدنيا، وحرصهم على الجمع والادخار لها وحفظها، ومحبة عمارة الأرض، وإصلاح الأمتعة وجمعها وحفظها، كأنه شيء مجبول في طباعهم، مركوز في نفوسهم، لكان فيه من الصلاح لغيرهم ومن يأتي بعدهم. ومنها محبة العلماء والحكماء لاستخراج العلوم، ووصف الآداب، وتعليم الرياضيات، والبحث عن الغوامض، والفحص عنها، وتدوينها في الكتب والأدراج، وأُمّةً بعد أُمةٍ، وقرناً بعد قرن، كأنه شيء مجبول في طباعهم، مركوزٌ في نفوسهم، لما فيه من إحياء النفوس، وإصلاح الأخلاق، وصلاح الدين والدنيا جميعاً. ومنها محبة البرّ والإحسان، وما يقال فيهما من المدح والثناء، وكأنه شيء مجبول في طباع البشر، مركوزٌ في نفوسهم، لما فيه من الحث على مكارم الأخلاق. ومنها محبة أبناء الجنس وما يسمى العشق، وما يصف العُشاق من أحوالهم وأحوال معشوقهم، وما يجدون في نفوسهم من الأفكار، والهموم والأحزان، والفرح والسرور، والنشاط، وما يذكرون من الأخلاق الجميلة، والطرائق الحميدة، وما يذُمّون من الأخلاق المذمومة، والأحوال المرذولة، قالوا: لو لم يكن العشق موجوداً في الخليقة، لخَفِيت تلك الفضائل كلها، ولم تظهر، ولم تُعرَف تلك الرذائل أيضاً! فقد بان وتبيّن، إذاً بما ذكرنا، أن المحبة والعشق فضيلة ظهرت في الخليقة، وحكمةٌ جليلة، وخَصلةٌ نفسية عجيبة. ذلك من فضل الله على خلقه، وعنايته بمصالحهم، ودلالة لهم عليه، وترغيباً لهم به من المزيد.
واعلم يا أخي أن محبوبات النفوس ومعشوقاتها مُفنّنة، وهي بحسب مراتبها في العلوم، ودرجاتها في المعارف. وذلك أن النفس الشهوانية لا يليق بها محبة الرياسة والقهر الغلبة، ولا النفس الحيوانية يليق بها محبة العلوم والمعارف، واكتساب الفضائل؛ ولا النفس الملكية يليق بها محبة الأجساد والكون من الأجسام اللحميّة والدموية، بل الذي يليق بها محبة فراق الأجساد، والارتقاء إلى ملكوت السماء، والسَّيحان في سعة فضاء الأفلاك، والتَّنسم من ذلك الروح والرَّيحان المذكور في القرآن.
ومن أجل هذا الذي ذكرنا من مراتب النفوس وما يليق بها من المعشوقات، أنّك لا تجد ول ترى نفساً تُحبّ وتعشق وتشتاق إلاّ لأبناء جنسها، وما شاكلها من المحبوبات والمعشوقات. مثال ذلك أنفس الصِّبيان والناقصين من الناس، فإنهم لا يُحبون ولا يعشقون إلاّ اللِّعب والتماثيل المصوَّرة من الأشكال والمحاسن، والزينة الموجودة في الأشكال والأجساد اللحمية، من الحيوان والناس، وهي المحبوبة المرغوبة فيها، المشتهاة المعشوقة عند أكثر الناس من البالغين العقلاء. فإذا ارتضت نفوسهم في العلوم الإلهية والمعارف الرَّبانية، ارتفعت نفوسهم أيضاً عن هذه الصور والتماثيل المزوَّقة الموجودة في اللحم والدم إلى ما هي أشرف منها وأفضل، وهي الصورة للنفوس ذوات الحسن والبهاء والكمال والجمال التي تراها النفوس الناطقة الناجية من عالم الأرواح.
ثم اعلم أنه لما قَصُرت إفهام كثيرٍ من الناس عن تصوّرها، وقَلَّت معرفتهم بها، رضوا بهذه الصور والأشباح الجسمية الجسدانية المؤلفة من اللحم والدم، والصَّديد، واطمأنوا إليها، وسكنوا إليها، وتمنّوا الخلود بها لنقص نفوسهم، كما ذكر الله تعالى: "رضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون." وآياتٌ كثيرة في القرآن في هذا المعنى.
ثم اعلم يا أخي أنه مُقرَّر في طباع الموجودات، وجبلة النفوس، محبّة البقاء، والدوام السرمدي، على أتمّ حالات النفس الشّهوانية بأن تكون موجودة أبداً، تتناول شهواتها، وتتمتع بلذاتها التي هي مادة وجود أشخاصها، من غير عائق ولا تنغيص.
وهكذا من أتمّ حالات النفس الحيوانية أن تكون موجودةً أبداً، رئيسةً على غيرها، قاهرةً لمن سواها، منتقمةً ممن يؤذيها من غير عائق ولا تنغيص.
وهكذا أيضاً من أتم حالات النفس الناطقة أن تكون موجودةً أبداً، مدركةً لحقائق الأشياء، مُتصوِّرة لها، ملتذةً بها، مسرورةً فرحانةً بلا عائق ولا تنغيص.
وإنما صارت النفوس الناطقة تلتذ بالعلوم والمعارف، لأن صور المعلومات في ذاتها هي المُتمِّمة لها، والمُكمِّلة لفضائلها، المُبلِّغة لها إلى أتم غاياتها، وأفضل نهاياتها عند باريها، جلّ ثناؤه، كما قال تعالى: "في مقعد صدق عند مليك مقتدر".
ثم اعلم أن هذه الأحوال لا تليق بالنفس الشهوانية، ولا بالنفس الغضبية، ولكن تليق بالنفس الناطقة إذا انتبهت من نوم الغفلة، واستيقظت من رقدة الجهالة، وانفتحت لها عين البصيرة، وعاينت عالمها، وعرفت مبدأها ومَعادَها، واشتاقت عند ذلك إلى باريها، وتاقت وحنَّت إليه، كما يحنُّ العاشق إلى معشوقه. وإلى هذا أشار بقوله تعالى: "والذين آمنوا أشد حبّاً لله" يعني من كل محبوب سواه.
ثم اعلم أن كل نفس، إذا أحبّت شيئاً اشتاقت وحنّت نحوه، وطلبته وتوجهت نحوه حيث كان، ولم تلتفت إلى شيء سواه، ولم تُعرِّج عليه كما قال الشاعر:
أُحبُّ حبيباً واحداً لست أبتـغـي مدى الدهر، عنه، ما حييتُ، بديلا
فإن ظفرت كفي به فهو بُغيتـي وإن فات، ما أبغي سواه خلــــــيلا
ثم اعلم أن كل مُحب لشيء من الأشياء مشتاقٌ إليه، هائمٌ به، وأنه متى وصل إليه ونال ما يهواه منه، وبلغ حاجته من الاستمتاع به والتلذذ بقُربه، فإنه ولا بُدّ يوماً من أن يفارقه، أو يَملَّه، أو يتغير غليه. وتذهب تلك الحلاوة، وتتلاشى تلك البشاشة، ويخمد لهب ذلك الاشتياق والهيجان، إلاّ المحبين لله تعالى من المؤمنين والمشتاقين إليه من عباده الصالحين، فإن لهم كل يوم من محبوبهم قربةً ومزيداً أبد الآبدين، بلا نهاية ولا غاية. وإلى المحبين لسواه، عز وجل، أشار بقوله: "كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً." ثم عطف نحو محبيه فذكر حالهم وكنى عن ذكرهم وإلى نحو ذِكرهم فقال تعالى: "ووجد الله عنده فوفاه حسابه" يعني عند المحبّ. وكما روي في الخبر عن موسى، عليه السلام، أنه نادى ربه فقال: "يا رب أين أجدك؟" فقال: "عند المُنكسرة قلوبهم من أجلي." وقال عليه السلام: اعبُد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
ثم اعلم أن رؤية أولياء الله تعالى، جلّ اسمه، ليست كرؤية الأشخاص، والأشباح، والصور، والأجناس، والأنواع، والجواهر، والأعراض، والصفات و الموصوفات في الأماكن والمحاذيات، ولكن بنوع أشرف منها وأعلى، وفوق كل وصف جسماني، ونعتٍ جِرْماني، وهي رؤية نور بنور، لنور في نورٍ من نور، كما قال الله تعالى: "الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية" أي لا صُريةٍ ولا هَيُولانيَّة.
ثم اعلم أن الغرض الأقصى من وجود العشق في جبلة النفوس ومحبتها الأجساد واستحسانها لها ولزينة الأبدان، واشتياقها إلى المعشوقات المفتنَّة، كل ذلك إنما هو تنبيهٌ لها من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ورياضةٌ لها وتعريجٌ لها وترقيةٌ من الأمور الجسمانية المحسوسة إلى الأمور النفسانية المعقولة، ومن الرتبة الجِرْمانية إلى المحاسن الروحانية، ودلالةٌ على معرفة جوهرها، وشرف عنصرها، ومحاسن عالمها، وصلاح معادِها، وكل ذلك أن جميع المحاسن والزينة، وكل المشتهيات من المرغوب فيها الذي يُرى على ظواهر الأجرام وسطوح الأجسام، إنما هي أصباغٌ ونقوشٌ، ورسومٌ قد صورتها النفس الكلية في الهيولى الأُولى، وزيّنت بها ظواهر الأجرام وسطوح الأجسام، كيما إذا نظرت إليها النفوس الجزئية، جنَّت إليها، وتشوَّقت نحوها، وقصدت لطلبها، بالنظر إليها، والتأمل لها، والتفكر فيها، والاعتبار لأحوالها، كل ذلك كيما تتصور تلك الرسوم والمحاسن والنقوش في ذاتها، وتنطبع في جوهرها، حتى إذا غابت تلك الأشخاص الجرمانية عن مشاهدة الحواس لها، بقيت تلك الرسوم والصور المعشوقة المحبوبة مُصوَّرةً فيها أعين النفوس الجزئية، صورةً روحانية، صافيةً، باقية معها معشوقاتها، مُتحدة بها، لا تخاف فِراقها ولا فواتها أبداً.
والدليل على ما قلنا وصحة ما وصفنا معرفة من عشق يوماً من أيام عمره لشخص من الأشخاص ثم تسلّى عنه، أو فقده، أو تغيّر غليه، ثم إنه وجده من بعده، وقد تغيّر عما كان عليه، وعَهِده من الحسن والجمال وتلك الزينة والمحاسن التي كان رآها على ظاهر جسمه، فإنه متى رجع عند ذلك، فنظر إلى تلك الرسوم والصُّوَر التي هي باقيةٌ في نفسه من العهد القديم، وجدها بحالها تلك ولم تتغير، ولم تتبدل، ورآها برمتها، فتشاهد النفس في ذاتها حينئذ، من تلك المحاسن والصور والرسوم والأصباغ، ما كانت من قبل تراها على غير تغيُّرٍ، وتجد في جوهرها ما كانت قبل ذلك تطلبه خارجاً عنها. فعند ذلك تبين له وعلم أن المعشوق والمحبوب بالحقيقة إنما هي تلك الرسوم والصور التي كان يراها على ذلك الشخص، وهو اليوم يراها منقوشةً في نفسه، مرسومةً في ذاته، باقية لم تتغير! فإذا فكَّر العاقل اللبيب فيما وصفنا، انتبهت نفسه من نوم غفلتها، واستيقظت من رقدة جهالتها، واستقلت بذاتها، وفازت بجوهرها، واستغنت عن غيرها، وكان حالها كما وصف المحب بقوله:
قد كنت آلف موطناً وتشوقُنـي نحو الأحبّة، لوعةٌ ما تُـنـكَـرُ
والآن ما لي مَصْدرٌ عن مورِدي ما للعبيد عن المالي مَـصْـدَرُ
فاستراحت نفسه عند ذلك من تعبها وعنائها، ومُقاساة صُحبة غيرها، وتخلصت من السقام الذي لا يزال يَعرِضُ لعاشقي الأجرام، ومحبي الأجسام، حسب ما وصفوه في أشعارهم، وشكوه من أحوالهم، كما قال بعضهم:
وما في الأرض أشقى من مُحبٍّ = وإن وجد الهوى حُلوَ المَذاقِ
تراه باكـياً، فـي كـل حـيـــــــن = مخـافة فُـرقةٍ أو لاشـتـيـــاقِ
فيبكي، إن نأى، شـوقـاً إلـيــــه = ويبكي، إن دنا، خوف الفِـراقِ
فتسخنُ عينُه عنـد الـتـنـــــائي = وتسخَنُ عينُه عنـد الـتـــلاقي

* فصل في نظر الحكماء إلى الصانع
ثم اعلم أن من ابتُلي بعشق شخص من الأشخاص، ومرّت به تلك المِحَن والأهوال، وعرضت تلك الأحوال، ثم لم تنتبه نفسه من نوم غفلتها، فيتسلى ويُفيق؛ أو نسي وابتُلي من بعد بعشق ثانٍ لشخص آخر، فإن نفسه غريقة في عمائها، سكرى في جهالاتها كما قيل:
تسلَّت عماياتُ الرجال عن الصبا = وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
ثم اعلم أن في الناس خواصَّ، وعوامَّ، فالعوامّ من الناس هم الذين إذا رأوا مصنوعاً حسناً، أو شخصاً مزيّناً، تشوّقت نفوسهم إلى النظر إليه، والقُرب منه، والتأمل له. وأما الخواصّ فهم الحكماء الذين إذا رأوا صنعة محكمةً، أو شخصاً مزيناً، تشوّقت نفوسهم إلى صانعها الحكيم ومُبدئها العليم، ومُصوِّرها الرحيم، وتعلقت به، وارتاحت إليه، واجتهدوا في التشبه به في صنائعهم، والاقتداء به في أفعالهم، قولاً وفعلاً، وعِلماً وعملاً.
ثم اعلم أن النفوس الناقصة تكون قصيرة الهمم، لا تحب إلاّ زينة الحياة الدنيا، ولا تتمنى إلاّ الخلود فيها، لأنها لا تعرف غيرها، ولا تتصوّر سواها. فأما النفس الشريفة المُرتاضة فهي تأنف من الرغبة في الدنيا، بل تزهد فيها، وتريد الآخرة وترغب فيها، وتتمنى اللُّحوق بأبناء جنسها وأشكالها من الملائكة، وتشتاق إلى الترقّي إلى ملكوت السماء، والسيحان في سعة فضاء الأفلاك، ولكن لا يمكن إلا بعد فراق الجسد، على شرائط محدودة، كما ذكرنا في رسالة البعث والقيامة.
واعلم أن نفوس الحكماء تجتهد في أفعالها، ومعارفها، وأخلاقها، في التشبّه بالنفس الكلية الفلكية، وتتمنى اللُّحوق بها. والنفس الكلية أيضاً كذلك، فإنها تتشبه بالباري في إدارتها الأفلاك، وتحريكها الكواكب، وتكوينها الكائنات، كلّ ذلك طاعةً لباريها، وتعبُّداً له، واشتياقاً إليه. ومن أجل هذا قالت الحكماء: إن الله هو المعشوق الأول، والفلك إنما يدور شوقاً إليه، ومحبةً للبقاء والدوام المديد على أتم الحالات، وأكمل الغايات، وأفضل النهايات.
ثم اعلم أن الباعث للنفس الكلية، على إدارة الفلك، وتسيير الكواكب، هو الاشتياق منها إلى إظهار تلك المحاسن والفضائل والملاذّ والسرور التي في علام الأرواح التي تقصُر ألسن الوصف عنها إلاّ مختصراً كما قال تعالى: "فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين".
ثم اعلم أن تلك المحاسن والفضائل والخيرات كلّها إنما هي من فيض الله، وإشراق نوره على العقل الكلي، ومن العقل الكلي على النفس الكلية، ومن النفس الكلية على الهيولى. زهي الصورة التي تُري الأنفس الجزئية في عالم الأجسام، على ظواهر الأشخاص والأجرام التي من محيط الفلك إلى مُنتهى مركز الأرض.
ثم اعلم أن مثل سريان تلك الأنوار والمحاسن، من أولها إلى آخرها، كمثل سريان النور والضياء الذي في ليلة البدر مُنبعثاً من جرم جمهر القمر على الهواء؛ والذي على جرم الشمس؛ والذي على جرم الشمس والكواكب جميعاً، من إشراق النفس الكلية؛ الذي على النفس الكلية من العقل الكلي؛ والذي على العقل الكلي من فيض الباري وإشراقه، كما قال الله تعالى: "الله نور الأرض والسموات".
فقد تبين بما ذكرنا أن الله هو المعشوق الأول، وأن كل الموجودات إليه تشتاق، ونحوه تقصد، وإليه يرجع الأمر كلّه. لأن به وجودها، وقِوامها، وبقاءَها، ودوامها، وكمالها. لأنه هو الموجود المَحض، وله البقاء والدّوام السّرمد، والتمام والكمال المؤيَّد، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاهلون عُلوّاً كبيراً. بلَّغك الله، أيها الأخ، إليه، وتمّم نورك، كما وعد أولياءه وأصفياءه من عباده، وذلك قوله تعالى: "يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا، إنك على كل شيء قدير" وفّقك الله وإيانا، وجميع إخواننا الكرام، إلى طريق السّداد، وهداك وإيانا، وجميع إخواننا، سبيل الرَّشاد، إنه رؤوفٌ بالعباد.

تمت رسالة ماهية العشق ويليها رسالة البعث والقيامة.

نهاية الرسالة السادسة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى