القصائد الموَّجهةُ للطِّفل ودورها في إثراء رصيده اللّغوي من منظور ثنائية المُثير والاستجابة "قصائد صلاح الدين باوية أنموذجا"
إعداد: أ. رياض بوبسيط
ملخص:
عندما كانت الطفولة الخطوة الأولى للإنسان نحو هذا العالم المليء بالتجارب والخبرات، كان كلُّ الاهتمام مصوّبا نحوها كمرحلةٍ يكتسب الطفل فيها أدوات التعرف والتعايش مع العالم الخارجي، فاجتهدت العلوم وتضافرت جهودُ الأدباء والفلاسفة من أجل الاهتمام بالطفل كحالة أوليّة لشخصيّة مستقبلية تبنيها مختلف الأفكار والرؤى الواردة على شكل فنون تثير قدراته العقلية والنفسية فيستجيب لها. وهنا كَثر الاهتمام بالأدب الموجه لهذا الطفل بداية بالأساطير والخرافات والأحاجي وصولا إلى القصص والمسرحية والشعر والأناشيد والرسوم الكرتونية.
تمهيد:
بعد أن كان أدب الطفل يقتصر في جذوره الأولى على نقل الأساطير والخرافات والأحاجي نقلا شفويا، عرف هذا النوع من الأدب ازدهارا كبيرا مع بداية القرن السابع عشر ، حيث بدأ تأليف القصص وحكايات الأطفال وإردافها في أحيان كثيرة برسومات وصور تعبّر عن مضمون تلك القصص والأناشيد، وهذا ما يمتع الطفل ويثير ذائقته نحو هذا الأدب الذي يعنى به وببناء شخصيته ومقوماتها الذهنية والنفسية والسلوكية، لتتسع دائرة أدب الطفل أكثر فأصبحت تشمل القصائد الموجهة إليه والتي ترّكز على قدراته في الاستجابة لها. وهنا نتساءل: ما دور القصائد في إثراء الرّصيد اللّغوي للطّفل انطلاقا من ثنائية المثير والاستجابة؟
1/ القصائد فرعًا من فروع أدب الطفل:
تعتبر القصيدة من أهم الفروع التي اشتغل عليها الأدباء من أجل إثارة القدرات اللّغوية والموسيقية والتعبيرية للطّفل وهو في نشأته الأولى وذلك لما تحمله الأشعار من لغة جذابة وأنغام وتصويرات شعرية تثير الطفل فيستجيب لها بالتغني والحفظ.
هذا وقد أكدت التربية الحديثة على أهمية الأغاني والأناشيد بالنسبة للأطفال والصغار ودعت إلى تدريبهم على أدائها ، ونحن نحسب أنّ القصائد هي الأكثر تأثيرا على الطفل لسهولتها وبساطتها وقصرها، ولما لها من جماليات موسيقية تطرب الأذن وتجذبها لتذوق هذه القصائد والاستمتاع بها.
2/ إرهاصات القصائد الموّجهة للأطفال:
توجّه إلى هذا الفرع من أدب الطفل أشهر الأدباء العالميين، إسهاما منهم في إثراء مكتبة الطفل، ورغبةً في حشده بمختلف الفنون الأدبية التي تساعده على الاستقامة اللّغوية والفكرية والكلاميّة بصفة خاصة. "يتقدمهم الشاعر الفرنسي لافوتين، والشاعر الروسي بوشكين ومواطنه مايا كوفسكس والشاعر الكبير إيفان كريلوف .
أمّا عربيا فالموروث الأدبي العربي لا يخلوا إطلاقا من اهتمامه بكتابات الطفل، وإذا ما تحدثنا عن قصائد الطفولة فلا بد من الحديث عن أمير الشعراء أحمد شوقي "والذي ألّف أكثر من ثلاثين قصة شعرية وعشر مقطوعات ما بين أغنية وأنشودة منها حكاية الثعلب والديك" .
من القصائد الموّجهة للطّفل والتي ظلّت خالدة في موروث الطفل العربي أنشودة عمي منصور النجار للكاتب السوري زكريا تامر.
الحقبة الزمنية التي عاش فيها هؤلاء الشعراء العرب، تجعلنا نستنتج أنّ الاهتمام العربي الفعلي بأدب الطفل كان تزامنا مع عصر النهضة، ونحن بهذا نقصد التأليف وليس النقل الشفوّي والذي يعدّ من ثقافة العرب وعاداتها وتقاليدها.
أمّا في الجزائر فقد برزت أسماء شعرية كبيرة اشتغلت على قصائد الطفل والأناشيد والمحفوظات على غرار: "محمد العيد آل خليفة، مفدي زكريائ،محمد الأخضر السائحي، محمد ناصر، يحي مسعودي، بوزيد حرز اللّه، جمال الطاهري وصلاح الدين باوية وغيرهم" ، وهي أسماء فاعلة في أدب الطفل الجزائري والعربي على وجه السواء.
3/ دور القصائد الموجهة للطفل وفوائدها:
للقصائد الموّجهة للطّفل دور تربوي وتثقيفي يرتكز على تربية الطفل وغرس القيم الخُلقية والدينية فيه انطلاقا من المواضيع المختارة بدقة، والتي تساهم في تثقيفه والإحاطة بانتماءاته الفكرية والدينية واللّغوية، فانفتاح الطفل الصغير على هذه القصائد والتغّني بها إنما هو انفتاح على مجتمعه وخصوصياته الإيديولوجية.
لهذا النوع من الأدب فوائد كثيرة نحسب أنّه يتقاسمها مع الفروع الأخرى لأدب الطفل من قصة ومسرحية، وعلى هذا الأساس سنرّكز حديثنا عن اللّغة، حيث أنّ الفائدة الأسمى من هذه القصائد تتمثل في تزويد الطفل بأكبر عدد ممكن من المفردات والعبارات حتى تتشكّل لديه ملكة لغوية سليمة، خاصة وأنّ الطفل يتعلم لغته من البيئة التي يعيش فيها فالطفل ابن بيئته، ولا بديل له إلا أن يتعلم لغته من القصص والأناشيد والأشعار التي تغنى على مسامعه والتي توضع في برامجه الدراسية.
هذا ويجدر الإشارة إلى أنّ قراءة الطفل للقصائد المُراعية له ولسنه ولقدراته العقلية ستمنحه كفاءة لغوية ليس لها مثيل، ذلك أنّ لغة الشعر مليئة بالترادفات والتضاد والمحسنات البديعية، وفي هذه الحالة يصبح الطفل غزير الإنتاج أثناء كلامه لأن رصيده اللّغوي غير محدود.
4/ إثراء القصائد للرّصيد اللّغوي من منظور المثير والاستجابة:
ترى النظرية السلوكية أنّ عملية التعلم مرتبطةٌ "بمجموعة من الاستجابات الناتجة عن مثيرات المحيط الخارجي طبيعيا كان أو اجتماعيا". وانطلاقا منه فإنّ اكتساب الطفل للّغة وتعلمها يبدأ من هذه المثيرات التي تلفت انتباهه فيتفاعل معها، وبالحديث عن الشّعر فإنّا نرى أنّه على الأديب الذي يوّجه نصّه إلى الطفل أن يراعي فيه الحالات النفسية والذهنية للطفل، مع الأخذ بعين الاعتبار قدرة تعرض هذا الطفل لأمراض تصعب عليه عملية اكتساب اللّغة. وتكون عملية التأثير على النحو الآتي:
* أن يهتم الشاعر برغبة الطّفل وفضوله في اكتشاف اصطلاحات ومعانٍ جديدة ربما لم يكن يعرفها من قبل.
* أن يضع الشاعر احتمالية جهل هذا الطّفل بالموضوع الذي يتحدث عنه في نصه، فيعتمد في طرحه على البساطة والسهولة التامة حتى يحبّبه فيه.
* أن لا يتعامل مع الطفل الصغير كما الطفل البالغ لغويا، فهو لا يزال عاجزا على فهم لغة المجاز.
* أن يكثر في نصوصه من المشاعر والوجدان والعادات والتقاليد والأفكار، خاصة وأنّ هذه القصائد بمثابة الوسائل الأولى التي يعتمدها الطفل لتنمية قدراته المعرفية نطقا وفهما.
* مراعاة الحالات النفسية للطفل ومحاولة احتوائها بالإكثار من المواضيع التي تسعده كاللّعب وقصائد الحيوان وغيرها.
* تجعل عقله خصبا بالمصطلحات والمعاني وتعلّمه التخيّيل، وهنا يستخدم اللّغة الحالمة.
إنّ هذه النقاط وإن توفرت في أيّ نص شعري، فإنّما تثير الطفل وتجعله يحفظ هذه القصائد عن ظهر قلب، فيكرّرها مرات عديدة، حتى يتعلم مصطلحاتها ويوظفها في كلامه العادي واليومي، وقد تصل به درجة التأثير إلى حدود التمكن من الوزن ورصف الكلمات رصفا متتابعا تتلاحق فيه المفردات المسجوعة.
5/ قصائد صلاح الدين باوية أنموذجا:
إنّ المطّلع على قصائد الشاعر الجزائري صلاح الدّين باوية "حديقة الملائكة"، يجدها موافقة لقدرات الطفل الصغير الذي بدأ تعلم اللّغة واكتساب زاد معرفي فيها لتوّه، حيث استخدم فيها كلمات مألوفة اعتاد الطفل سماعها في الشارع وفي المدرسة وعبر شاشات التلفزيون من خلال برامج الأطفال. كما أنّه قام بتركيبها اعتمادا على الأساليب السهلة البسيطة والخفيفة على ذوق الطفل كقارئ وسامع ومنشد، حتى تسهل عليه عملية تلحين هذه الأشعار وإنشادها.
موضوعاتها:
تطرق صلاح الدين باوية في نصوص "حديقة الملائكة" إلى موضوعات من طفولة الطفل وواقعه البريء، حيث عالج كلّ موضوع له صلة بالطفولة وهي المرحلة التي تُشعر الطفل بقيمته وأهميته ككائن يسعى الجميع إلى حمايته وتعليمه وتربيته التربية المُثلى. فكتب لنا شاعرنا قصائد:
* الطفولة
*أنشودة الطفل الصغير
* الطفل والروضة
*جاري
* عيد المعلم
*الفتى الناجح
* صغيرتي
* أحب أمي وأبي
*معلمي
ولأنّ هذه المواضيع تؤثر في الطفل وتساهم في بناء شخصيته وتكوينها تكوينا أساسيا، تعمّد الشاعر التطرق إلى موضوعات تمثّل الخلفية الدينيّة للطفل العربي، وذلك بهدف تربيته على أسس الدين الإسلامي وتعويده على الممارسات والسلوكيات النابعة من عمق مجتمعه الإسلامي على غرار:
* إلاهي
* أصلّي صلاتي
*رمضان
* إلى رحاب المسجد
* اقبل العيد
ولأنّ الطفل في هذه المرحلة يكون أكثر انجذابا للوسائل التي تمتعه وتمنح له كلّ مقومات الرفاهية، كتب صلاح الدين باوية عن:
* كرة القدم
* الهاتف النقال
* الثلج
* محفظتي
* معطفي
* تلفاز
سبق وأشرنا في عنصر المثير والاستجابة إلى أنّ الشاعر لابد عليه أن يتعامل مع قصائده على أساس أنها مادة يكتسب منها الطفل معلوماته الإيديولوجية والإنتمائية وأنّ هذه النصوص من الوسائل التي تعلم الطفل أصوله وعاداته وتقاليده لأنه في هذه المرحلة يكون صفحة بيضاء، وهذا ما نلحظ أنّ صلاح الدّين باوية تفطن إليه فكتب للطفل العربي عن مقومات شخصيته العربية والقومية من أجل شحنه بمبادئ الفحولة العربية. ويتجلى ذلك في نصوص:
* عربي
* فلسطيني
* الأقصى
*سيبقى العراق
* لن تغرب شمس الحرية
العنونة:
إنّا نحسب أنّ الكاتب صلاح الدين باوية كان ذكيا في اختيار عناوين قصائده، حيث أنّ عناوينا كالتلفاز، الهاتف النقّال، كرة القدم، أمي، ومحفظتي...، تثير الطفل وتجعله يعطي انطباعا اتجاهها خاصة وأنّه يتعلق بهذه الأشياء ويعتبرها جزءا لا يتجزأ من طفولته.
هذا ويجدر الإشارة إلى أنّ هذه الكلمات التي احتوت معاني أبيات بأكملها إنمّا ستعود على الطفل بالمنفعة إذ ستعلمه الإيجاز والاختصار وتلخيص أفكار كاملة في كلمة واحدة فقط.
المعجم اللغوي:
لم تكن حديقة الملائكة كمجموعة شعرية موّجهة للطفل، متكلفة في كلماتها، حيث أنّها اختارت من الألفاظ ما هو سهل ومتداول بين الأطفال، من كلمات عادية ومباشرة تمثل أشياءه ولوازمه، ما يجعل الطفل يتفاعل معها ويفهم معانيها ومقاصدها دون تكلف أو تخمين.
إنّ المعجم اللّغوي الذي اعتمده الشاعر هنا معجم بسيط غير معقّد، يحتوي على كلّ الكلمات التي يستطيع الطفل فهمها وتعلمها من أوّل مرة، بل إنّ أغلبها كلمات حسية يلحظها ويلمسها في واقعه الطفولي. جاء في نص أمّي:
أمِّي.. أمِّي أحلى ماما
أغلى ما في الكون تمامَا
تشقى أمِّي دوما تتعب
طولَ اليومِ تأتي. تذهب
بين الأسرة لا ترتاح
مثل النخلة فهي كفاح
هذه المفردات تعبر عن واقع يعيشه الطفل ويعايشه يوميا كحبّه لأمه وتعبها وشقائها، وهو لن يجد أيّ صعوبة في التفاعل مع هذه العبارات خاصة وهي تثير نفسيته، فالطفل شديد التعلّق بأـمه.
من القصائد المكتوبة للطفل والتي تراعي رغبته الجامحة في اللّعب، نص:
هيّا بنا لّلعب
هيّا بنا للّعِب من بعد درس الكُتب
عندي منَّ الألعَابِ ما ينسي جميع التّعب
لي لعبةٌ جميلةٌ قد اشتراها لي أبي
وأيضا نص كرة القدم:
كرة القدم منذ القدم
قد اشتهرت بين الأمم
كم أعشقها تجري بدمي
كم من هدف قد سجلت
وسط المرمى إذا سدّدتُ
فأنّا بطل لم أنهزم
وإنّا نقول بأنّ صاحب النص لم يُكثر من المفردات والكلمات بل اكتفى بكلمتين أو ثلاثة في كلّ سطر، حتى يستطيع الطفل أن يستوعب هذا الكمّ من الكلمات، ذلك أنّه في هذا السن لا يمكنه أن يتعلم ويحفظ كلّ المعجم اللّغوي، ولهذا انتقى الشاعر الكلمات الأسهل والأكثر قابلية للحفظ السريع، خاصة وأنها من واقعه، ونحن لا نعتقد أنّ الطفل سينسى المعجم اللّغوي الذي يتكلمه في منزله ومع أصدقائه والذي يدل على أشياء يلحظها ويلعب بها يوميا.
المعجم العاطفي:
اعتمد الشاعر على مفردات عاطفية في نصوص مختلفة من أجل إثارة وجدان الطفل وتحريك عاطفته حتى تبقى هذه المفردات راسخة فيه فهو لا يمكن له أن ينسى مثلا الشخص الذي ضربه، كما لا يمكن له أن ينسى الكلمات التي تسعده أو تحزنه ومن ذلك أن قولك للطفل سأضربك سوف يجعله يبكي. من هذه المفردات:
حب، حُلم، نبيلة، السرّور، المضرَّة، الإحساس، قلبي، اعشقه، الموت...
المعجم الديني:
منّ الكلمات التي تخلّف في ذهن الطفل ميولات وانتماءات إلى الإسلام والمسلمين الكلمات الدينية وهذا ما وظّفته هذه النصوص عمدا حتى تجعل الطفل يفهم بأنّه ينتمي إلى هذه الإيديولوجية الدينية وانّ عليه أن يتفاعل معها بالاستجابة لها وتطبيقها على أرض الواقع عندما يحين وقت ذلك: إلاهي، بحمدك رّبي، الدّعاء، أذكرّ ربي، المسجد، أصلّ صلاتي، المؤّذِّن، شهر العبادة والتقى، الصيّام فريضة..
إنّ المعجم اللّغوي في هذه القصائد تقريبا يتعلّمه الطفل العربي ويكتسبه بسهولة لأنّه يثير عواطفه وواقعه وسلوكه الاجتماعي أيضا فيستجيب له بالحفظ والقبول.
الخاتمة:
إنّ توظيف اللّغة التي تثير انتباه الطفل وحاسته توظيفا مثاليا يرقى بالشعر ليكون أفضل الفروع في أدب الطفل نظرا لخصوبة لغته وجمالياتها الفنية والموسيقية، ثم إنّه هو من يجعل الطفل ذواقا للّغة محسنا لاختيار منها ما يفيد وينفع.
إعداد: أ. رياض بوبسيط
ملخص:
عندما كانت الطفولة الخطوة الأولى للإنسان نحو هذا العالم المليء بالتجارب والخبرات، كان كلُّ الاهتمام مصوّبا نحوها كمرحلةٍ يكتسب الطفل فيها أدوات التعرف والتعايش مع العالم الخارجي، فاجتهدت العلوم وتضافرت جهودُ الأدباء والفلاسفة من أجل الاهتمام بالطفل كحالة أوليّة لشخصيّة مستقبلية تبنيها مختلف الأفكار والرؤى الواردة على شكل فنون تثير قدراته العقلية والنفسية فيستجيب لها. وهنا كَثر الاهتمام بالأدب الموجه لهذا الطفل بداية بالأساطير والخرافات والأحاجي وصولا إلى القصص والمسرحية والشعر والأناشيد والرسوم الكرتونية.
تمهيد:
بعد أن كان أدب الطفل يقتصر في جذوره الأولى على نقل الأساطير والخرافات والأحاجي نقلا شفويا، عرف هذا النوع من الأدب ازدهارا كبيرا مع بداية القرن السابع عشر ، حيث بدأ تأليف القصص وحكايات الأطفال وإردافها في أحيان كثيرة برسومات وصور تعبّر عن مضمون تلك القصص والأناشيد، وهذا ما يمتع الطفل ويثير ذائقته نحو هذا الأدب الذي يعنى به وببناء شخصيته ومقوماتها الذهنية والنفسية والسلوكية، لتتسع دائرة أدب الطفل أكثر فأصبحت تشمل القصائد الموجهة إليه والتي ترّكز على قدراته في الاستجابة لها. وهنا نتساءل: ما دور القصائد في إثراء الرّصيد اللّغوي للطّفل انطلاقا من ثنائية المثير والاستجابة؟
1/ القصائد فرعًا من فروع أدب الطفل:
تعتبر القصيدة من أهم الفروع التي اشتغل عليها الأدباء من أجل إثارة القدرات اللّغوية والموسيقية والتعبيرية للطّفل وهو في نشأته الأولى وذلك لما تحمله الأشعار من لغة جذابة وأنغام وتصويرات شعرية تثير الطفل فيستجيب لها بالتغني والحفظ.
هذا وقد أكدت التربية الحديثة على أهمية الأغاني والأناشيد بالنسبة للأطفال والصغار ودعت إلى تدريبهم على أدائها ، ونحن نحسب أنّ القصائد هي الأكثر تأثيرا على الطفل لسهولتها وبساطتها وقصرها، ولما لها من جماليات موسيقية تطرب الأذن وتجذبها لتذوق هذه القصائد والاستمتاع بها.
2/ إرهاصات القصائد الموّجهة للأطفال:
توجّه إلى هذا الفرع من أدب الطفل أشهر الأدباء العالميين، إسهاما منهم في إثراء مكتبة الطفل، ورغبةً في حشده بمختلف الفنون الأدبية التي تساعده على الاستقامة اللّغوية والفكرية والكلاميّة بصفة خاصة. "يتقدمهم الشاعر الفرنسي لافوتين، والشاعر الروسي بوشكين ومواطنه مايا كوفسكس والشاعر الكبير إيفان كريلوف .
أمّا عربيا فالموروث الأدبي العربي لا يخلوا إطلاقا من اهتمامه بكتابات الطفل، وإذا ما تحدثنا عن قصائد الطفولة فلا بد من الحديث عن أمير الشعراء أحمد شوقي "والذي ألّف أكثر من ثلاثين قصة شعرية وعشر مقطوعات ما بين أغنية وأنشودة منها حكاية الثعلب والديك" .
من القصائد الموّجهة للطّفل والتي ظلّت خالدة في موروث الطفل العربي أنشودة عمي منصور النجار للكاتب السوري زكريا تامر.
الحقبة الزمنية التي عاش فيها هؤلاء الشعراء العرب، تجعلنا نستنتج أنّ الاهتمام العربي الفعلي بأدب الطفل كان تزامنا مع عصر النهضة، ونحن بهذا نقصد التأليف وليس النقل الشفوّي والذي يعدّ من ثقافة العرب وعاداتها وتقاليدها.
أمّا في الجزائر فقد برزت أسماء شعرية كبيرة اشتغلت على قصائد الطفل والأناشيد والمحفوظات على غرار: "محمد العيد آل خليفة، مفدي زكريائ،محمد الأخضر السائحي، محمد ناصر، يحي مسعودي، بوزيد حرز اللّه، جمال الطاهري وصلاح الدين باوية وغيرهم" ، وهي أسماء فاعلة في أدب الطفل الجزائري والعربي على وجه السواء.
3/ دور القصائد الموجهة للطفل وفوائدها:
للقصائد الموّجهة للطّفل دور تربوي وتثقيفي يرتكز على تربية الطفل وغرس القيم الخُلقية والدينية فيه انطلاقا من المواضيع المختارة بدقة، والتي تساهم في تثقيفه والإحاطة بانتماءاته الفكرية والدينية واللّغوية، فانفتاح الطفل الصغير على هذه القصائد والتغّني بها إنما هو انفتاح على مجتمعه وخصوصياته الإيديولوجية.
لهذا النوع من الأدب فوائد كثيرة نحسب أنّه يتقاسمها مع الفروع الأخرى لأدب الطفل من قصة ومسرحية، وعلى هذا الأساس سنرّكز حديثنا عن اللّغة، حيث أنّ الفائدة الأسمى من هذه القصائد تتمثل في تزويد الطفل بأكبر عدد ممكن من المفردات والعبارات حتى تتشكّل لديه ملكة لغوية سليمة، خاصة وأنّ الطفل يتعلم لغته من البيئة التي يعيش فيها فالطفل ابن بيئته، ولا بديل له إلا أن يتعلم لغته من القصص والأناشيد والأشعار التي تغنى على مسامعه والتي توضع في برامجه الدراسية.
هذا ويجدر الإشارة إلى أنّ قراءة الطفل للقصائد المُراعية له ولسنه ولقدراته العقلية ستمنحه كفاءة لغوية ليس لها مثيل، ذلك أنّ لغة الشعر مليئة بالترادفات والتضاد والمحسنات البديعية، وفي هذه الحالة يصبح الطفل غزير الإنتاج أثناء كلامه لأن رصيده اللّغوي غير محدود.
4/ إثراء القصائد للرّصيد اللّغوي من منظور المثير والاستجابة:
ترى النظرية السلوكية أنّ عملية التعلم مرتبطةٌ "بمجموعة من الاستجابات الناتجة عن مثيرات المحيط الخارجي طبيعيا كان أو اجتماعيا". وانطلاقا منه فإنّ اكتساب الطفل للّغة وتعلمها يبدأ من هذه المثيرات التي تلفت انتباهه فيتفاعل معها، وبالحديث عن الشّعر فإنّا نرى أنّه على الأديب الذي يوّجه نصّه إلى الطفل أن يراعي فيه الحالات النفسية والذهنية للطفل، مع الأخذ بعين الاعتبار قدرة تعرض هذا الطفل لأمراض تصعب عليه عملية اكتساب اللّغة. وتكون عملية التأثير على النحو الآتي:
* أن يهتم الشاعر برغبة الطّفل وفضوله في اكتشاف اصطلاحات ومعانٍ جديدة ربما لم يكن يعرفها من قبل.
* أن يضع الشاعر احتمالية جهل هذا الطّفل بالموضوع الذي يتحدث عنه في نصه، فيعتمد في طرحه على البساطة والسهولة التامة حتى يحبّبه فيه.
* أن لا يتعامل مع الطفل الصغير كما الطفل البالغ لغويا، فهو لا يزال عاجزا على فهم لغة المجاز.
* أن يكثر في نصوصه من المشاعر والوجدان والعادات والتقاليد والأفكار، خاصة وأنّ هذه القصائد بمثابة الوسائل الأولى التي يعتمدها الطفل لتنمية قدراته المعرفية نطقا وفهما.
* مراعاة الحالات النفسية للطفل ومحاولة احتوائها بالإكثار من المواضيع التي تسعده كاللّعب وقصائد الحيوان وغيرها.
* تجعل عقله خصبا بالمصطلحات والمعاني وتعلّمه التخيّيل، وهنا يستخدم اللّغة الحالمة.
إنّ هذه النقاط وإن توفرت في أيّ نص شعري، فإنّما تثير الطفل وتجعله يحفظ هذه القصائد عن ظهر قلب، فيكرّرها مرات عديدة، حتى يتعلم مصطلحاتها ويوظفها في كلامه العادي واليومي، وقد تصل به درجة التأثير إلى حدود التمكن من الوزن ورصف الكلمات رصفا متتابعا تتلاحق فيه المفردات المسجوعة.
5/ قصائد صلاح الدين باوية أنموذجا:
إنّ المطّلع على قصائد الشاعر الجزائري صلاح الدّين باوية "حديقة الملائكة"، يجدها موافقة لقدرات الطفل الصغير الذي بدأ تعلم اللّغة واكتساب زاد معرفي فيها لتوّه، حيث استخدم فيها كلمات مألوفة اعتاد الطفل سماعها في الشارع وفي المدرسة وعبر شاشات التلفزيون من خلال برامج الأطفال. كما أنّه قام بتركيبها اعتمادا على الأساليب السهلة البسيطة والخفيفة على ذوق الطفل كقارئ وسامع ومنشد، حتى تسهل عليه عملية تلحين هذه الأشعار وإنشادها.
موضوعاتها:
تطرق صلاح الدين باوية في نصوص "حديقة الملائكة" إلى موضوعات من طفولة الطفل وواقعه البريء، حيث عالج كلّ موضوع له صلة بالطفولة وهي المرحلة التي تُشعر الطفل بقيمته وأهميته ككائن يسعى الجميع إلى حمايته وتعليمه وتربيته التربية المُثلى. فكتب لنا شاعرنا قصائد:
* الطفولة
*أنشودة الطفل الصغير
* الطفل والروضة
*جاري
* عيد المعلم
*الفتى الناجح
* صغيرتي
* أحب أمي وأبي
*معلمي
ولأنّ هذه المواضيع تؤثر في الطفل وتساهم في بناء شخصيته وتكوينها تكوينا أساسيا، تعمّد الشاعر التطرق إلى موضوعات تمثّل الخلفية الدينيّة للطفل العربي، وذلك بهدف تربيته على أسس الدين الإسلامي وتعويده على الممارسات والسلوكيات النابعة من عمق مجتمعه الإسلامي على غرار:
* إلاهي
* أصلّي صلاتي
*رمضان
* إلى رحاب المسجد
* اقبل العيد
ولأنّ الطفل في هذه المرحلة يكون أكثر انجذابا للوسائل التي تمتعه وتمنح له كلّ مقومات الرفاهية، كتب صلاح الدين باوية عن:
* كرة القدم
* الهاتف النقال
* الثلج
* محفظتي
* معطفي
* تلفاز
سبق وأشرنا في عنصر المثير والاستجابة إلى أنّ الشاعر لابد عليه أن يتعامل مع قصائده على أساس أنها مادة يكتسب منها الطفل معلوماته الإيديولوجية والإنتمائية وأنّ هذه النصوص من الوسائل التي تعلم الطفل أصوله وعاداته وتقاليده لأنه في هذه المرحلة يكون صفحة بيضاء، وهذا ما نلحظ أنّ صلاح الدّين باوية تفطن إليه فكتب للطفل العربي عن مقومات شخصيته العربية والقومية من أجل شحنه بمبادئ الفحولة العربية. ويتجلى ذلك في نصوص:
* عربي
* فلسطيني
* الأقصى
*سيبقى العراق
* لن تغرب شمس الحرية
العنونة:
إنّا نحسب أنّ الكاتب صلاح الدين باوية كان ذكيا في اختيار عناوين قصائده، حيث أنّ عناوينا كالتلفاز، الهاتف النقّال، كرة القدم، أمي، ومحفظتي...، تثير الطفل وتجعله يعطي انطباعا اتجاهها خاصة وأنّه يتعلق بهذه الأشياء ويعتبرها جزءا لا يتجزأ من طفولته.
هذا ويجدر الإشارة إلى أنّ هذه الكلمات التي احتوت معاني أبيات بأكملها إنمّا ستعود على الطفل بالمنفعة إذ ستعلمه الإيجاز والاختصار وتلخيص أفكار كاملة في كلمة واحدة فقط.
المعجم اللغوي:
لم تكن حديقة الملائكة كمجموعة شعرية موّجهة للطفل، متكلفة في كلماتها، حيث أنّها اختارت من الألفاظ ما هو سهل ومتداول بين الأطفال، من كلمات عادية ومباشرة تمثل أشياءه ولوازمه، ما يجعل الطفل يتفاعل معها ويفهم معانيها ومقاصدها دون تكلف أو تخمين.
إنّ المعجم اللّغوي الذي اعتمده الشاعر هنا معجم بسيط غير معقّد، يحتوي على كلّ الكلمات التي يستطيع الطفل فهمها وتعلمها من أوّل مرة، بل إنّ أغلبها كلمات حسية يلحظها ويلمسها في واقعه الطفولي. جاء في نص أمّي:
أمِّي.. أمِّي أحلى ماما
أغلى ما في الكون تمامَا
تشقى أمِّي دوما تتعب
طولَ اليومِ تأتي. تذهب
بين الأسرة لا ترتاح
مثل النخلة فهي كفاح
هذه المفردات تعبر عن واقع يعيشه الطفل ويعايشه يوميا كحبّه لأمه وتعبها وشقائها، وهو لن يجد أيّ صعوبة في التفاعل مع هذه العبارات خاصة وهي تثير نفسيته، فالطفل شديد التعلّق بأـمه.
من القصائد المكتوبة للطفل والتي تراعي رغبته الجامحة في اللّعب، نص:
هيّا بنا لّلعب
هيّا بنا للّعِب من بعد درس الكُتب
عندي منَّ الألعَابِ ما ينسي جميع التّعب
لي لعبةٌ جميلةٌ قد اشتراها لي أبي
وأيضا نص كرة القدم:
كرة القدم منذ القدم
قد اشتهرت بين الأمم
كم أعشقها تجري بدمي
كم من هدف قد سجلت
وسط المرمى إذا سدّدتُ
فأنّا بطل لم أنهزم
وإنّا نقول بأنّ صاحب النص لم يُكثر من المفردات والكلمات بل اكتفى بكلمتين أو ثلاثة في كلّ سطر، حتى يستطيع الطفل أن يستوعب هذا الكمّ من الكلمات، ذلك أنّه في هذا السن لا يمكنه أن يتعلم ويحفظ كلّ المعجم اللّغوي، ولهذا انتقى الشاعر الكلمات الأسهل والأكثر قابلية للحفظ السريع، خاصة وأنها من واقعه، ونحن لا نعتقد أنّ الطفل سينسى المعجم اللّغوي الذي يتكلمه في منزله ومع أصدقائه والذي يدل على أشياء يلحظها ويلعب بها يوميا.
المعجم العاطفي:
اعتمد الشاعر على مفردات عاطفية في نصوص مختلفة من أجل إثارة وجدان الطفل وتحريك عاطفته حتى تبقى هذه المفردات راسخة فيه فهو لا يمكن له أن ينسى مثلا الشخص الذي ضربه، كما لا يمكن له أن ينسى الكلمات التي تسعده أو تحزنه ومن ذلك أن قولك للطفل سأضربك سوف يجعله يبكي. من هذه المفردات:
حب، حُلم، نبيلة، السرّور، المضرَّة، الإحساس، قلبي، اعشقه، الموت...
المعجم الديني:
منّ الكلمات التي تخلّف في ذهن الطفل ميولات وانتماءات إلى الإسلام والمسلمين الكلمات الدينية وهذا ما وظّفته هذه النصوص عمدا حتى تجعل الطفل يفهم بأنّه ينتمي إلى هذه الإيديولوجية الدينية وانّ عليه أن يتفاعل معها بالاستجابة لها وتطبيقها على أرض الواقع عندما يحين وقت ذلك: إلاهي، بحمدك رّبي، الدّعاء، أذكرّ ربي، المسجد، أصلّ صلاتي، المؤّذِّن، شهر العبادة والتقى، الصيّام فريضة..
إنّ المعجم اللّغوي في هذه القصائد تقريبا يتعلّمه الطفل العربي ويكتسبه بسهولة لأنّه يثير عواطفه وواقعه وسلوكه الاجتماعي أيضا فيستجيب له بالحفظ والقبول.
الخاتمة:
إنّ توظيف اللّغة التي تثير انتباه الطفل وحاسته توظيفا مثاليا يرقى بالشعر ليكون أفضل الفروع في أدب الطفل نظرا لخصوبة لغته وجمالياتها الفنية والموسيقية، ثم إنّه هو من يجعل الطفل ذواقا للّغة محسنا لاختيار منها ما يفيد وينفع.