ذياب شاهين - العوجة...

كانت مسرعةً تمشي دائما بعباءة متسخة بالطين وجرباء لونها الأسود تكتنفه بقع بنية بلون الزنجار، ووجهها كان مخيفا أسمر مائلا للاصفرار، وتضعُ على رأسها تحت العباءة شيلة سوداء، طالما رآها وهو بصحبة أمّهِ تتبادلان التحية بسرعة، وحين يُطالع وجهها ترمقه بنظرة خالية من التعبير وكأنها تلمح خوفه منها، أو كأنها تقرأ أحاسيسه الطفولية الصادقة اتجاهها، فالأطفال لا يجاملون وتظهر على وجوههم ما يحسونه من مشاعر الخوف أو الرضا والاشمئزاز دون تريث أو خجل، وحين كان يسأل أمه عنها: أمي من هذه المرأة، لتقول له بسرعة: هذه أم صادق، لديها ابنان وابنة، وسرعان ما تهمهم بصوت واطئ: يسمونها العوجة. وحين يسمع كلام والدته يلتفت إلى الخلف ليتأكد مما قالته عنها، فيرى فعلًا أنها لا تمشي مثل أمّه أو بقية النساء فهنالك خلل في مشيتها فهي تكاد تمشي بطريقة عوجاء، وحين تذكرها بعد سنين طويلة تمتم مع نفسه يا آلهي كانت امرأة دميمة، فهي مشوهة الشكل بعينين غير سويتين إحداهما صغيرة والأخرى أكبر حجما وفمها كان أعوج ويبدو أن داء الشرجي ضربها ولم تشف منه، واستغرب مما حدث لها عندما كان صغيرا.
في محلة جبران كان "عكد الجياييل" جزءاً منها حيث يتفرع من الجادة، كانت محلتهم حين فتح عينيه وابتدأ يفهم شيئا مما يدور حوله، وكان يلعب مع أترابهِ من أبناء المحلة الخرز(الدعبل) والكلكلي والجعاب أو الكعوب وهي عظام صغيرة تستخرج من مفاصل الأغنام ويحصلون عليها من القصابين، كان عرض العكد يختلف من مكان لآخر من ثمانية أمتار في مدخله عند شارع الإمام علي حتى مترين ونصف، في المكان الذي كانت تسكن به العوجة، وينتهي بمكان واسع يدعى الفضوة، ويستمر إلى اليسار حيث تقع على جانبيه البيوت ثم ينحرف يمينا متجها إلى الأمام ويتفرع منه فرع إلى اليمين وينحرف يسارا ليستمر حتى المتاجر التي تتراصف عند الشارع المسقّف، أما بيتهم فيقع في الوسط تقريبا بين الفضوة والمدخل الرئيسي، حيث يتفرع منه دربونتين لليمين والثانية لليسار قرب المسجد، وكان بيتهم يقع في نهاية الدربونة اليمنى، كان ابن العوجة الصغير من أترابه، لكنه لم يكن صديقه فلم يكن يلعب معه دائما، وكان شرسا ويلتقي مع من كانوا على شاكلته، ولم يدخل المدرسة، فكانوا من النوع الذي يتخاصمون ويعملون مشاكل، وحين ماتت أمه العوجة بقى مع أخيه وأخته لوحدهم في البيت مع أخواله وجده لأمهم لأن أباهم كان ميتا، وقد خمن عندما كبر قائلا: قد يكون بسبب موت أبيه، وكذلك موت أمه بالطريقة المأساوية تلك هي التي جعلت منه شخصا متمردا، ولكنه في ذلك العمر لم يكن ليفقهَ: لمَ قتلتْ العوجة؟.
عندما كبر قليلا وصار يفهم بعض الأمور كان يرى فتاة شابة جميلة وطويلة، وكانت تقف مع أمِّه أحيانا وأمه تسألها عن حالها، ولا يفهم بالطبع عماذا كانتا تتحدثان، وحينما تفترقان، يسأل أمه عنها: فتقول له: هذه ابنة العوجة..خطيّة، وكان يتساءل لم كانت تقول عنها أمه خطية، كان عليه أن ينتظر سنين أخرى ليفهم ما قالته وكذلك ليفهم سبب تعاطف والدته معها، وكان يخمّن ربما بسبب موت أبويْها، فهي يتيمة الأبوين والجميع يعرف ذلك، أم بسبب موت أمها المأساوي، فقد كانت بوضع مزرٍ وأن أخوالها كانوا يمنعونها من الخروج وسيحرمونها من الذهاب للمدرسة، لكنه تفاجأ في أحد الأيام عندما التقت أمه بها ووقفت إلى جنبها وعيناها مغرورقتان بالدموع، وظلتا واقفتين لفترة طويلة تتكلمان، واستغرب أن أمه تبكي معها وكأن حدثا غريبا سيحصل لها، كان كلامهما بصوت واطئ، ولأنه لا يفهم عماذا تتحدثان، فقد كان يتركهما ليتحدث مع أترابه الصغار، وحين تبصر أحد أخوالها عائدا للبيت سرعان ما تعتذر لأمي فتدخل لبيتهم.
كان جدها لأمها رجل كبير في السن، وكان يراه يوميا يخرج من البيت ويحمل أقمشة رجالية بيديه، أقمشة لصناعة البدلات، لكنه يمشي قليلا ثم يقعد ليستريح، وأثناء جلوسه يسأله بعض المارة عن أسعار الأقمشة، وسرعان ما يقوم ليستمر في مسيره، ليخرج من المحلة، باتجاه الشارع العام، وحين كبر ووجد نفسه في سوق الحطابات يبيع القماش، تذكر ذلك الرجل العجوز بأعوامه السبعين يخرج يوميا ويدور حول الأسواق ويجلس ليبيع القماش في السوق أيقن كم هي الحياة صعبة عندما يولد الإنسان ويموت لاهثا من أجل لقمة العيش، لم يكن مصدقا أنه سيبيع القماش في يوم من الأيام، وهو خريج جامعة، كان الناس في فقر وضنك شديدين أثناء فترة الحصار في التسعينات وهو لا يستطيع المحافظة على قماشه فتتجمع الكثير من النساء حوله، وحينما ينفضضن عنه يكتشف أن طولا أو طولين من القماش قد سُرقا، فيشعر بحزن شديد فالقماش الذي اشتراه كان بالدين ولا يدري من أين سيسدده، كان يتمنى لو يرجع صغيرا كي يتخلص من هذه المعاناة تحت البرد والحر الشديدين، والتراب الذي تحمله الريح عند هبوبها، لكنه حينما يتذكر ذلك الرجل العجوز وهو يحمل أقمشته على ظهره ويكاد نفسه يتقطع وبيده عصاه تهون عليه مصيبته.
في مرةٍ كان في الفضوة يلعب الكرة مع أترابه، شاهد الفتاة ابنة العوجة تمشي مع رجل ضخم الجسد له تقاسيم قاسية ويرتدي بدلة أنيقة، وكانت تضع مكياجا على وجهها، ولكنها كانت حزينة وكان الموتُ مرتسما على وجهها، فسمع الأطفال يقولون هذه الفتاة تزوجتْ قاتلَ أمِّها فتعجّب من قولهم فسألهم ماذا يقصدون فأخبره أحدهم أن أمَّه تقول: لقد أجبرها خالها على الزواج بهذا الرجل وهو ذاته الذي قتل أمها، وحين رجع للبيت قال لأمه ما سمعه من الأطفال، لكنها قالت له: لا تستمع لما يقولونه فهذا غير صحيح، ولأنه لا يقتنع بسرعة وملحاح فباغت أمه قائلا: يمّه.. يعني شنو مريّه مو زينة. فحدجته أمه بنظرة غاضبة فشعر وكأنها قد ضُربتْ بشاكوش على رأسها لكنها استطاعت أن تحافظ على هدوئها فسألته: أين سمعتَ هذا الكلام، فقال: الصغارُ يقولون بأن أمها مرة مو زينة فقتلوها أهلها. فقالت له أمه: لا تسمع لما يقوله الصغار وعندما تكبر ستفهم الحقيقة.
لكنه في الليلة ذاتها حلم بالعوجة، ورآها تركض في العكد وكان الطريقُ مملوءًا بالضباب وهي تصرخ أنقذوني سيقتلني، وتعجب من سرعتها فقد كانت لا تعرج في ركضتها، وسرعان ما رأى الرجل القاتل ذاته يركض خلفها وفي يده سكين كبيرة، وهي تصرخ بشدة، وفجأة رأى خال الفتاة يقف عند الباب وهو يبتسم ابتسامة منتصرة، ثم بدا وكأنه قد قطع أصبعا من يده وهو يلوح للقاتل الذي رجع وكان خنجره مخضبا بالدماء ففز من النوم وهو يبكي، فصحا أبوه وأمه على بكائه وهو يصرخ العوجة قتلوها، فحضنته أمه وهدأته ثم قامت فأعطته طاسة ماء صغيرة ثم غسلت وجهه ، وسمع أباه وهو يستفسر من أمه عما يجري، فقالت له سأخبرك لاحقا فهو خائف، في اليوم التالي وحين رجع من المدرسة شاهد القاتل في العكد، وأخذ ينظر إليه محملقا وكأنه يريد أن يتأكد من وجهه، وهل هو الشخص الذي رآه في الحلم أم أنه شخص آخر، وحين رجع للبيت أخبر أمه أنه رأى الرجل القاتل يدخل إلى بيت العوجة، فنهرته أمه محذرة: إياك أن تذكر ذلك لأحد أفهمت.. فانصاع لها لكن الخوف ظل يأكل قلبه.
عندما لاحظت أمه خوفه رأتْ أن من اللازم أن تستبقيه في البيت كي يقرأ دروسَه وتحاول أن تمنعه من الخروج من البيت بلينٍ ورقة، وترسله في الخميس والجمعة إلى أمِّها الساكنة في بيت خاله في منطقة الجِّديْدة قرب معمل الكوكا، فقد كانت جدته تسكن في غرفة هناك مع ابنها، وكان يفرح حينما يذهب هناك فيلعب مع ابن خاله سعد وأترابه الصغار كرة قدم ويركبون الأراجيح وبعد أن تنتهي المدرسة وتبدأ العطلة الصيفية كانوا يذهبون للشط الذي لا يبعد كثيرا عن بيت خاله ويسبحون في شريعة الجاموس، وخصوصا في الأيام التي ينخفض فيها الماء ويظهر قاع النهر نديا، لكن في عصر أحد الأيام وقع من الأرجوحة فانكسرت يده اليمنى، فرجع إلى بيته وهو يعاني آلاما مبرحة، وحين شاهدته أمه لا يستطيع تحريك يده، سألته عما حدث له فأخبرها بما حدث له، وشاهدت يده فأخذت تبكي وتصرخ، فجاءت عمته وعمه ولاحظوا يده وكان أبوه خارج البيت، فأخذه عمه بصحبة والدته إلى شخص في محلة الكلج في الصوب الصغير يدعونه أحمد الكردي، ويعمل في تجبير الكسور، وكان رجلًا وقورا وكبيرا في السن، فسأله الكردي كيف سقطت من الأرجوحة، فقال له:- لقد أسقطتني العوجة من الأرجوحة، فبهت الجميع بما قاله وخصوصا الكردي الذي كان ينقل النظر بين عمَّهِ وأمِّه متسائلا عما يعنيه بالعوجة، فحاولت أمه تفادي الأمر وسارعت قائلة: إنه يقصد الأرجوحة التي سقط منها حيث كانت تعلو وتهبط بشكل أعوج ولم تكن مربوطة بشكل جيد، لكن الكردي بدا غير مقتنع بما قالته الأم، فمسك ذراعه المكسورة محاولا معرفة أين الكسر بالضبط، وحين مسكه صرخ من الألم، فأخبرهم أن يد الفتى مكسورة وسيقوم بتجبيرها، جلب الكردي بيضتين وكسرهما واستخرج صفارهما ووضعه في صحن، وطلب من عمه أن يضع الصغير في حضنه، وقال له إنه سيتألم فامسكه جيدا كي لا يتحرك حتى أرجع العظم في مكانه، وحاول تهدئة الصغير مبتسما في وجهه، وقال له : لا تخف وسيكون كل شيء على ما يرام، كان الكردي ماهرًا وبخفة قام بإرجاع العظم لمكانه، ثم دهن يده بصفار البيض وجاء بقطع من الخشب قطعها على مقاس يده الصغيرة، من الأعلى والأسفل ثم لفَّهما بالشاش، وعلق اليد بواسطة قطعة قماش ووضععها في عنقه، وقال لوالدته وعمّه يبقى هكذا لمدة أربعين يوما وتجلبوه حتى أفتح الجبيرة.
عندما كبر تساءل: لمَ لمْ يأخذوني للمستشفى، هل تجبير الكسور كان غير موجود فيها في ذلك الوقت، ولم يكن هنالك أجهزة تصوير بالأشعة مثلا، لم يكن يعرف السبب، لأن كل شيء كان يتم خارج المستشفيات بالرغم من أن خاله كان يعمل مضمدا في المستشفى، وتساءل لو لم يكن الرجل الكردي موجودًا ربما لبقيت يدي مكسورة وبتُّ معوقا طيلة عمري، ثم همهمَ مع نفسه قائلا: يبدو أنني كنت محظوظا بوجود الطب الشعبي فهو الذي أنقذني، لكنه تذكر أن أمه حينما رجعوا به للبيت سألته لماذا قال إن العوجة هي التي أسقطته، فأخبرها: نعم هي التي أسقطتني فأينما أذهب تلاحقني، فأنا رأيتها تدفع الأرجوحة بقوة للأعلى وتتركها فتنزل مسرعة، وأنا أصرخ توقفي وهي لا ترضى أن تتوقف.
فأخبرتني أمي أن العوجة قد ماتت، فكيف هي التي دفعتك، إلا أنني كنت مصرا على جوابي حينما قلت لها: كلا لم تمتْ، وأنا أراها دائما تمشي في الدربونة، مع الرجل الشرير، فتسكت ولا تدري بماذا ترد عليّ، وعيناها تلعبان في محجريهما من الخوف، هو لايزال يتذكر والدته عندما جاءت إلى البيت وهي مذهولة في يوم مقتل العوجة، وهي ترتجف من الخوف ووجهها أصفر وشفتاها ترتعدان، وهي تصيح :- أويلي عليها بعده احْديثة، وعدها جهال ثلاثة ما خافوا من الله، وما فهمه من كلامها بصدد مقتلها الذي انتشر بين سكان المحلة، أن العوجة كانت تخرج فجرًا ولا أحد يدري إلى أين كانت تذهب، ووصلتْ أخبار إلى أخوتها أنها باتت امرأة سيئة السمعة ويأخذونها للمتعة، وقد راقبها أخوانها وتأكدوا مما كانت تفعله، فأوصوا أحد أبناء عمومتهم فترقبها فجرا، وحين دخلت أحد الأفران دخل خلفها وشهر عليها سكينا وغرزه في أماكن عدة من جسدها وعنقها وماتت من ساعتها، وقد حكم عليه بالسجن لعدة أشهر لأن القضية قضية شرف، وتمت غسلا للعار، وفعلا حين خرج من السجن كانت هديته أن يتزوج الابنة الصغيرة التي رآها تبكي ذات يوم عندما تتكلم مع أمه، فعرف أنها كانت تبكي لأن خالها غصبها لتتزوج قاتل أمها، خوفا من أن تنحرف مثل أمها.
كان حادث مقتل العوجة لا يفارق مخيلته حتى كبره، وتذكر أنه بعد أربعين يوما من سقوطه من الأرجوحة أخذه عمه وأمه للكردي ليفك جبيرته، ابتسم له الرجل، وكان وسيمًا أشقر بعينين زرقاوين لكنهما مخيفتان، فتح له الجبيرة فبانت يده صفراء من لون صفار البيض الذي بقي على يده، فضغط الرجل على يده وسأله هل تشعر بألم فيها، فأخبره بأنه لا يحس بأي ألم، ابتسم وقال لعمه وأمه، الحمد لله لقد شفيت يده، وكانت فرحة والدته كبيرة، وحين رجعوا للبيت ، سخنت أمه الماء وغسلت جسده بالماء والصابون وفركت يده كي تزيل اللون الأصفر منها، وحين انتهى من الحمام، أضطجع على فراشه قرب رازونة الغرفة، فسأل أمه عن بنت العوجة قائلا: يمه، هل بنت العوجة زينة لو مو زينة، كان السؤال مباغتا لأمه، فلا تدري ما مغزى سؤال طفل صغير لا يعرف ما يقول، فأجابته: زينة وحبابة وخوش بنية، ثم قالت له : سأجلب الطعام حتى نتعشى ونصعد فوق السطح لننام، لكنه سرعان ما سألها سؤالا كاد يفقدها صوابها، حين قال: لعد ليش تزوجت هذا الرجل الشرير، فحدجته بنظرة كمن أسقط بيدها، فقالت له: حينما تكبر ستعرف .... وتركته وخرجت...
كان عليه أن يكبر ليفهم ما يجري حوله، لكنه لحد الآن لا يفهم لم قُتلتْ العوجة، في مجتمع يمارس فيه الرجال الجريمة والزنا أحرارا، هنالك رجال مارسوا الزناء مع العوجة لم يقتلهم أحد ولم يعاقبوا، لكن العوجة عوقبت بالقتل، ليس هذا فقط بل زوجت ابنتها القاصر من قاتل أمها، لقد أيقن أن قوانين الغاب أكثر رحمة من قوانين مدينته الفاضلة.


أبو ظبي- السبت
‏24‏/03‏/2018‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى