أحمد ابراهيمـ عيد - تشابكات الأنماط وجدليات الانتماء... قراءة فى رواية "سيسامنيس" للكاتب أحمد عبدالله إسماعيل

.. (( روايـة مـيـلودرامـية نـفـسـية اجـتـمـاعـية قـاسـية ومـزعـجة )) ..
تتحدد ملامح التشابكات المرهقة بين الشخصيات الكثيرة فى الرواية ، مابين شخصيات ٍ لانمطية مهيمنة ، وشخصيات نمطية تابعة لها بصور متلاحقة عبر الأحداث .. وتتحدد جدليات الانتماء لكل هذه الشخصيات تبعا ً للطبيعة البشرية من ناحية ، ولطبيعة الحراك الدرامى من ناحية ٍ أخرى .

وقبل أن نطرح طبيعة هذه التشابكات وتلكم الجدليات ، لابد لنا من وقفة تأملية حول طبيعة العرض الفنى المصوِّر لهذه الجدليات والتشابكات .

أولا ً : قراءة فى فنيات النصوص المصاحبة : -

(( الـنصـوص الـمـصـاحـبة والخـارجـة مـن عـبـاءة الـمـتـن الـروائى ، تـتـمـثـل فى الـغـلاف الأمـامى ، والـغـلاف الأخـيـر ، والإهــداء ))

( ١ ) الغلاف الأمامى :

ترتكز الشيفرة الإشارية الأولية والمتمثلة فى العنوان على تلكم القصة الشهيرة لذلكم القاضى الفاسد " سيسامنيس " الفارسى ، الذى عاش فى زمن الملك قمبيز الثانى ، والذى كان يتقاضى الرشاوى ويصدر أحكاما ً جائرة وظالمة ، وانتهى أمره بأن حكم عليه الملك بأن يُسلخ جلده حيا ً ، ويُتخذ منه فرشا ً لكرسي الحكم القضائي الذى سيجلس عليه ولده من بعده .
والعجيب أن القاضى الفاسد " ماجد أبو المجد " - الشخصية الأولى بالرواية قد زين بهو قصره المنيف باللوحة الشهيرة التى تحكى قصة " سيسامنيس " !! .. وكأنه قد ارتبطت نفسُه باطنيا بهذا الفاسد ، فعلى الرغم من تظاهره بالتقوى والصلاح ، وعلى الرغم من حرصه على إصدار أحكامه القضائية العادلة .. إلا أن سيرته وسريرته الخاصة جاءت -عبر النص الروائى - على عكس ذلك تماما ً ، ولم يستفد من شعار العدالة ، أو مطرقة منصة القضاء ، المتصدرين لغلاف الرواية ، كرمزين لإقامة العدل ، وذلك فى الطبعة الأولى للرواية (( ومن البديهى - سـلوكيا ً - أن شخصية القاضى يجب أن تبتعد تماما ً عن التصرفات السـادية قولا ً أو فعلا ً ، ولكن هذا الـ " ماجد " جاءت شخصيته عبر الأحداث على العكس من ذلك تماما ً )) .

( ٢ ) الإهـداء :

جاء الإهداء العام للرواية إلى الوالدة ، وإلى روح الوالد ، وإلى الزوجة ، وأخيرا ً إلى فاطمة الابنة قرة العين ، وهذا طبيعى فى إهداء العمل الأدبى للمقربين من الكاتب .. إلا أن السطر الهام فى الإهداء يتماهى بشكل ٍ فنى ّ ( معكوس ) مع ما تم طرحه عبر النص الروائى من شغف المستشار الفاسد وحلمه الدائم بوريث ( ذكر ) يرث امبراطورية " أبو المجد " الزائفة ،، ولكن الكاتب يهدى عمله الروائى ( بوعيه الذاتى الإيمانىّ بأهمية التداعى القيمىّ ) لولده ، حيث يقول : " إلى محمد ( ملامحى ) التى ستبقى " .. وهو يعنى هنا بالطبع الملامح المعنوية الصحيحة القويمة ، إلى جانب الملامح الشخصية الخاصة .

( ٣ ) الغلاف الأخير :

تخيّر الكاتب ( فى الطبعة الأولى ) أن يثبت على الغلاف الأخير هذا المقطع من حوارية العرافة مع " ماجد " وهى تحذره بتلك النبوءة ، والمتمثلة فى مآله المُنتظر ، تلك النبوءة التى لم يهتم بها المستشار وتعالى عليها ، ولكنها كانت هى الأبرز دائما ً فى مخيلته كلما تداعت لذهنه تتابعات جرائمه الشنعاء ، ولهذا كانت كوابيسه المزعجة تلاحقه فى نومه ، ولكنه لم يرعوى ويتعظ ، ولم يستفد من جرس الإنذار الذى تحمله هذه النبوءة المُلخـَّـصة فى الجملة الأخيرة.. " سيزول مجدك ، وسيكون هناك الكثير من الضحايا " .

ثانيا ً : الملامح العامة :-

1 ** فى التصنيفات الموضوعية للروايات نرى أن الروايات تُصنـَّف : بالأمكنة ، والأزمنة ، والشخصيات ، والأحداث ، كل ٌّ فى ترتيبه الأسبق حسب سياقات السرد الأسلوبى .. وفى روايتنا هذه وعلى الرغم من تباين الأماكن مابين المناخ القروى ، والزخم المدنى ، والأحياء الشعبية .. وعلى الرغم من تعدد وكثرة الشخصيات الرئيسية والهامشية ، إلا أن المتصدر الأولىّ الموضوعىّ والفكرى عبر السياق العام هو شراسة وتشابكات الأحداث المتواترة والمتلاحقة ، إذن فهى رواية أحداث فى المقام الأول .

2 ** تجنح الأسلوبية العامة موضوعيا ً وسيكلوجيا ً إلى طرح حالة هامة بها الكثير من الإزعاج النفسى المتواتر بالنص الروائى ، وذلك باستعراض هذا الكم المتدافع دراميا ً من جرائم متلاحقة يمارسها البعض من الصفوة المجتمعية ، إلى جانب المقهورين من هؤلاء ، وهذه الجرائم ممثلة دراميا ً فى ممارسات المستشار الفاسد ، ونائب الشعب التابع له ، والعمدة الذى يتلاعب به المستشار لأغراضه الخاصة ، والشيخ التابع لأؤلئك الفسدة ، والمالك الذى يبيع ملكه وأهله فى مقابل المال وشهوته ، والسائق الذى يستخدمه المستشار فى جرائمه المتعددة ، والمحامي الذى يغدر بأستاذه وبصديقه ( توأم روحه ) لحساب ذلك الفاسد ..... إلــخ ..... وهذا الإزعاج النفسى الصادم ساقه الكاتب كجرس إنذار هام اجتماعيا ً وأخلاقيا ً .

3 ** تتمركز معانى الأفكار الضمنية - المطروحة من الكاتب - فى معظم سياقات الحراك الدرامى حول محاولات تصحيح مسارات العلاقات الاجتماعية كهدف أساسى ، وذلك فى إطار هام يعتمد على المقاربة ما بين العدالة البشرية بما يعتريها من نقص ٍ وأخطاء ، وبين تجليات واستلهامات روح العدالة الإلهية فى صورها المطلقة والمرجوة لتحقيق المساواة بقدر ما قد يتحقق به للمجتمع بطوائفه المختلفة حالة ً من الاتزان الذى يرقى بالمجتمعات .

ثالثا ً : مفتاح السر السيكولوجى :-

فى مقاربة ٍ تأملية ٍ للتشابكات الكثيرة المتواترة للشخصيات ، ولجدلية انتماء هذه الشخصيات لذاتها بشكل ٍ مُطلق .. نتسـاءل :
ماهو مفتاح السر لدى الكاتب الذى بنى عليه هذه التشابكات وتلكم الجدلية ؟؟
والإجابة المباشرة تتحقق فى هذه الازدواجية النفسية الواضحة التى سطرها الكاتب عبر الأحداث عن ذلكم ( السيسامنيس الاسماعيلي ) الحديث - نسبة ً للكاتب أحمد إسماعيل - حيث يمارس السادية بشكل ٍ مبالغ فيه ، ولم ينتبه لتقلبات الزمن - رغم النبوءة - ويمارس بازدواجيته العجيبة ذلكم الصلاح الظاهرى مقترنا ً بالعـنفـوان الإجرامى ... والمشهد الذى يمثل قمة هذه الازدواجية السيكولوجية يصوره الكاتب حينما يندهش الشيخ / جابر - سائقه السابق / " طارة العفريت " - تمام الاندهاش ، حينما يمد المستشار يده المليئة بالأموال الكثيرة كتبرع لعامل المسجد ، فى حين أنه يحرضه - فى المسجد - لمعاودة القتل لصالحه ، بعد أن تخلص " طارة العفريت " من قبل من زوجته السرية " رشا حجاب " وابنها ( الذى كان يحلم بأن يُكمِل به مجد امبراطوريته الزائفة ، ولكنه يخشى على وجاهته الاجتماعية حيث هددته بكشف سره ، ويأمره أيضا بقتل كل من يعكر عليه صفو هذه الوجاهة الشرسة والزائفة .
( هذه الازدواجية السادية الشرسة هى المحرك الأساس لكل المفارقات التى بُنيَت عليها كل التشابكات الدرامية عبر الأحداث )

رابعا ً : السمات الأسلوبية سرديا ً :-

( ١ ) الحراك الدرامى والبنية الروائية : -

جاءت طبيعة الأحداث المتشابكة والمرتكزة على هذه السادية المزدوجة مابين الخير الظاهرى والإجرام الباطنى المحرك للتفاعلات المتواترة ما بين المستشار وباقى شخصيات الرواية ، ليكون لذلك أثره الجلى فى كيفية البناء السردى بالرواية ، حيث يستشعر المتلقى الحصيف مدى التوحُّد ( أسلوبيا ً وسرديا ً ) مابين الكاتب وشخصيته الرئيسية " ماجد " المهيمن والمتغطرس ، حيث جاء متن الرواية كاملا ً تحت العنوان الرئيسى " سيسامنيس " دون ذكر عناوين فرعية للفصول ، والاكتفاء بترقيمها من ١ : ٦ ، ليأتى الفصل ( ١ ) محمَّلا ً بتأسيس التفاصيل لشخصية ذلكم السادى المتغطرس ( ظاهريا وباطنيا ) وبيان علاقته الخيِّٓرة بأهل بلدته بشكل ٍ عام ، وعلاقاته الإجرامية السرية بمجموعة التابعين له .. ثم مع استمرارية فصول الرواية دراميا ً ، تتكشـَّف للمتلقى ملامح وصور هيمنته الشهوانية على كل مستويات علاقـاته ، ظنا ً منه أنه بسلطته القضائية وسلطانه المادى ، فوق الجميع .. ثم وفى الختام تكون النهاية الحتمية بذلكم الخسران المبين الذى لم يتحسَّـب له .

( ٢ ) بناء الشخصيات وتأثيراتها الدرامية : -

بعد التصنيف الأولىّ للعمل كرواية أحداث - فى المقام الأول - يأتى التصنيف الثانى كرواية شخصيات ، حيث تواتر ظهور شخصيات كثيرة ( رئيسية ، وثانوية ، وهامشية ) ولكن الملمح الأساسى فى مجموع الشخصيات ، أن معظم الشخصيات الذكورية تنتمى إلى طبقات الفساد والمفسدين والمرتكبى للجرائم باختلاف أنواعها :
• المستشار " ماجد أبو المجد " : ريفىّ المنشأ الذى ينسى أصالته الريفية وينساق وراء غواية المال والشهوة والشهرة ، مرتكبا لكل الموبقات ومحرضا ً على كل الجرائم للمحافظة على هيبته ووجهاهته وأملاكه .

• عضو مجلس النواب " السويفى " : يتخلى عن مهامه الأساسية ويصبح ألعوبة فى يد المستشار لممارسة الحفر والتنقيب عن الآثار لتهريبها ، إلى جانب المخالفات الأخرى .

• العمدة عباس : المتواطئ رغم أنفه ، والمُسيَّس من ماجد لتنفيذ كل أوامره الخاطئة ، وإجبار الآخرين على ما يُطلب منهم .

• الشيخ أحمد خليل : يشترك معهم ويداهن المستشار الفاسد ويساعد على مساومة أصحاب المنازل للتخلى عنها لأعمال الحفر والتنقيب عن الآثار .

• سعيد صاحب الدار : يغدر بأهله متنازلا ً عن بيتهم لصالح المستشار وأعوانه طامعا ً فى الفتات من الغنيمة الفاسدة .

• طارة العفريت : السائق الخاص للمستشار الذى يستخدمه للتخلص من زوجته السرية وابنها ( الذى كان يتمناه كوريث لمملكته الزائفة ).. والذى أصبح الشيخ جابر محاولا ً أن يتوب فيلقى مصرعه على يد مصطفى .

• مصطفى الدايخ : المحامى الفاسد الذى يخون أستاذه المستشار " إبراهيم مختار " ويخون صديقه وتوأم روحه ويصبح قاتلا ً مأجورا ً لصالح ماجد .

• زاهر أبو المجد : ( الشخصية الهامشية ) الذى يترك وصاياه وكنوزه لولده ماجد موصيا ً إياه بالمحافظة على إمبراطورية أبو المجد وعدم تسليمها إلا لحفيده ( حتى ولو تزوج لعشر مرات ) .

تتناوب هذه الشخصيات النمطية واللانمطية فى الدخول إلى دائرة الفساد والإفساد العام والخاص عبر الأنساق الدرامية ، ولا يخرج من تلكم الدائرة الجهنمية إلا القليل جدا ً من الشخصيات وهم :

** الشيخ إسماعيل عبد الهادى : مدير مكتب وزير الداخلية السابق ، الذى يصادف " ماجد " فى المسجد أثناء بحثه عن " جابر " محاولا ً إرشاده لطريق الهداية والصواب .

** محسن عبد الهادى : ولده الذى يعمل بالمخابرات الحربية ، والذى يساعد " شمس " فى الإبلاغ عن جرائم " ماجد " أمام هيئة التفتيش القضائي .

** حامد زوج أخت جابر : الشخصية الهامشية الذى وافق على أن تحيا أم جابر فى منزله رغم ثراء جابر تاجر السيارات .

** عـمـرو : الشخصية الهامشية ، توأم " ماجد " الذى يكتشف ذلك مؤخرا ً ، والذى كان يمكن توظيفه دراميا ً بصورة ٍ أفضل ، والذى يقف موقفا ً محايدا ً من جرائم أخيه .

.. وعلى النقيض من السلبيات الواضحة للشخصيات الذكورية ، تتحرك الشخصيات النسائية ( دراميا ً ) بتأثيراتها الإيجابية الهامة والمحورية فى سياق الأحداث ، متمثلة ً فى فطرتها وخيريـَّـتها الطبيعية ، أو فى محاولات تخلـُّـصِها من قبضة الفساد المسيطرة عليها :

• العـرافـة : التى تصادف ماجد فى البدايات ، ملقية ً إليه بنبوأتها بضياع ملكه وسلطانه ، لتسـتقـر ارهاصات هذه النبوءة فى أعماق المستشار ، وبالتالى فى ذهن المتلقى المتتبع لها طوال أحداث الرواية .. [ إلا أن حوارية العرافة مع " ماجد " جاءت فصحوية أكثر من اللازم ، وغير متناسبة مع شخصية العرافة ] .

• الأم " نادرة هانم " : التى تحجب سرها الخطير عن ولدها غير الشرعى " ماجد " ولم تبُحْ به إلا فى رسالة إليه وقت احتضارها ، لتتحدد بهذه الرسالة النهايات المحتومة للفسـاد والفاسـدين .

• الـزوجـة " سـمـيـرة " : تحـاول طوال الرحلة المضنية مع زوجها أن تحتفظ بمحبتها القديمة له رغم علمها بخيانته لها ، وتحاول أن تعمل على تنقيته من فساده رغم تأكـُّـدِها من ازدواجية شخصيته المرتبكة والمُربـِكة .

• الابـنة "هـنـاء " : تعشق والدها ماجد كمثال يُحتذى به ، وتُصدم بانهيار شخصيته المُتصـوَّرة فى النهاية ( كان يمكن استثمار شخصيتها دراميا ً أفضل من ذلك ، حيث جاءت شخصيتها باهته ً إلى حـدٍّ كبير عبر الأحداث ) .

• " أمـ عـمـرو " : الأمـ الحقيقية لـ " ماجد " التى ترعـاه رعاية ً خاصة كمربية طوال الأحداث ، والتى تظهر له ميتافيزيقا ً كشبح ٍ يظهر له ثم يختفى فى اللحظات الفارقة من ملابسات ومفارقات حياته المزدوجة الغرائبية .

• " رشـا حـجـاب " المذيعة التى تزوجها " ماجد " سـرا ً وأنجب منها طفله المرتجى ، وعندما طالبته بإعلان الزواج يرفض لمكانته ، فهددته باللجوء لهيئة التفتيش القضائي ، فتخلـَّص منها ومن الطفل بقتلهما .

• " زيـنـة " : المرأة اللعوب مزدوجة المشاعر ، رغم محبتها لماجد ، تقف موقفا ً داعما ً لضحاياه - ومنهم " جـنـَّـات " - مهددة ً إياه بكشف أسراره فى مذكراتها الخاصة ، فيتخلص منها أيضـا ً بقتلها .

• " جـنـَّات " : إحدى ضحايا " ماجد " التى وافق على الزواج بها سـرا ً - تحت تهديد زينة ثم يحاول قتلها - دهسا ً بسـيارة - أمام محل المجوهرات وقت شراء شبكتها ، فتفقد جنينها ، ثم وبعد زواجه منها تشتبك معه فى حوار لإثبات حقوقها ، فيعتدى عليها لتفقد جنينها للمرة الثانية .

• " شـمـس " : زوجة الشيخ جابر /طارة العفريت سابقا ً ، التى يتحايل عليها " ماجد " - طمعا ً فيها - بعد قتله لزوجها ليتخذها زوجة سرية أخرى ، ولكنه يقع فريسة ً لجمالها الطبيعى الخلاب ، فيصرح لها بأسرار خزانته الخاصة بأموالها الطائلة وكنوزها الأثرية المخبوءة ، إلى جانب مذكراته الخاصة ، فتكون بداية النهاية لامبراطورية أبو المجد .

• " نـاديـن " : : عشيقة أخرى لماجد ، يزوجها للمحامي الخائن " مصطفى " ويقاسمه فى جسدها ، جاعلا ً منها جاسوسة ً عليه ولكنها تنقلب عليه بعد خسرانه لكل شئ ، وتفضيله لـ " شمس عليها .

• " أمـ جـابـر " : نمطـٌ هادئ من النساء اللاتى يتمتعـن بالفطرة النقية ، تستشعر ما بولدها من هم ٍ وغـم أثناء تهديد ماجد له ، فتحتضنه ناصحة ً إياه " انتبه لنفسك .. فالمثل يقول ( من عاش منتبها ً قـلـَّت مصـائبه ) .. [ يتوافق هذا المثل مع الحكمة الشهيرة .. " الناس نـيـامـ ، إذا مـاتـوا انـتـبـهـوا " .

( ٣ ) فـنـيـات المـشـهـدية والـحـوار : -

إذا كان السمت العام لتخليق أحداث هذه الرواية - المثيرة للجدل - قد اقتضى أن تكون المشهدية السردية المرتكزة على المفارقات البيئية المتنوعة ، هى العصب الأساسى لتكوين الحراك الدرامى بها ، فإن هذه المشهدية قد تحركت بصياغتها الأسلوبية لتشتمل على عدة مستويات مختلفة منها : المشهدية الحركية والوصفية.. والتى تنوعت ما بين الأجواء الريفية المرصودة فى الفصل التأسيسى الأول ، وما بين التوصيف العام للطبيعة ، وبين الرصد الحى للجو الحميمى للوليمة التى أقامها ماجد فى ذكرى والده ، وبين ملابسات وتفاصيل الجلسة السرية لمجموعة الفساد التآمرى بقيادة ماجد ، ثم مشهد العرافة وتلك النبوءة المدوية واستنكاره لها ، ثم الرحيل بالسيارة وإغفاءة ماجد لتكتشف زوجته خياناته على شاشة محموله الخاص ، ثم وفى المقطع الأخير ، حضور العمدة للقاهرة لاستكمال الخطط السرية للحفر والتنقيب عن الآثار تحت بيوت القرية ... ليبدأ الفصل الثانى من الرواية بهذه التوصيفات التى لها سمة الشاعرية الأسلوبية ..
" توسط القمر السماء الصافية ، والنجوم من حوله تظهر بوضوح كأنها تحاول مغازلته " .. لنعاين بعد ذلك مشهد قصر ماجد المنيف وهو .. " مبنى ٌ على نسق القصور الرومانية القديمة ذات الأعمدة ، يتزين مدخله بمنحوتات يونانية وإيطالية " .. ثم وفى انتقالة مشهدية دالة على حالات التشابك ما بين الباطنى والظاهرى ، وبعد أن قدَّم ماجد لافتقاده لأمه التى تقود حياته ، نرى " نادرة هانم " وهى فى فترة النقاهة فى " آى سى مارسيليا " وهى تعانى من سرها الدفين .. " أغمضت عينيها .. هزت رأسها يمينا ً وشمالا ً ، أحاطت بها الآه الرابضة فى قاع روحها ، ثم زفرت فى ضيق ٍ شديد وظلت تهز ساقها اليمنى دون توقف " وهاهى فى هذه الحالة من التوتر ( الباطنى والظاهرى ) تتساءل فى مونولوج داخلى عن ولدها ماجد .. " ما تأثير هذا السر عليه ؟ كيف سيقابل ظلمة الحيرة ؟؟ كيف يخطو من بوابة الماضى إلى تيه السراب ؟؟

كل هذه المشهدية ترسخ للمفارقات والملابسات الدرامية كمرتكز إنسانى يؤكد على الضعف الداخلى لشخصية ماجد رغم اغتراره بسلطته الحاكمة وسلطانه المادى ، ولكن إحساسه بالاهتزاز الداخلى ، وازدواجيته الغرائبية وشهوانيته ، كل ذلك جعله يعانى فى مشاهد متتالية من كوابيسه المفزعة .

ولعل عدم الإفصاح عن السر الدفين الذى يعتمل فى أعماق الأم ، يُعـدُّ من قبيل فنيات المشاهد المؤجـِّلة للمعانى والأحداث عبر السياق الدرامى المتصل بمشاهده المتباينة ، والتى منها ( على سبيل المؤجلات التى تستنفر عقل المتلقى لمواصلة اكتشافها ) ذلك المشهد الذى تتلقى فيه الزوجة " سميرة " تلك الرسالة من المذيعة " رشا حجاب " :
" هددني ماجد بالقتل أنا وطفلنا الرضيع إن كشفت تفاصيل زواجه به لكِ أو لأى مخلوق آخر " .. وظل اختفاء المذيعة من الوسط الإعلامى بل وغيابها التام لغزا ً ، لم يتم الكشف عنه إلا فى مشهد اجتماع " ماجد " بـ " جابر " بعد توبته ليساومه أيضا ً على قتل " زينة " و " جنات " وأخيها.. ويظل أيضا ً هذا المشهد معلقا ً فى فضاء المؤجلات سرديا ً ، إلى أن يبوح السارد مؤخرا ً بأن " مصطفى " قام بقتل الجميع بما فيهم " جابر " .. ثم وفى سياق هذه المؤجلات تكتب " نادرة هانم " لولدها رسالة ً وقت احتضارها تخبره فيها بأنه ليس ابنها ، وأن سره يكمن فى أعماق " أم عمرو " ، لتتوالى المؤجلات حيث تدخل صاحبة السر إلى غرفة العـناية المركزة ، ولا يتم كشف السر إلا بعد أن يتهاوى ( صرح امبراطورية أبو المجد ) فى مشهد ٍ يجتمع فيه " عمرو " لزيارة أخيه التوأم " ماجد " فى محبسه ، مُصرِّحا ً له بعلمه مؤخرا ً بحقيقة أمهما المشتركة .

ولعل التجارب الإبداعية السابقة للكاتب فى القصة والرواية جعلت مبدعنا أكثر تغلغلا ً فى أعماق شخصياته سيكلوجيا ، وهذا من خلال تلكم المشاهد المتواترة والأكثر قدرة ً على استخراج النوازع النفسية بهذه الارتباكات المزدوجة ما بين الخير والشر فى دواخل الشخصيات ، ولعل من أبرز هذه التشابكات الازدواجية والمؤثرة فى الحراك الدرامى ما يعتمل فى أعماق " ماجد " من تضارب وجدانى ، حتى أنه فى لحظات ٍ جوهرية للتعبير عن محبته الخالصة لابنته يخبرها عن مدى اشتياقه لوريثه الولد وبأنه سيفعل كل ما بوسعه ليأتى هذا الولد ، ورغم ذلك بعدما أعطاه الله ذلكم الولد قام بقتله للحفاظ على وجاهته الاجتماعية ، وحتى عندما تداعبه ابنته سائلة له : ولماذا تدمن مشاهدة اللعبة الكرتونية للقط والفأر يصدمها بقوله : لا غنى لى عن ذلك !!!

وخطورة هذه الازدواجية المتواترة فى السياق العام بالرواية أنها تُمارَس من شخصية ٍ حاكمة بسلطتها المعنوية والمادية ، ولذا .. فإن هذه الازدواجية قد انتقلت دراميا ً إلى كل الشخصيات بمستويات ٍ متباينة ، ويبدو ذلك جليا ً فى كل الحوارات المتبادلة بين الشخصيات على مدار الأحداث ، وقد امتدت آثار هذه الازدواجية إلى الحوارات الداخلية فى أعماق الشخصيات كمونولوجات داخلية خاصة ً من الزوجة " سميرة " والابنة " هناء " وغيرهما من الضحايا ..... والأدهى من ذلك أن تمتد هذه الازدواجية لتشمل هذا الـ " مصطفى " الذى كان يُرجى منه الخير كمحام ٍ نابه ، لنرى هذا الديالوج الحوارى - الذى امتد على مدى عدة صفحات - بينه وبين شيطانه ، محاولا ً الثبات على طريق الفضيلة وفيا ً لأستاذه وصديقه توأم روحه ، ولكن .. تحت إغراءات وتهديدات " ماجد " ينتصر قرينه الشرير ، فيقتل ولى نعمته ويغدر بصديقه .. [ ولكن السرد الحوارى داخل هذا المونولوج قد طال أكثر مما ينبغى وتكررت فيه المعانى والأفكار ] .

وربما كان الإدمان لحب النساء المبالغ فيه ، إلى جانب شهوة الشهرة المسيطرة المهلكة ، إلى جوار إدمان حب المال والجاه ، كل ذلك قد أدى إلى بعض الانتقالات السردية المفاجئة عبر سياقات الأحداث .

خامسا : ما بين " سيسامنيس " الأول .. والحالى : -

إذا قـُورِنت نهاية " سيسامنيس " الفارسى بنهاية " سيسامنيس " الاسماعيلي، نرى أن العقوبة الوحشية الرادعة للأول لم تعْطه فرصة للتراجع عن غيه وغوايته ، ولكن السرد الحكائى قد أعطى لماجد هنا - ولأكثر من مرة - فرصة ً للتراجع ومراجعة الذات ، مرة ً فى حواريته مع ابنته قرة عينه التى هدهدت مشاعره ناصحة ً ومحبة ً له ، ومرة ً مع زوجته المعرضة عنه لخياناته ، عندما تعاطفت معه تماما ً بعد كابوسه شديد الإزعاج ، وتهيأت له لإسعاده والترويح عنه لاستعادته كإنسان وزوج مخلص .. والمشهد الأهم عندما صادفه بالمسجد " إسماعيل عبد الهادى " هاديا ً ومرشدا ً ، حتى أن " ماجد " تأثر قائلا ً : " سقطت من السماء وأنت التقطتنى " .. ومع كل ذلك تغلبت عليه نزعاته الشريرة واستمر فى غـيِّه وغـوايته ليلقى حتفه المحتوم ، بعد أن تعـرَّى تماما ً من كل سمات الخيرية والإنسانية ، التى كان يستشعرها أحيانا ً ، لتؤكد الرواية على مفهوم الحيلولة القدرية - والمقدرة سلفا ً - بين الظالم لنفسه وبين قلبه .. (( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقـلـبه )) .

• وفى الختام ومع النهاية نقول : بأن لكل عمل ٍ أدبىٍّ غـاية ، والغاية هنا تقول بأن الوقاية من غـواية الـذات لذاتها ووسـوسـتها لنفسـها قبل شـيطانها لهـو أمر ٌ من الأهمية بمكان ، حيث تسـارعـت الأحـداث مع نهايات الرواية لتؤكد على أنه : مع تفاقم منظومة أى فـسـاد ، فإن النهاية الحتمية هى السـقوط المدوى لهذا الفساد ، وتؤكد أيضا ً بأن عدم الرضا عن العطاءات الإلهية ، وعدم القناعة بالعدالة الإلهية المطلقة قبل العدالة البشرية المنقوصة والظالمة ؛ من أهم أسباب الشقاء للأفراد وللمجتمعات ، وبأن كل المحاولات البائسة للإنسان لتغيير المقدور تنتهى كنهايات الرواية بالخسـران المبين .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى