أدب السجون جمعي شايبي - شرق المتوسط والآن هنا ثنائية منيف في أدب السجون

_ ١_ شرق المتوسط .
_ ٢_ الآن ... هنا . عبد الرحمن منيف.
لا تخمد في جوانحي جمرة الشغف المتقدة بالعودة إلى المنيف عبد الرحمن منيف رحمة الله عليه ورضوانه .. ذلك الأديب المائز الذي لايمل أدبه .. ذلك العبقري الملهم الذي غيبته الموت فخلدته مؤلفاته الرائعة .
ليحيلني ولعي بأدب السجون على قراءة ثنائية من أجمل روائع الأدب وعيونه .. تلك التي أهدانا إياها منيف مذ أمد بعيد قبل رحيله القاتل : شرق المتوسط والآن ... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى ليروي لنا مأساة تلك البلابل التي كانت سقوفها السماءات فأبدلوها بأسقف الزنزانات ودياجيرها .

1739014169329.png

وعن تلك السجون العربية التي سرقت ربيع شبابهم وأكلت أنضر أزاهير أيامهم وخيرة رجالهم حتى باتت تلك السجون عارهم الذي لم يفلتهم حتى في المنافي ومدائن الإغتراب الموحشة .
إنها مأساة السجناء السياسيين المظلومين الذين سرقتهم سجون حكومات تحركها أضيق المصالح بدل المبادئ .. واستبقت أرواحهم البريئة حبيسة بين جدر الزنازين الضيقة المعتمة .
تلك السجون التي لم تبقي لهم من الوطن في ذاكرتهم غير ظلمة الزنازين والصور المضرجة بالدم والعذاب والقهر والموت وخوف لاينفك يداهمهم في الحلم كما في اليقظة طوال حيواتهم البائسة .
بعدما قضوا أطول الآماد معلقين بين الصمود تحت وطأة التعذيب أو السقوط في مذلة الإعترافات الزائفة الكاذبة .. حتى باتت أجسادهم تضج بالندوب والعاهات وتنضح أرواحهم بالعلل والسقامات فيغدو الموت من شدة التعذيب شغفا ورغبة مرتجاة .
مأساة تفنن في خلقها جلادون جمعوا بين القسوة والغلظة وموات القلب كلما تجمعوا على ضحية تجمع النسور على فريسة وهم يلهثون من فرط الضرب كالكلاب المسعورة .. وبسبب مخبرين ظلمة لا يخفى عليهم حتى معرفة أسماء كلابنا .
فهل هناك من حزن أقسى وأمض من أن يبكي الرجال حين يغدو الدمع سلاحهم الأخير ؟.
وهل تستحق الحياة أن تعاش إذا تحول الإنسان إلى دمية .. إلى كرة تتقاذفها أرجل الجلادين بسخرية وإذلال ؟.
وهل ثمة من مأساة أفضع وأشنع من أن يغدو الحق في الحياة والحرية جرما خطيرا وخطيئة عظمى ؟.
إنها مأساة بطل شرق المتوسط رجب إسماعيل الذي طالت مأساته أمه وأخته نفيسة وزوجها حامد وحبيبته هدى التي تخلت عنه حينما قضى خمس سنوات في السجن من حكم ١١ عاما صدر بحقه ظلما وعدوانا .
من خلال مافهمت من شرق المتوسط صغت بعضا من الأسئلة الحارقة المتعلقة بفحواها وعظيم معانيها المخبوءة :
هل الصمود من نتاج الإرادة ؟.
هل تصمد أجسادنا كما أرواحنا أم أن الخوف من التعذيب هو من يفقدنا إرادة المقاومة ؟.
وهل يكون لزاما علينا إذا ما انهارت أجسادنا من فرط التعذيب أن تنهار إرادتنا ؟.
ومن يخوننا أجسادنا المهشمة أم أرواحنا المعذبة وأيهما عيب الإنسان حين تتداعى إرادته جسده أم روحه ؟.
لقد مزق رجب بالصمت أحشاء جلاديه طوال خمس سنوات متواصلة تحت وطأة التعذيب لكن ذلك الصمود الأسطوري ذهب أدراج الرياح في ثانية .. لحظة توقيعه على وثيقة اعتراف كاذبة فما الذي قهره غياب أمه المتوفاة أم عواطف أخته نفيسة وحنينها ؟.
لقد سقط رجب في شرق المتوسط لكنه عاد في آخرها وانتصر في آخر عمره على جلاديه إذ لم يصافح اليد التي لوثت طهر دمه وإن كلفه ذلك الإباء حياته .
أما رواية الآن ... هنا فإن بطليها عادل الخالدي وطالع العريفي اللذين جمعتهما الغربة والمرض في إحدى مستشفيات براغ من بعد أن تقاسما عمرا حطمته السجون فإنها درس بليغ علمنا كيفما يحمي سجين في داخله ذلك الإنسان الذي لا يحبه أن يسقط .
وإن هذه الرواية صرخة مجلجلة مدوية مفادها أن الغباء والجبن هما أسباب هزائمتا الداخلية وأن الجهل هو الوجه الآخر للعبودية .
وإنها سؤال حارق يظل عالقا بأذهاننا الحائرة : كيف نخلق نظاما وشعبا يؤمنان حقا بالحرية ؟.
إن رواية الآن ... هنا حكمة تقول لنا :
حكوا ظهوركم بأظفاركم وانتزعوا أشواككم بآياديكم .
إن العبقري الملهم منيف رحمه الله حينما كتب هذه الثنائية الخالدة لم يكتبها ليستعرض بطولات فردية أو لإثارة الشفقة واستقطارها من ينابيع عواطفنا إنما ليساهم بقسط وافر في خلق وعينا الجمعوي المغيب ..
ليعلمنا بأن العجز عن التعبير سجن وأن اليأس وليد هزائمنا النفسية وأن جميع الناس سجناء خوفهم ولن يكسر قيد أسرهم إلا وعيهم الكامل والتام .
وأن ما يغير العالم ليست الحروب إنما الأفكار .. وأن أعظم السقطات المدوية سقوط الإنسان كالأبنية المتداعية .
إنه.يفصح لنا بأن حتى الجلاد ضحية .. إذ قتل الإنسان الذي كان فيه .. الإنسان الذي مات في الجلاد .
لقد أتعب البطل طالع العريفي جلاديه بطول الإحتمال وهزمهم بالصمت والعناد .. فبالعناد والصمت يتعب الجلاد ويهزم لكن انتصارا كهذا لن يحدث إلا بعد أن يتحول صانعه إلى نافورة دماء متدفقة .
كاتبنا الحبيب الراحل منيف لاتزال ذات الحال على حالها .. لا جدوى أستاذي العزيز وملهمي من محاولة استعادة واستنقاذ إنسان من روح جلاد .. لقد فات الأوان مذ مات فيه الضمير والعقل والوجدان وتحول إلى وحش ودابة من الدواب وعبدا خصيا كسائر العبيد والخصيان والخصاء الفكري هو ما أعنيه .
أقول لا جدوى من ذلك طالما أن أبطأ شيئ في التغير هو عقولنا وقناعاتنا وأنماط تفكيرنا حتى أن أبطأ السلاحف بإمكانها أن تسبقنا رغم ثقل حركتها ومادام التفكير في هذا العالم الأرعن جريمة في باريس أو في جنيف أو غيرهما رغم رمزيتهما الثورية والحقوقية .
ومادام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مجرد حبر على ورق لا تعني للمتغطرسين شيئا .
في هذه الثنائية : شرق المتوسط والآن ... هنا مدينتي موران وعمورة بسحونهما المتكاثرة كالفطريات السجن المركزي سجن العفير سجن القليعة وغيرها هي الخارطة التي تحطمت عبرها أحلام الأبطال الذين في مقابل ذلك حطموا أوهامنا .
من لم. تبكيه هذه الثنائية بمرارة وحرقة فليكبر على إنسانيته أربعا .
ومن لم يذرف دمعه من فرط الضحك حينما يقرأ ما وقع بين السجين حامد زيدان أبو مكرم مع المساعد خليل خيرو أبو غايب أبو البنات فليراجع حس الطرافة عنده .
كاتبنا الكبير عبد الرحمن منيف لقد كان أبطالك يحلمون بأن تهدم السجون وتبنى مكانها حدائق ورياض أطفال .. إن ذلك لم يحدث من بعدك للأسف لأننا لازلنا محبوسين في زنازين خوفنا ولأن وعينا لم يولد بعد ولعل لتلك الأحلام أن تتحقق بعقول جيل لا تشبه عقول جيلنا المقعرة .. ومع ذلك فإني لا ازالني أراهن على الفكرة وسلاح الكلمة .

جمعي شايبي .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى