عبد علي حسن - الريادة والرائد... إشكالية التوصيف

* تعدُّ قضية الريادة من القضايا المعقّدة خاصة في الٱداب والفنون ، على الرغم من وضوح معناها اللغوي والإصطلاحي ، إلّا أنها تتعرض وبشكل دائم الىٰ اشكالية في إطلاق هذا المصطلح ، ولعلّ مردّ ذلك إلى أسباب كثيرة ، وفي مقدّمتها نقل أو استعارة هذا الجنس الأدبي أو النوع أو النمط من البنية الثقافية للٱخر وعدّ من قام بالنقل أو الإستعارة بالرائد فتحسب له الريادة في شيوع النمط المنقول ، كما أن عددا من النقاد والباحثين يعدّون المحاولات الإرهاصية ريادةّ ، والبعض الٱخر يعدّون القدمَ في العمر معياراً لريادة النمط في بيئة لم تشهد وجوده إلّا أنه سبق وإن وجد في بيئة أخرى وتم استعارته أو نقله عبر الترجمة أو الإطلاع أو التثاقف والتأثر ، على أن كل ماذكرت لا صلة له بأصل مفهوم الريادة وتوصيفه الصائب وينسحب ذلك أيضاً على مصطلح الرائد ومفهومه ، ومن أجل فكّ الإلتباس وحل هذه الإشكالية التي يتعرض لها مفهوما الريادة والرائد في النقد والبحث الأدبي العراقي والعربي سنقوم بمعالجة ذلك لأجل أن تكون مفاهيمنا الأدبية والفنية في منطقة السلامة عند استخدام المصطلح كيما نكون على بينة من معايير التطور والتجديد في الأجناس والأنواع الأدبية والفنية الفاعلة في مشهدنا الثقافي .
ولكي يكون مدخلنا في المعالجة سليماً لابدّ لنا من إيراد التعريف اللغوي والإصطلاحي لمصطلح (الريادة) ليكون هذا التعريف المثابة و المنطلق الصحيح في تقويمنا للإستخدام السليم في البحوث والدراسات الأدبية والنقدية .
والمعنى اللغوي يشير إلى الفعل ( راد يرود رودانا ورياداً والمفعول مرود ، وراد القوم قادهم وتقدّمهم ) أما المعنى الاصطلاحب فهو يشير إلى ان الريادة كمفهوم تعني قدرة الأفراد علىٰ الإبتكار والتفكير خارج المألوف والمستهلك والشائع وتطوير افكار جديدة متميزة تركّز على تحقيق أهداف معينة ، ووفق ذلك فإن الرائد هو الشخص الذي يقود أو يبتكر في مجال معين ، ويعتبر عادة نموذجا يحتذى به في مجاله ، فهو يتمتع برؤية واضحة وقدرة على التأثير في الٱخرين وتحفيزهم على تحقيق أهداف مشتركة .
وفي ضوء ماتقدم من معرفة بالمعنى اللغوي والإصطلاحي لمفردتي (الريادة) و (الرائد) فإننا سنعالج الإشكاليات الثلاث في استخدامهما ، فالإشكال الأول هو اعتبار الإرهاصات الممهدة لجنس أو نوع ادبي وفني ريادة والمنجز لها رائدا .
اذ يذهب العديد من الباحثين والنقاد إلى عدٍّ الإرهاصات ريادة لظهور جنس ما أو نوع ما ، كما يحاول البعض منهم البحث في المنجز التراثي العربي عن محاولات الخروج على الأنماط أو وجود نصوص تشير إلى الأجناس والانواع الأدبية خاصة تلك التي وفدت إلى البنية الثقافية العربية من البنية الثقافية للٱخر والأوروبية تحديداً ، كالرواية والقصة والقصة القصيرة جدا والشعر الحر وقصيدة النثر ، إذ أن الشكلين الوحيدين الشعريين اللذين يجدان امتدادها بالثقافة العربية هما الشعر العمودي وقصيدة التفعيلة فقط ، وماعدا ذلك فإن جميع الأشكال التعبيرية التي يتم تداولها في المشهد الثقافي العربي شعرا ونثراً قد وردت الينا من الٱخر ، ولانعدُّ ذلك عيباً ثقافياً في البنية الثقافية العربية التي شهدت تعالقاً وتحاوراً مع المنجز الثقافي للٱخر ، إذ أبدع الكتاب العرب في الإضافة والتجريب على تلك الٱجناس والأشكال وبما يتناسب وحركة الواقع الاجتماعي والثقافي العربي بكل تحولاته ، ولعلَّ دوافع تلك المحاولات التي تجعل الارهاصات هي محض ريادات أو محاولات ايجاد جذور لبعض الأشكال الأدبية المعاصرة في التراث العربي ، إنما هي سعيٌ من قبل النقد العربي للمساهمة في صيرورات الأجناس والانواع الأدبية التي يشهدها النقد العالمي ، وإذا كانت الارهاصات _وكما أجمعت المعاجم _ تعني الأمر الخارق للعادة يظهر للنبيّ قبل بعثته ، يكون من مقدمات النبوة ، كان ذلك إرهاصاً النبوة ، وتأتي بمعنى التمهيد والمقدمة والبداية ، المقدمة التي تشير إلى قرب وقوع الشيء ، فإن الريادة هي مجمل الخصائص والسلوكيات المرتبطة بقدرات إبداعية وتجديدية ، والرائد هو من يأخذ روح المبادرة والتحرك ، وبمعنى ٱخر فإنها - الريادة- تنهض على تلك المقدمات/الإرهاصات لتصوغ قوانينها وظهورها كحركة طليعية قائدة في مجالها بعد توفر ثلاثة إجراءات الأول /القصدية ، الثاني /التكرار ، الثالث /التجاوز ، لذلك فإن كل الأجناس والانواع الأدبية المتداولة قد سبق ظهورها ارهاصات عدّت مقدمات لتكسب ريادتها عبر الإجراءات التي أشرت إليها ٱنفا ، والأمثلة كثيرة على ذلك ، ولعل أقربها قصيدة التفعيلة التي سبق ظهورها وفق قواعد توصلت إليها نازك الملائكة في كتابها ( قضايا الشعر المعاصر) جملة من المقدمات تمثلت في عدد من النصوص التي شكّلت خروجا على قوانين الشعر العمودي على يد شعراء عرب منهم علي احمد باكثير ، فعدّت قصيدة التفعيلة رائدة في حركة الشعر العربي المعاصر لتوفر القصدية والتكرار والتجاوز في كتابتها ، وكذلك بقية الأجناس والانواع الأدبية ، أما الادعاء بوجود اشكال أدبية قديمة تعد جذرا لأشكال معاصرة كما يتداوله بعض الباحثين ، مثل اعتبار الشعر السومري والملاحم العراقية القديمة والاشراقات الصوفية قصائد نثر،فهو أمر يثير إشكالات عديدة لامجال لمناقشتها في هذا الحيز ، ولكني أشير فقط إلى حقيقة معرفية تقوّضُ هذا الزعم ، وهي أن الأجناس الأدبية تظهر كحاجة واستجابة للمتغير الاجتماعي في زمن معين كما في قصيدة النثر التي ولدت نتيجة لظروف تاريخية واجتماعية وفكرية سادت في أواخر القرن التاسع عشر على يد بودلير الذي اعتمد هو الآخر على مجموعة من الارهاصات لكتابة هذا النمط كما وجده عند لوتريامون وباترن وسواه من الشعراء الفرنسيين الذين جربوا الخروج على النمط الكلاسيكي للشعر الفرنسي ، إلا انهاكانت تفتقد إلى القصدية والتكرار والتجاوز في كتابة قصيدة النثر التي توفر للجنس والشكل الجديد فواعل ظهوره كريادة في زمنها الذي استدعاها كما أراد لها بودلير ومالماريه ورامبو وغيرهم ، وكذا الأمر إذا أردنا التمثيل لظهور الرواية العالمية والعربية والقصة القصيرة ، فكل هذه الأجناس والأشكال ظهرت كاشكال ريادية مستوفية لقوانين تكوينها الداخلية بعد بنائها على ارهاصات سابقة ، كما أن هنالك ظروف تاريخية واجتماعية وفكرية استدعت ظهورها ، لذا فإن أي محاولة لإسناد الريادة إلى كاتب ما في مجال القصة والقصة القصيرة جدا والرواية وقصيدة النثر والقصيدة الحرة (غير التفعيلة) إنما هو محاولة يعتورها الإشكال وعدم الدقّة لإفتقادها إلى القصدية والتكرار والتجاوز كما حصل في التجربة الريادية لقصيدة التفعيلة عبر روادها نازك والسياب والبياتي التي ظهرت من معطف القصيدة الكلاسيكية/ التقليدية كما أنها توافرت على عناصر الفعل الريادي من قصدية وتكرار وتجاوز ، لذا فأن هذه الأشكال السالفة قد وفدت نقلاً وتأثراً بالٱخر وتحديدا الغربي الذي أنجزها لظروف اجتماعية وثقافية استدعت ظهورها ، ولعل ذلك يحيلنا إلى معالجة الإشكال الثاني وهو اعتماد ظهور هذه الأشكال التعبيرية بعد نقلها من بيئة الٱخر كتجارب أو منجز ريادي في الوقت الذي تم نقلها بقصدية واضحة وفق شروطها الإجناسية التي عرفت بها ، نعم ممكن اعتبار اي ظهور جديد متجاوز للشكل المنقول برؤية وشكل جديد هو ظهور ريادي ، وهو مالم يحصل للٱن في البنية الثقافية العربية ، مع الأخذ بنظر الإعتبار المحاولات التنويعية لهذا الشكل أو ذاك ، مثل تنويعات الرواية التأريخية او اعتماد السطر الشعري في كتابة قصيدة النثر كما هو شائع الٱن ، أما الإشكال الثالث وهو شائع في مستويات عدّة فنية منها وأدبية وهو اعتماد المدة الزمنية في كتابة هذا النمط أو ذاك فعلا رياديا ، فتطلق مفردة الرائد على الكاتب أو الفنان الذي قضى وقتاً طويلاً في ممارسته الأدبية والفنية لأشكال تعبيرية تم تكريسها في البنية الثقافية ، ونرى بطلان هذا الادعاء والأطلاق لاعتبار أن الأشكال التي يمارس كتابتها هؤلاء القدماء قد تم إيجادها سلفا وفق قواعدها الإجناسية المنقولة أو المبتكرة ، ولافضل لهم سوى بتقادم ممارستهم لها .
وتأسيساً على ماتقدم تتجلىٰ لنا بعض الجوانب التي نراها ضرورية لظهور الشكل الريادي وتوصيفات الرائد على حد سواء ، مثل الإبداع والإبتكار ، إذ نرى ضرورة تقديم افكار جديدة وأساليب مميزة ، ولعل ذلك مايجعل الرائد متفرّدا و مميّزاً بين الٱخرين وذو صوت خاص ، وكذلك التفاعل مع المتغير الإجتماعي الذي يكون سبباً في ظهور مضامين جديدة تستدعي اشكالاً جديدة تستوعب تلك المضامين وتعبّر عنها وبذا تكون انعكاساً موضوعياً يتضمن القدرة على التغيير عبر تمتّع المنجز الجديد بالفعل الجمالي المتقدم والخارج على ماهو مألوف ومستهلك وتقليدي ، كما أن الإستمرارية والتكرار في تقديم المنجز الجديد وتجاوزه يمنح الشكل الريادي موقعاً متقدًماً يحوز على الريادة بمعناها السليم .
إن أهمية البحث في موضوع الريادة والرائد والإستخدام الصحيح في استخدامهما تهدف إلى تطوير الفكر النقدي ، إذ يساعد البحث في الريادة الأدبية والفنية على تعزيز مهارات التفكير النقدي لدىٰ الباحثين والقرّاء ، كما أنه يسهم في حفظ الذاكرة الثقافية وتوثيق التحولات الأدبية والفنية عبر العصور مما يساهم في فهم السياق التاريخي والاجتماعي للمنجز الإبداعي ، ومن خلال دراسة منجز الرواد يمكن للباحثين والمبدعين اللاحقين استلهام الأفكار الجديدة وتطوير أساليبهم الخاصة ،

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى