يقلَّب بصره الزَّائغ بين شجر الشَّارع المُتفحِّم والبنايات المُهدَّمة.. قدماه خائرتان، وريقه قطعة حطبٍ متيبِّسةٌ، وصدره مثقلٌ بالأوجاع.. يتقلَّب في متاهةٍ تتخبَّط داخلها الأجساد، وتتعثَّر الأقدام الواهنة في نتوءاتٍ وحفرٍ وقطعِ حجارةٍ طاشت من جدران البيوت المُهدَّمة على الجانبين، واستقرَّت في نهر الطَّريق.
الوجوه من فرط ما علق بها من غبارٍ متشابهةٌ، والأعين المُقرَّحة من طول السَّهر غائرةٌ في محاجرها، تبدو كمرايا منطفئة البريق، والأجساد من فرط الجوع والعطش تشبه أوراق شجرٍ طالها سرطان الصُّفرة والجفاف، والقلوب التي نُزِعَت من منابتها في الشَّمال صارت غرفًا خَرِبَةً تنعِق فيها المواجعُ، وتستوطنها الأحزان.
يجرجر قدميه بعنتٍ، وسرعان ما يعصف برأسه الدُّوار؛ فيميل نحو نصف جدارٍ متهدّمٍ على يمين الطَّريق. تحدجه ببصرها الكليل عجوزٌ نحيلةٌ تملأ التَّجاعيد وجهها، كانت نظرتها المُتفحِّصة كفيلةً بأن تعلم بأنَّه على حافة الانهيار؛ فتسارع بفكِّ الصُّرَّة الَّتي عقدتها في طرف طرحتها السَّوداء الملفوفة حول رأسها، وتخرج بقايا رغيفٍ يابسٍ، وتميل نحوه، وتناوله لقيماتها المقدَّدة؛ يصافحها بصره الكليل بوهنٍ، وترتسم على ثغره نصف ابتسامةٍ شاحبةٍ تبدى الاعتذار عن فقدان القدرة على النُّطق بأيّ من كلمات الشُّكر والامتنان.. يتناول اللُّقيمات بنهم رجلٍ لم يدخل جوفَه شيءٌ من الطَّعام منذ ثلاثة أيامٍ.. يسري في أوصاله رمق حياةٍ؛ فيعاود جرجرة قدميه؛ إذ لم يكن هناك مفرٌّ من مواصلة المسير.
(٢)
يمرُّ بمحاذاته حفنةٌ من الصِّبيان مغبّري الرُّءوس في ملابسَ رثَّةٍ مُتَّسخةٍ وأقدامٍ حافيةٍ، برزت عظام وجوههم المُصْفَرَّة، يشبهون طحالبَ هشَّةً يقذف بها نهرُ الطَّريقِ أينما شاء.. يرمقهم بأسًى؛ فتهيج في قلبه الشُّجون، وينبري يناجي روحه المُتعَبة ونهاره الحزين: أيُّها النَّهار أعرني دموعك، ما عاد في عينيَّ ملحٌ وماءٌ، حتَّى الوجع السَّائل في أوردتي وشراييني جفَّ، واستحال مشارط حادةً تُدمي الفؤاد.. يفاجئه أحد الصبيان بإخراج أرغول من بين طيات ملابسه، يدسُّ الصَّبيّ الأرغول في فمه، ويبدأ العزف، يحيط به رفاقه الصّغار، يصفقون، ويرقصون الدَّبكة، فلا ينهرهم أحدٌ، بل ترتسم على شّفاه الرجال والنّسوة ابتساماتٍ شاحبةً، وتطلُّ من العيون طيورٌ حبيسةٌ تشتهي التَّحليق.
(٣)
لقد تشابهت عليه الأيَّام، والمشاهد تداخلت، ما عاد يميز الوجوه والأشلاء والفواجع واللَّحم البخس والدَّم المستباح، لكنَّ وجوه أحبيته الأربعة ظلَّت مطبوعةً في ذاكرته بأدقّ تفاصيلها؛ فالملامح والقسمات، ولون الأعين والأحداق، حتَّى مواضع الشَّامات أسفل الثُّغور وعلى جانبي الخدود، ما زال يبصرها صباح مساء، كأنَّها نقوشُ نحَّاتٍ على لوحِ رخامٍ.
(٤)
من عشر سنوات كان بالخارج أمام مدرسة الأونروا، يقف في طابورٍ طويلٍ؛ تكابد معدته نهش الجوع، وتكابد أذنيه رهاب القصف، وتكابد قدماه آلام الوقوف، ويهفو قلبه إلى الحصول على كيس دقيق، يرجع به إلى أطفاله الثَّلاثة وزوجته، لعلَّه يسدُّ رمقهم ليومٍ أو يومين.
عاد بعد ثلثي نهارٍ، فوجد كلَّ شيء قد انتهى، الجوع زال، والظَّمأ في حلوق زوجته وأطفاله انمحى بعسل الارتواء.. عاد، فوجد السَّقف تهدَّم، والجدران نُقِبَت، والأثاث تَفَحَّم، والأشلاء والدِّماء تناثرت في كلِّ مكانٍ، وسرعان ما اختلطت حمرتها القانية ببياض الدِّقيق الَّذي سقط من بين يديه.. راح يصرخ حتى رجَّ عويله الفضاء، وانكبَّ ينبش بأظفاره الأنقاض.. الجيران احتشدوا، والوقت تجمَّد، لكنَّه رغم الفاجعة، انبرى يفرز الأشلاء ويميِّزُها، ويعيد تكوين الأجساد المُمَزَّقة، حتَّى أعاد تكوين الجثامين إلَّا من بعض جزلات اللَّحم وبقايا العظام المُهشَّمة.. كان الجيران متحلِّقين حوله، قد غلبهم جلال المشهد وقسوته، فراحوا يتفحَّصونه بوجومٍ وأسًى، في حين انكبَّ هو يبكي فوق الجثث الهامدة، حتى أغرقتها دموعه السَّاخنة المنهمرة، ثمّ جَمُدَ في مكانه وراح يتأمل الجثامين الأربعة بصمتٍ؛ فخُيِّلَ إليه أنَّ أجسادهم عادت إلى سيرتها الأولى، وأنَّ الرُّوح نفخت فيها من جديدٍ، وفي غمرة تأمُّله خُيَّل إليه أنَّ أجفانهم قد انفرجت، فجأةً، وأنَّ أعينهم المفتوحة تنظر إليه بشفقةٍ؛ فانتفض في مكانه، وصرخ؛ والجيران ظنُّوا أنَّ الصَّدمة قد عصفت بعقله؛ فحاول رجلان منهم أن يُنْهِضَاه، ولمَّا قاومهما، قبض الرَّجلان على زنديه بقوَّةٍ، وجذباه إلى أعلى. كانت عيناه لا تزالان مثبتتين على الأجساد النَّابضة، التي أغلقت أعينها بغتةً، وارتدَّت مرَّةً أخرى جثثًا هامدةً ممزَّقةً، طالعها بحسرةٍ، والأمل الوليد في صدره اُغْتِيلَ ؛ فاستسلم بانكسارٍ لقبضتي الرَّجلين. الجيران حملوا الجثامين الأربعة على المحفَّات المُحَطَّمة من كثرة الاستعمال، وساروا بها إلى تخوم بلدتهم القديمة، حيث المكان الذي كان فيما مضى عامرًا بحقول زعترٍ يحوطها مئاتٌ من أشجار الرُّمان والزَّيتون، أحرقتها المقاتلات والمروحيَّات، واُضطرَّ الأهالي إلى تحويلها إلى مقابر جماعيّةٍ تحوي في باطنها آلاف الجثامين التي اغتال القصف أصحابها على مرّ السّنين.
(٥)
قال قائلٌ، والكلام كثُر ودار: أصحاب الجثامين لم يموتوا موتًا تامًّا؛ فإذا ما اكتمل البدر كلَّ شهرٍ عربيٍّ، يغادرون مقابرهم، يستنشقون هواء الخلاء، ويقبضون على حصوات الأرض وحجارتها، ويقضون ليلهم في مطاردة الضِّباع التي اعتادت نقب مقابرهم بالمخالب، والعبث بالرُّفات، فإذا لم تنزجر -والضّباع مراوغةٌ بطبعها- يفقؤون أعينها بحجارتهم، ومتى حلّ الفجر، يدخل أصحاب الجثامين مقابرهم، ويعودون إلى الموت. وكما تولد الحكايات تموت؛ لتولدَ حكاياتٌ أخرى.
(٦)
يستفيق من شروده، لا يجد أثرًا لحفنة الأطفال الذين ذابوا في متاهة الزِّحام وفوضى النُّزوح. توشك الشَّمس على الغروب، تشهر المجنزرات فوهاتها من بعيدٍ على جانبي الطريق، تترصدهم الأعين الحمراء من خلف الدَّبابات، تتشممُّ أنوف الضّباع المُدبَّبة روائح عرق النَّازحين التي حملها الهواء البارد.. يفرغ الطَّريق الطَّويل حمولته على أبواب المُخَيَّم. يتفرَّق الوافدون بين الطُّرقات الضَّيِّقة الفاصلة بين آلاف الخيام المنصوبة في العراء، يلتحم الوافدون الجدد بالجموع التي سبقتهم إلى ذلك المكان مُكْرَهين.. يتسمَّر في مكانه للحظاتٍ، ولا يتَّجه إلى أيّ خيمةٍ من الخيام، بل يستلقي على الأرض حيث يقف، ويُسلم خدَّه إلى التُّراب، ويغمض عينيه، وسرعان ما يسلمه الانهاك الشَّديد إلى النَّوم، لكنَّه ينتبه مذعورًا بعد دقائق على أصوات قصفٍ، تقبل من جميع الاتّجاهات، يمدُّ بصره إلى خارج المُخَيَّم؛ فيبصر المجنزرات قد اقتربت، وفوهاتها لا تتوقف عن إطلاق الدَّانات والقذائف؛ فتشتعل الخيام، ويتعالى الصُّراخ، وتضطرم النِّيران في الأجساد، وتهرول الأقدام محاولةً الخروج، لكنَّ القذائف تعيدها إلى الدَّاخل، ولا تسمح لأيٍّ من النَّازحين بمغادرة قمقم النَّار، الذي أحكم حصار المجنزرات غلق فوهته على ما فيه من حرائقَ وشواءٍ وعويلٍ.
أعلامُ الأونروا فوق الصَّواري الخشبيَّة تحترق، ومئاتٌ من ألسنة النَّار تخرج من قلب الخيام، وترتفع كأنَّها حرابٌ طويلةٌ مُشْهرَة في وجه السَّماء المُعبَّأة بالدُّخان الأسود.. ألسنة النَّار وحرابها تغمر جنبات المخيم بأضواءٍ حمراء، وبصره الزَّائغ يتنقل بين الأرجاء؛ فيفزعُ لمرأى حفنة الأطفال ذاتها قد طالت النيران ملابسها الرَّثَّة.. يبصر أجسادهم النَّحيلة تحترقُ أمام عينيه؛ فيحاول أن ينهض من مكانه؛ كي يركض نحوهم، لكنَّ قدميه تخونانه؛ فيسقط على الأرض خائر القوى مُمَزَّق القلب؛ يلعن كهولته التي أثقلها المرض وأعجزها الجوع، يجثو على ركبتيه، ويقبض بكلتا يديه على رأسه، ويجهش بالبكاء، يسدد نظراته الغائمة على أرض المخيم، يرى الأرض تغصُّ بجثثٍ محترقةٍ، وأخرى متفحِّمة، وسرعان ما تلطم الفاجعة عينيه، وتغرس خنجرها في قلبه النَّازف؛ إذ يبصر على بعد أمتارٍ قريبةٍ العجوز ذاتها ممدَّدةً على شقِّها، بالقرب منه، يراها على هيئتها الأولى ساعة أن ناولته لقيماتها، ولكن بدون طرحتها السَّوداء التي سقطت عن رأسها، فظهر شعرها الأبيض الذي كساه الشيب قصيرًا لا يخفي شيئًا من تجاعيد وجهها الغائرة.. السَّماء تبرق فجأةً، فيرنو إليها، وسرعان ما يسمع دوي ارتطام على الأرض، فيُحوِّلُ بصره مرَّةً أخرى إلى العجوز؛ فتتسع حدقتاه، ويشهق؛ إذ يبصر شيب شعرها قد تحوَّل إلى ليلٍ فاحمٍ طويلٍ، ووجهها المُجعَّد اختفى، وحلَّ محلَّه قمرٌ أملسُ منيرٌ، سقط لتوّه من السَّماء، واستقرَّ أعلى جسدها الهامد بلا حراكٍ، وسط بركةٍ من الدّماء، سالت من عنقها المنحور بشظِّيةٍ طائشةٍ، يزحف على ركبتيه، يصل إلى العجوز، يطوقها بذراعيه، يُسبِّل أجفانها، ويطبع قبلةً حانيةً على جبينها النَّاصع، ويهمس في أذنها قائلًا: أمَّاه الذبيحةَ، لم يُهدرْ دمُكِ؛ فهو للأرض رِيٌّ، ولكِ طهورٌ ووضوءٌ. هيَّا، ادخلي في صلاتك آمنةً، لا تخشي شيئًا؛ قد هزمتِ الخوف.. أمَّاه الجميلةَ ووجهَ القمر، أرأيتِ؟! قد خضبتْ دماؤكِ كفيكِ وقدميكِ؛ فهي الحنَّاءُ، وأنتِ العروس. أمَّاه المسافرة إلى بحر الصَّفاءِ، اذكريني عندَ ربِّك، قولي لله عنِّي: إنَّه ولدي الذي افتديته بلقيماتي، ولا أعرف له اسمًا، وهل تغني الأسماءُ عن أصحابها شيئًا وسط الحرائق؟! بل قولي: إنَّه ولدي الغريب فوق أرضِهِ (الْ..مُسْ..تَبَا..حَة).. يزلزله البكاء، فتثقل عليه الحروف، يتلعثم، ويوسِّد العجوز الأرض برفقٍ، ثُمَّ يزحف على ركبتيه، إلى بقعةٍ أخرى من أرض المُخيَّم لم تصل إليها النيران بعد، وفي أثناء زحفه، تلامس يداه قصبتين ضمتا إلى بعضهما البعض، أحدهما أقصر من الأخرى، يقربهما إلى ناظريه؛ فيكتشف أنهما أرغول الصَّبيّ، أيكون الأرغولُ سقط منه قبل أن تضطرم النِّيران في جسده، أم عزّ على الصَّبيِّ أن تحرق النَّارُ أرغوله؛ فألقاه على الأرض؛ لعلّ مصدر بهجته الوحيد في هذه الدُّنيا يسلم من الاحتراق؟!
(٧)
ما زالت المجنزرات تتقيَّأ غلّها على جنبات المُخيَّم، فتزداد النيران تمدُّدًا، وتطال ما لم تصل إليه من الخيام.. كان لا يزال في مكانه يبسط كفيه للموت، ينتظر مجيئه من أيِّ اتّجاه، ودون أن ينتبه وجد نفسه مُحاصَرًا داخل دائرةٍ من نيران الخيام المشتعلة، يتصاعد منها الدُّخان وألسنة اللهبّ، الدَّائرة تضيق، والنيران تلفح وجهه، فيصدُّها بيديه وكفيه الفارغتين إلا من الأرغول.. الدُّخان يخنقه؛ فيغيب عن الوعي، وبينما هو كذلك، إذ بأربعة جيادٍ تقتحم حلقة النَّار، وقد تعالى صهيلها؛ فيهبط ثلاثة فتيانٌ من فوق صهوات خيولهم، ويحملونه بسرعةٍ، ويردفونه خلف امرأةٍ فوق جوادها الأسود اللَّامع، وسرعان ما تعدو الجياد الأربعة في الطَّريق ذاته غير آبهةٍ بالحرائق والدّبابات والقذائف والضِّباع، ومع تباشير الصَّباح تصل الجياد إلى تخوم بلدته القديمة، وتتَّجه إلى المقبرة الجماعيَّة الَّتي نبتت من بين رفاتها أعشابٌ خضراء كثيفة كوَّنت مرجًا فسيحًا يمتد على مرمى البصر. الخيول تتوقَّف عن الرَّكض؛ فتهبط المرأة والفتيان، وينزلونه برفقٍ بجوار عين ماءٍ تفجَّرت من باطن الأرض.. يسقونه منها ويغسلون وجهه ورأسه، حتَّى يستعيد وعيه شيئًا فشيئًا، وما إن يفتح عينيه، ويبصر وجوههم، حتَّى تتَّسع حدقتاه، ويدقق البصر في ملامحهم مرَّة أخرى، يتأمَّل وجه المرأة الذي احتفظ بنضارته القديمة؛ فيعرفهم من خلال وجهها، ويستعيد نقوشه القديمة، التي على ما يبدو أنَّ السَّنوات العشر الماضية قد عبثت بها كثيرًا، لقد كبروا واشتدَّت سواعدهم، ولكن هل يكبر الموتى، أم هي أضغاث أحلام، سرعان ما ستتبخَّر، ويحلُّ محلَّها كوابيسُه التي طالما حاصرت مناماته؟! هل أنا ميتٌ أم حيٌّ؟! عاد يسأل نفسه، ويداه مكبلتان، حرَّرتهما ابتسامةٌ حانيةٌ، وقبلةٌ حارَّةٌ طبعتها المرأة على خده، انطلقت على إثرها من حلقه صرخة فرحٍ، أعقبها فَتْحُ ذراعيه، وسرعان ما غاب الخمسة في عناقٍ جماعيٍّ طويلٍ، في حين رفرفت فوق رءوسهم طيورٌ بيضاءُ وعصافيرُ غادرت أعشاشها المنسوجة بإحكامٍ فوق أغصان أشجار الرُّمان والزَّيتون التي نبتت، وأورقت، وتدلَّت ثمارها النَّاضجة من جديدٍ، كأنَّه لم يطلها قصفٌ قَطُّ. ولمَّا طال العناق تصاعد من خلف إحدى الأشجار عزفُ أرغول، انسكب نغمه الشجي من بين أصابعَ وشفتيّ صبيّ، أسند ظهره إلى جذع شجرة الزَّيتون العتيقة.
الوجوه من فرط ما علق بها من غبارٍ متشابهةٌ، والأعين المُقرَّحة من طول السَّهر غائرةٌ في محاجرها، تبدو كمرايا منطفئة البريق، والأجساد من فرط الجوع والعطش تشبه أوراق شجرٍ طالها سرطان الصُّفرة والجفاف، والقلوب التي نُزِعَت من منابتها في الشَّمال صارت غرفًا خَرِبَةً تنعِق فيها المواجعُ، وتستوطنها الأحزان.
يجرجر قدميه بعنتٍ، وسرعان ما يعصف برأسه الدُّوار؛ فيميل نحو نصف جدارٍ متهدّمٍ على يمين الطَّريق. تحدجه ببصرها الكليل عجوزٌ نحيلةٌ تملأ التَّجاعيد وجهها، كانت نظرتها المُتفحِّصة كفيلةً بأن تعلم بأنَّه على حافة الانهيار؛ فتسارع بفكِّ الصُّرَّة الَّتي عقدتها في طرف طرحتها السَّوداء الملفوفة حول رأسها، وتخرج بقايا رغيفٍ يابسٍ، وتميل نحوه، وتناوله لقيماتها المقدَّدة؛ يصافحها بصره الكليل بوهنٍ، وترتسم على ثغره نصف ابتسامةٍ شاحبةٍ تبدى الاعتذار عن فقدان القدرة على النُّطق بأيّ من كلمات الشُّكر والامتنان.. يتناول اللُّقيمات بنهم رجلٍ لم يدخل جوفَه شيءٌ من الطَّعام منذ ثلاثة أيامٍ.. يسري في أوصاله رمق حياةٍ؛ فيعاود جرجرة قدميه؛ إذ لم يكن هناك مفرٌّ من مواصلة المسير.
(٢)
يمرُّ بمحاذاته حفنةٌ من الصِّبيان مغبّري الرُّءوس في ملابسَ رثَّةٍ مُتَّسخةٍ وأقدامٍ حافيةٍ، برزت عظام وجوههم المُصْفَرَّة، يشبهون طحالبَ هشَّةً يقذف بها نهرُ الطَّريقِ أينما شاء.. يرمقهم بأسًى؛ فتهيج في قلبه الشُّجون، وينبري يناجي روحه المُتعَبة ونهاره الحزين: أيُّها النَّهار أعرني دموعك، ما عاد في عينيَّ ملحٌ وماءٌ، حتَّى الوجع السَّائل في أوردتي وشراييني جفَّ، واستحال مشارط حادةً تُدمي الفؤاد.. يفاجئه أحد الصبيان بإخراج أرغول من بين طيات ملابسه، يدسُّ الصَّبيّ الأرغول في فمه، ويبدأ العزف، يحيط به رفاقه الصّغار، يصفقون، ويرقصون الدَّبكة، فلا ينهرهم أحدٌ، بل ترتسم على شّفاه الرجال والنّسوة ابتساماتٍ شاحبةً، وتطلُّ من العيون طيورٌ حبيسةٌ تشتهي التَّحليق.
(٣)
لقد تشابهت عليه الأيَّام، والمشاهد تداخلت، ما عاد يميز الوجوه والأشلاء والفواجع واللَّحم البخس والدَّم المستباح، لكنَّ وجوه أحبيته الأربعة ظلَّت مطبوعةً في ذاكرته بأدقّ تفاصيلها؛ فالملامح والقسمات، ولون الأعين والأحداق، حتَّى مواضع الشَّامات أسفل الثُّغور وعلى جانبي الخدود، ما زال يبصرها صباح مساء، كأنَّها نقوشُ نحَّاتٍ على لوحِ رخامٍ.
(٤)
من عشر سنوات كان بالخارج أمام مدرسة الأونروا، يقف في طابورٍ طويلٍ؛ تكابد معدته نهش الجوع، وتكابد أذنيه رهاب القصف، وتكابد قدماه آلام الوقوف، ويهفو قلبه إلى الحصول على كيس دقيق، يرجع به إلى أطفاله الثَّلاثة وزوجته، لعلَّه يسدُّ رمقهم ليومٍ أو يومين.
عاد بعد ثلثي نهارٍ، فوجد كلَّ شيء قد انتهى، الجوع زال، والظَّمأ في حلوق زوجته وأطفاله انمحى بعسل الارتواء.. عاد، فوجد السَّقف تهدَّم، والجدران نُقِبَت، والأثاث تَفَحَّم، والأشلاء والدِّماء تناثرت في كلِّ مكانٍ، وسرعان ما اختلطت حمرتها القانية ببياض الدِّقيق الَّذي سقط من بين يديه.. راح يصرخ حتى رجَّ عويله الفضاء، وانكبَّ ينبش بأظفاره الأنقاض.. الجيران احتشدوا، والوقت تجمَّد، لكنَّه رغم الفاجعة، انبرى يفرز الأشلاء ويميِّزُها، ويعيد تكوين الأجساد المُمَزَّقة، حتَّى أعاد تكوين الجثامين إلَّا من بعض جزلات اللَّحم وبقايا العظام المُهشَّمة.. كان الجيران متحلِّقين حوله، قد غلبهم جلال المشهد وقسوته، فراحوا يتفحَّصونه بوجومٍ وأسًى، في حين انكبَّ هو يبكي فوق الجثث الهامدة، حتى أغرقتها دموعه السَّاخنة المنهمرة، ثمّ جَمُدَ في مكانه وراح يتأمل الجثامين الأربعة بصمتٍ؛ فخُيِّلَ إليه أنَّ أجسادهم عادت إلى سيرتها الأولى، وأنَّ الرُّوح نفخت فيها من جديدٍ، وفي غمرة تأمُّله خُيَّل إليه أنَّ أجفانهم قد انفرجت، فجأةً، وأنَّ أعينهم المفتوحة تنظر إليه بشفقةٍ؛ فانتفض في مكانه، وصرخ؛ والجيران ظنُّوا أنَّ الصَّدمة قد عصفت بعقله؛ فحاول رجلان منهم أن يُنْهِضَاه، ولمَّا قاومهما، قبض الرَّجلان على زنديه بقوَّةٍ، وجذباه إلى أعلى. كانت عيناه لا تزالان مثبتتين على الأجساد النَّابضة، التي أغلقت أعينها بغتةً، وارتدَّت مرَّةً أخرى جثثًا هامدةً ممزَّقةً، طالعها بحسرةٍ، والأمل الوليد في صدره اُغْتِيلَ ؛ فاستسلم بانكسارٍ لقبضتي الرَّجلين. الجيران حملوا الجثامين الأربعة على المحفَّات المُحَطَّمة من كثرة الاستعمال، وساروا بها إلى تخوم بلدتهم القديمة، حيث المكان الذي كان فيما مضى عامرًا بحقول زعترٍ يحوطها مئاتٌ من أشجار الرُّمان والزَّيتون، أحرقتها المقاتلات والمروحيَّات، واُضطرَّ الأهالي إلى تحويلها إلى مقابر جماعيّةٍ تحوي في باطنها آلاف الجثامين التي اغتال القصف أصحابها على مرّ السّنين.
(٥)
قال قائلٌ، والكلام كثُر ودار: أصحاب الجثامين لم يموتوا موتًا تامًّا؛ فإذا ما اكتمل البدر كلَّ شهرٍ عربيٍّ، يغادرون مقابرهم، يستنشقون هواء الخلاء، ويقبضون على حصوات الأرض وحجارتها، ويقضون ليلهم في مطاردة الضِّباع التي اعتادت نقب مقابرهم بالمخالب، والعبث بالرُّفات، فإذا لم تنزجر -والضّباع مراوغةٌ بطبعها- يفقؤون أعينها بحجارتهم، ومتى حلّ الفجر، يدخل أصحاب الجثامين مقابرهم، ويعودون إلى الموت. وكما تولد الحكايات تموت؛ لتولدَ حكاياتٌ أخرى.
(٦)
يستفيق من شروده، لا يجد أثرًا لحفنة الأطفال الذين ذابوا في متاهة الزِّحام وفوضى النُّزوح. توشك الشَّمس على الغروب، تشهر المجنزرات فوهاتها من بعيدٍ على جانبي الطريق، تترصدهم الأعين الحمراء من خلف الدَّبابات، تتشممُّ أنوف الضّباع المُدبَّبة روائح عرق النَّازحين التي حملها الهواء البارد.. يفرغ الطَّريق الطَّويل حمولته على أبواب المُخَيَّم. يتفرَّق الوافدون بين الطُّرقات الضَّيِّقة الفاصلة بين آلاف الخيام المنصوبة في العراء، يلتحم الوافدون الجدد بالجموع التي سبقتهم إلى ذلك المكان مُكْرَهين.. يتسمَّر في مكانه للحظاتٍ، ولا يتَّجه إلى أيّ خيمةٍ من الخيام، بل يستلقي على الأرض حيث يقف، ويُسلم خدَّه إلى التُّراب، ويغمض عينيه، وسرعان ما يسلمه الانهاك الشَّديد إلى النَّوم، لكنَّه ينتبه مذعورًا بعد دقائق على أصوات قصفٍ، تقبل من جميع الاتّجاهات، يمدُّ بصره إلى خارج المُخَيَّم؛ فيبصر المجنزرات قد اقتربت، وفوهاتها لا تتوقف عن إطلاق الدَّانات والقذائف؛ فتشتعل الخيام، ويتعالى الصُّراخ، وتضطرم النِّيران في الأجساد، وتهرول الأقدام محاولةً الخروج، لكنَّ القذائف تعيدها إلى الدَّاخل، ولا تسمح لأيٍّ من النَّازحين بمغادرة قمقم النَّار، الذي أحكم حصار المجنزرات غلق فوهته على ما فيه من حرائقَ وشواءٍ وعويلٍ.
أعلامُ الأونروا فوق الصَّواري الخشبيَّة تحترق، ومئاتٌ من ألسنة النَّار تخرج من قلب الخيام، وترتفع كأنَّها حرابٌ طويلةٌ مُشْهرَة في وجه السَّماء المُعبَّأة بالدُّخان الأسود.. ألسنة النَّار وحرابها تغمر جنبات المخيم بأضواءٍ حمراء، وبصره الزَّائغ يتنقل بين الأرجاء؛ فيفزعُ لمرأى حفنة الأطفال ذاتها قد طالت النيران ملابسها الرَّثَّة.. يبصر أجسادهم النَّحيلة تحترقُ أمام عينيه؛ فيحاول أن ينهض من مكانه؛ كي يركض نحوهم، لكنَّ قدميه تخونانه؛ فيسقط على الأرض خائر القوى مُمَزَّق القلب؛ يلعن كهولته التي أثقلها المرض وأعجزها الجوع، يجثو على ركبتيه، ويقبض بكلتا يديه على رأسه، ويجهش بالبكاء، يسدد نظراته الغائمة على أرض المخيم، يرى الأرض تغصُّ بجثثٍ محترقةٍ، وأخرى متفحِّمة، وسرعان ما تلطم الفاجعة عينيه، وتغرس خنجرها في قلبه النَّازف؛ إذ يبصر على بعد أمتارٍ قريبةٍ العجوز ذاتها ممدَّدةً على شقِّها، بالقرب منه، يراها على هيئتها الأولى ساعة أن ناولته لقيماتها، ولكن بدون طرحتها السَّوداء التي سقطت عن رأسها، فظهر شعرها الأبيض الذي كساه الشيب قصيرًا لا يخفي شيئًا من تجاعيد وجهها الغائرة.. السَّماء تبرق فجأةً، فيرنو إليها، وسرعان ما يسمع دوي ارتطام على الأرض، فيُحوِّلُ بصره مرَّةً أخرى إلى العجوز؛ فتتسع حدقتاه، ويشهق؛ إذ يبصر شيب شعرها قد تحوَّل إلى ليلٍ فاحمٍ طويلٍ، ووجهها المُجعَّد اختفى، وحلَّ محلَّه قمرٌ أملسُ منيرٌ، سقط لتوّه من السَّماء، واستقرَّ أعلى جسدها الهامد بلا حراكٍ، وسط بركةٍ من الدّماء، سالت من عنقها المنحور بشظِّيةٍ طائشةٍ، يزحف على ركبتيه، يصل إلى العجوز، يطوقها بذراعيه، يُسبِّل أجفانها، ويطبع قبلةً حانيةً على جبينها النَّاصع، ويهمس في أذنها قائلًا: أمَّاه الذبيحةَ، لم يُهدرْ دمُكِ؛ فهو للأرض رِيٌّ، ولكِ طهورٌ ووضوءٌ. هيَّا، ادخلي في صلاتك آمنةً، لا تخشي شيئًا؛ قد هزمتِ الخوف.. أمَّاه الجميلةَ ووجهَ القمر، أرأيتِ؟! قد خضبتْ دماؤكِ كفيكِ وقدميكِ؛ فهي الحنَّاءُ، وأنتِ العروس. أمَّاه المسافرة إلى بحر الصَّفاءِ، اذكريني عندَ ربِّك، قولي لله عنِّي: إنَّه ولدي الذي افتديته بلقيماتي، ولا أعرف له اسمًا، وهل تغني الأسماءُ عن أصحابها شيئًا وسط الحرائق؟! بل قولي: إنَّه ولدي الغريب فوق أرضِهِ (الْ..مُسْ..تَبَا..حَة).. يزلزله البكاء، فتثقل عليه الحروف، يتلعثم، ويوسِّد العجوز الأرض برفقٍ، ثُمَّ يزحف على ركبتيه، إلى بقعةٍ أخرى من أرض المُخيَّم لم تصل إليها النيران بعد، وفي أثناء زحفه، تلامس يداه قصبتين ضمتا إلى بعضهما البعض، أحدهما أقصر من الأخرى، يقربهما إلى ناظريه؛ فيكتشف أنهما أرغول الصَّبيّ، أيكون الأرغولُ سقط منه قبل أن تضطرم النِّيران في جسده، أم عزّ على الصَّبيِّ أن تحرق النَّارُ أرغوله؛ فألقاه على الأرض؛ لعلّ مصدر بهجته الوحيد في هذه الدُّنيا يسلم من الاحتراق؟!
(٧)
ما زالت المجنزرات تتقيَّأ غلّها على جنبات المُخيَّم، فتزداد النيران تمدُّدًا، وتطال ما لم تصل إليه من الخيام.. كان لا يزال في مكانه يبسط كفيه للموت، ينتظر مجيئه من أيِّ اتّجاه، ودون أن ينتبه وجد نفسه مُحاصَرًا داخل دائرةٍ من نيران الخيام المشتعلة، يتصاعد منها الدُّخان وألسنة اللهبّ، الدَّائرة تضيق، والنيران تلفح وجهه، فيصدُّها بيديه وكفيه الفارغتين إلا من الأرغول.. الدُّخان يخنقه؛ فيغيب عن الوعي، وبينما هو كذلك، إذ بأربعة جيادٍ تقتحم حلقة النَّار، وقد تعالى صهيلها؛ فيهبط ثلاثة فتيانٌ من فوق صهوات خيولهم، ويحملونه بسرعةٍ، ويردفونه خلف امرأةٍ فوق جوادها الأسود اللَّامع، وسرعان ما تعدو الجياد الأربعة في الطَّريق ذاته غير آبهةٍ بالحرائق والدّبابات والقذائف والضِّباع، ومع تباشير الصَّباح تصل الجياد إلى تخوم بلدته القديمة، وتتَّجه إلى المقبرة الجماعيَّة الَّتي نبتت من بين رفاتها أعشابٌ خضراء كثيفة كوَّنت مرجًا فسيحًا يمتد على مرمى البصر. الخيول تتوقَّف عن الرَّكض؛ فتهبط المرأة والفتيان، وينزلونه برفقٍ بجوار عين ماءٍ تفجَّرت من باطن الأرض.. يسقونه منها ويغسلون وجهه ورأسه، حتَّى يستعيد وعيه شيئًا فشيئًا، وما إن يفتح عينيه، ويبصر وجوههم، حتَّى تتَّسع حدقتاه، ويدقق البصر في ملامحهم مرَّة أخرى، يتأمَّل وجه المرأة الذي احتفظ بنضارته القديمة؛ فيعرفهم من خلال وجهها، ويستعيد نقوشه القديمة، التي على ما يبدو أنَّ السَّنوات العشر الماضية قد عبثت بها كثيرًا، لقد كبروا واشتدَّت سواعدهم، ولكن هل يكبر الموتى، أم هي أضغاث أحلام، سرعان ما ستتبخَّر، ويحلُّ محلَّها كوابيسُه التي طالما حاصرت مناماته؟! هل أنا ميتٌ أم حيٌّ؟! عاد يسأل نفسه، ويداه مكبلتان، حرَّرتهما ابتسامةٌ حانيةٌ، وقبلةٌ حارَّةٌ طبعتها المرأة على خده، انطلقت على إثرها من حلقه صرخة فرحٍ، أعقبها فَتْحُ ذراعيه، وسرعان ما غاب الخمسة في عناقٍ جماعيٍّ طويلٍ، في حين رفرفت فوق رءوسهم طيورٌ بيضاءُ وعصافيرُ غادرت أعشاشها المنسوجة بإحكامٍ فوق أغصان أشجار الرُّمان والزَّيتون التي نبتت، وأورقت، وتدلَّت ثمارها النَّاضجة من جديدٍ، كأنَّه لم يطلها قصفٌ قَطُّ. ولمَّا طال العناق تصاعد من خلف إحدى الأشجار عزفُ أرغول، انسكب نغمه الشجي من بين أصابعَ وشفتيّ صبيّ، أسند ظهره إلى جذع شجرة الزَّيتون العتيقة.