عبد الرحيم جيران - النقد المنهجي للهوية السردية

أستأنف في هذا المقال ما شرعت في إثارته في المقال السابق من أسئلة حول مفهوم الهوية السرديّة عند بول ريكور. وأتّوجه مباشرة إلى الهاجس المنهجيّ الذي اُتّبع في بنائه (المفهوم). وأقف في البداية عند ثلاث ملاحظات رئيسة:
أـ أوّل هذه الملاحظات تتّصل بعيب منهجي ومنطقي؛ والمقصود بهذا الحل الذي انتهجه بول ريكور في تجاوز التعارض بين الزمان الكسمولوجيّ (الطبيعيّ) الذي هو وارد عند أرسطو والزمان الروحيّ- السيكولوجيّ المؤسَّس بفضل سانت أوغسطين، وتحديده (الحل) في مفهــــوم الزمان التمثيليّ (المحاكاتيّ) استنادًا إلى مفهوم الحبكة والتمثيل الأرسطيّين.
ولن ننصرف هنا إلى مناقشة صحّة هذا الاختيار، فقد أدلينا ببعض الملاحظات في صدده في المقال السابق، وإنّما سنعمل على إظهار المعضلات المنهجيّة التي تترتّب عليها. أعرف أنّ نظرية الوسط الأرسطيّة (التي صيغت في مجال الأخلاق) هي التي تتحكّم في صياغة هذا الحلّ (اقتراح الحبكة)؛ أي إيجاد موقف وسط يتقاطع فيه الزمان الكوسمولوجيّ والزمان النفسيّ. لكن فهم العالم وظواهره لا يُقامان بالضرورة بوساطة حلّ مؤسَّس على محو التعارضات، وإيجاد هذا الحلّ في مفهوم ثالث بديل لها تتصالح فيه أطرافها. وربّما كان عدم حلّ التعارضات هو ميزة تُظهر طبيعة (العالم) وتكوّنه، وأنّ ما ينبغي فعله نظريًّا هو فهم كيف تشتغل هذه التعارضات وتتبادل التأثير في ما بينها- في حركة تجديليّة- من أجل المساهمة في إظهاره. ويُمْكِن فهم العالم السرديّ أكثر، والهوية السرديّة كذلك، إذا تنبّهنا إلى التعارض بين الظاهر والباطن والرغبات والتحقّقات والوسائل والغايات. ولا يُمْكِن فهم الزمان إلّا في إطار فهمه بوصفه توتُّرًا بين زمان الرغبة (الإرادة) وزمان الواقع وحكمه، لا تصالحهما في إطار وحدة زمانيّة عليا؛ فزمان الرغبة لا يعترف بالحدود الزمكانيّة الموضوعيّة، بل يُدمِّرها، بينما يعمل زمان الواقع وحكمه على جعل الرغبة تصطدم بشروطه الموضوعيّة، لأنّها لا تقبل التحقّق إلا في إطارها (الشروط). ومن ثمّة تُعاني الهوية السرديّة- بفعل هذا التوتّر بين الزمانين- من عدم تجلّيها التامّ؛ فهي محكومة من جهة بنقص العالم وعدم كفايته، ومن جهة أخرى بمحدودية الإرادة، ومحدودية الجسد والوسائل التي تتوّسل الذات السردية بها في تحقيق الرغبة.
ب- هناك شرط منطقي في بناء أي حلّ بين تصوّرين متعارضين، وهو البحث عنه بعيدًا عنهما، أو خارجهما، في تصوّر ثالث موحَّد يختلف عنهما. ومعنى هذا أنّه لا يصح مطلقًا إيجاد حلّ في أحدهما. فإذا ما تمّ هذا فمعناه الانتصار لتصوّر بالضرورة على حساب تصوّر آخر. وحتّى هذا الانتصار لا يُعَدُّ حلًّا لأنّه يحافظ على التعارض كما هو بسبب إقصاء أحد التصوّرين من الحلّ. وهذا هو العيب المنطقيّ الذي شاب العملية التي انتهجها بول ريكور في حلّ التعارض بين الزمانين: الكوسمولوجيّ والروحيّ- السيكولوجيّ؛ إذ اختاره من كتاب «البويطيقا» لأرسطو؛ فلا يعقل أن يضع تصوّر أرسطو بوصفه متعارضًا مع تصوّر سانت أغسطين، ويُختار الحلّ منه الأول على حساب ما يتعارض معه. قد يُحاججنا البعض مدّعيًا أنّ بول ريكور لم ينتصر لتصوّر الزمان عند أرسطو، وإنّما أخذ عنه فقط مفهوم الحبكة، لكن علينا ألّا ننسى أنّ بول ريكور يتحدّث عن زمان تمثيليّ (محاكاتيّ)، والتمثيل مفهوم أرسطيّ. ما الذي يترتّب على هذا؟ إنّ كلّ تصوّر فلسفيّ هو تصوّر إشكاليّ- نسقيّ يُؤسَّس على مبادئ عامّة تضمن انسجامه. ومن ثمّة فالتمثيل والزمان عند أرسطو يخضعان لتصوّره الفلسفي العامّ، ويتأسسان وفق مبادئ محدَّدة. وهكذا حين يُختار الحلّ من عند أرسطو فإنّ على هذا الاختيار أن يتنبّه إلى كون التمثيل مفهوم (المحاكاة) قائمًا على تصوّر فلسفيّ- منطقيّ.
ج- يُثار سؤال آخر أكثر شرعية، وهو يتعلّق بمدى ارتباط مفهوم التمثيل (المحاكاة) والحبكة بالهوية عند أرسطو. لا يوجد هناك ما يدلّ على هذا الارتباط في كتاب البويطيقا. هناك فقط التحوّل بالانتقال من الجهل إلى المعرفة ومن السعادة إلى الشقاء، الذي يُميِّز الحبكة المركَّبة من الحبكة البسيطة التي لا تُقام على التحوّل. لكنّ هذا الأخير لا يُقرَن صراحة بمبدأ الهوية. يُعَدُّ- إذن- الربط بين الحبكة والهوية من استنتاج بول ريكور. لكن كان من المفروض أن يُبرَّر هذا الربط من داخل النسق الفلسفيّ الأرسطيّ وهو يتّخذ له موضوعًا التراجيديا. وكان من المفروض مراعاة مفهوم الهوية عند أرسطو الذي يَرِد في مبحثين غير مبحث البويطيقا، وهما: المنطق والفيزياء. ويُثار- هنا- سؤال آخر لماذا لم يأخذ بول ريكور بمفهوم الهوية كما صاغه أرسطو؟ وعلينا لفهم هذا الأمر أن نُعرّج على فهم الهوية الأرسطيّ. ينبغي أوّلًا الإقرار بأنّ الهوية لا تحتمل التناقض؛ فلا يُمْكِن للشيء أن يكُون ثلجًا ونارًا في الوقت ذاته.
لكنّ أرسطو لا ينفي مع ذلك التغيّرات التي تطول الهوية؛ فهناك التغيّرات التي تتلاءم معها، وهناك تلك التي لا تتلاءم معها. وتنقسم الأولى إلى كيفيّة (المرور من السليم إلى العليل) وكمّيّة (المرور من السمين إلى النحيل) وانتقاليّة (المرور من وضعية إلى أخرى أو من مكان إلى آخر). وتُعَدُّ هذه التغيّرات عارضة لا تمسّ هوية الكائن نفسه. أمّا التغيّرات غير المتلائمة مع الهوية فتعمل على تدميرها ونشوء هوية أخرى؛ وهي نوعان: تغيّرات التولّد وتغيّرات الفساد. فالأولى تتمثَّل مثلًا في تحوّل الجليد إلى ماء، والثانية في تحوّل الشجرة إلى رماد. ولا يُهمّنا- هنا- مناقشة الهوية في علاقتها بالجنس والنوع والوظيفة والشكل عند أرسطو بقدر ما يُهمِّنا التغيّر الذي لا يُهدِّم الهوية. وهذا الأخير(التغيّر) هو ما منع بول ريكور من الأخذ بمفهوم الهوية الأرسطيّ لأنّه يتناقض مع مفهوم الحياة المنظور إليه من زاوية الفعل والتجربة اللذين يقودان الذات إلى أن تكُون آخرَها. وإذا ما أخذنا مفهوم الهوية في ارتباطه بالتغيّر المتلائم نفهم الخلفية التي كانت وراء مفهوم التحوّل المنتج للحبكة المركّبة عند أرسطو؛ حيث لا يمسّ تحوّل أوديب من الجهل إلى المعرفة هويته نفسها، ونفهم مفهوم الخطأ العارض الذي ترتكبه الشخصية المأساويّة، ومن ثمّة لا يمس الفعل (الخطأ العارض) مبدأ الهوية الثابت للذات.
إنّ الفعل والحبكة ليسا سوى مظهرين لتفاعل الهوية- التي هي مرتبطة بذات مخصوصة- مع التغيّرات المتلائمة التي تنتج عن التفاعل مع العالم وموضوعاته.

٭ أكاديمي وأديب مغربي
* عن القدس العربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى