زكريا صُبح - رواية سيسامنيس مغامرة جريئة تخوض في قضايا المسكوت عنه. رؤية نقدية

تتخذ رواية سيسامنيس للكاتب أحمد عبدالله إسماعيل من الأدب ساحةً للمغامرة الجريئة، حيث تخوض في قضايا "المسكوت عنه"، وتحديدًا الفساد في السلطة القضائية، وهو موضوع حساس نظرًا لما يفترض أن تتمتع به هذه السلطة من نزاهة وعدالة. اختيار نموذج القاضي الفاسد، كما يوحي اسم الرواية المستوحى من القاضي الفارسي الشهير الذي عوقب بسلخه حيًا بسبب فساده، يحمل دلالة قوية على طبيعة العمل، الذي لا يكتفي بالكشف عن الفساد، بل يعريه أخلاقيًا ونفسيًا.

طرح الكاتب لهذا الموضوع يندرج ضمن تيار "الأدب الكاشف"، وهو الأدب الذي لا يهادن الواقع، بل يواجهه بجرأة، مما يجعله في كثير من الأحيان عرضةً للمنع أو النقد الحاد. وكما أشرتَ، فإن قائمة "المسكوت عنه" في العالم العربي لم تعد تقتصر على الدين والسياسة والجنس، بل امتدت لتشمل المؤسسات ذات السلطة والنفوذ، مثل القضاء والجيش، وأحيانًا الشخصيات النافذة التي تحظى بحصانة غير رسمية.

يبقى المحور النقدي الأهم أن الكاتب قدّم هذه القضية فنيًا، واستطاع أن يوازن بين الطرح الجريء والأسلوب الأدبي الجاذب؛ حيث أنه لم يعتمد على السرد التقليدي، بل لجأ إلى تقنيات حداثية مثل تعدد الأصوات واللعب بالزمن.

لا تقدّم الرواية القاضي الفاسد ماجد زاهر أبو المجد كشخصية محورية فحسب، بل تتناول المنظومة التي سمحت له بالتمادي في فساده، وهو طرح أكثر عمقًا من مجرد إدانة فرد بعينه. فالفساد، كما تشير الرواية، ليس فعلًا منعزلًا، بل هو نتيجة شبكة من التواطؤ السلبي والصمت والخوف، وربما المصالح المشتركة التي تربط بين الفاسد ومن حوله.

اختيار الكاتب لبطل الرواية لم يكن اعتباطيًا، فهو يمثّل الصورة النقيضة لما يُفترض أن يكون عليه القاضي، مما يخلق صدمة للقارئ ويجعله يعيد التفكير في مفهوم العدالة داخل المجتمع. هذه الشخصية تجمع بين القوة والضعف، بين السلطة والانحراف، مما يتيح فرصة لعرض أبعادها النفسية والاجتماعية بتفصيل أعمق.

أما على المستوى السردي، فإن نجاح الرواية لا يتوقف فقط على جرأة الموضوع، بل يعتمد على قدرة الكاتب على تقديمه بأسلوب مشوّق ومتماسك. وهنا يبرز التساؤل: كيف بنى الكاتب حبكته؟ وكيف تجلّت شخصية القاضي في تطورها النفسي عبر الأحداث؟

تحمل الرواية أبعادًا نقدية ليس فقط للسلطة القضائية، بل للمجتمع الذي يسهم في ترسيخ الفساد بصمته أو خوفه.
التساؤل النقدي الذي يمثل جوهر تحليل أي عمل أدبي هو: كيف استطاع الكاتب أن يحوّل موضوعه الجريء إلى بناء فني متماسك وجاذب؟
فالكتابة ليست مجرد طرح قضية، بل هي فن يتطلب مهارة في الصياغة، وبراعة في السرد، وقدرة على خلق التشويق والإقناع.

من خلال تشبيه الكاتب بالبَنّاء، يبرز هنا السؤال الأهم: ما الأدوات السردية التي استعان بها أحمد عبدالله إسماعيل في سيسامنيس؟ هل لجأ إلى السرد التقليدي أم اعتمد على تقنيات حداثية مثل تعدد الأصوات أو البناء غير الخطي للأحداث؟ هل كان الراوي عليمًا بكل شيء أم اعتمد على وجهة نظر محددة تعكس رؤية شخصية معينة؟ كيف تم رسم الشخصيات، وهل استطاع الكاتب تقديم القاضي ماجد زاهر أبو المجد كشخصية متكاملة بأبعادها النفسية والاجتماعية، أم أنه ظل مجرد رمز للفساد؟

ثم هناك عنصر آخر لا يقل أهمية: كيف تعامل الكاتب مع الإيقاع السردي؟ هل جاء سريعًا، مشحونًا بالأحداث، أم أنه اتسم بالبطء التأملي الذي يتيح للقارئ الغوص في التحليل النفسي للشخصيات؟ وكيف وُظِّف المكان والزمان في خدمة الحبكة؟

الروايات التي تتناول الفساد والسلطة غالبًا ما تواجه تحديًا في ألا تتحول إلى خطاب مباشر أو توثيق جاف للواقع، بل يجب أن تبقى وفية لروح السرد الأدبي، بحيث لا يشعر القارئ أنه أمام تقرير أو مقالة سياسية. فهل نجحت سيسامنيس في تحقيق هذا التوازن؟ هذا ما يحدده أسلوب الكاتب وطريقته في بناء عالمه الروائي.

إذن، يمكن القول إن رواية سيسامنيس تنتمي إلى ذلك النوع من الأدب الذي يعيد تشكيل الواقع في قالب فني، حيث يعتمد الكاتب على أحداث معروفة ويستخدمها كمادة خام لصنع نص أدبي يحمل بُعدًا نقديًا واجتماعيًا. هذا النوع من الكتابة يجعل القارئ يعيش حالة من التفاعل المستمر مع النص؛ لأنه يجد نفسه أمام وقائع تشبه ما يراه في حياته اليومية، لكنها مع ذلك مغلفة بلغة السرد والتقنيات الأدبية التي تمنحها طابعًا دراميًا وفنيًا خاصًا.

الحدّ الفاصل بين الواقع والخيال
يبدو أن الكاتب لم يكتفِ بتوثيق الأحداث أو إعادة سردها بشكل مباشر، بل اختار أن يخلق عالمًا موازيًا يحمل أبعادًا رمزية وفنية، بحيث يكون النص قادرًا على إثارة الأسئلة بدلاً من تقديم إجابات جاهزة. هذا الأسلوب يمنح الرواية قوة وتأثيرًا؛ لأنه يجعل القارئ شريكًا في إعادة تأويل الأحداث وربطها بما يعرفه من الواقع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى