مصطفى فودة - قراءة فى المجموعة القصصية عكس الريح للكاتب يوسف أبو رية... تجربة الطفولة فى ريف أوشك على الزوال

يوسف أبو رية (1)من جيل السبعينيات من مدينة ههيا بمحافظة الشرقية عاصر القرية بشكلها القديم وراعه التحولات التى طرأت عليها بعد عصر الانفتاح الإقتصادى وزوالها وتحولها إلى مدينة ريفية ، وظل هاجس الكتابة عنها يراوده فى أعماله السردية وتأتى المجموعة القصصية "عكس الريح"(2) وهى المجموعة الثانية له تأكيدا لذلك .
عنوان المجموعة القصصية ودلالته
يذكرنا عنوان المجموعة القصصة ببيت شعر المتنبى (ما كل ما يتمنى المرءُ يدركه / تجرى الرياح بما لا تشتهى السفن) ويعنى مجازا أن الحياة لا تسير دائما وفق رغبات الإنسان وتتناول القصة الأخيرة "عكس الريح"والتى هى عنوان المجموعة استدعاء السارد للعودة إلى وحدته بالجيش فى آخر يوم له على عكس آماله وأمنياته بأنتهاء فترة تجنيده، وكذلك عبر عنوان المجموعة القصصية عن إحباطات شخصياتها وعدم تحقق أمنياتهم كما سنرى لاحقا.
تحتوى المجموعة على ست عشرة قصة فى مائة وإحدى عشرة صفحة موزعة على ثلاثة أقسام، القسم الأول يحتوى على ست قصص والقسم الثانى على أربع قصص ويمكن قراءتهم كمتوالية قصصية يكون الصبى السارد هو الشخصية التى تربط بينهم ويمكن قراءة كل قصة على حدة، أما القسم الثالث فيحتوى على ست قصص مختلفة، فى قصة "لسعة النار" يسقط براد الشاى على الطفل السارد فتصاب قدمه بحروق وكان يمنى نفسه بقضاء الليلة مع أبناء الأخت الكبيرة ، كما كان يتمنى أن يحقق أبوه رغبته فى إحضار أمه وأخوته ليعيشوا مع أبيه فى داره بالعزبة ولكنه يحبط ولا تتحقق رغباته، وفى قصة وسوسة يحاول السارد الطفل قتل زوجة أبيه عن طريق وضع المبيد من الرشاشة فى قطعة الجبن ولكنها تجبره على أكلها وتدسها فى فمه والنهاية مفتوحة بالقصة وتحتمل أن تكون أمنية أوحلما من أحلام اليقظة لكراهيته لها ، وفى قصة ظل الرجل توعز الأم إلى ابنها ليتحدث مع أبيه لتنتقل إلى داره بالعزبة ولما يحدث ذلك فى القصة التالية "أرض الغربة" تتعرض إلى الضرب المبرح من زوجها فتصبح بين الحياة والموت، وفى قصة السقوط على الأرض وهى كما يشير عنوانها إلى سقوط الابن فى الخطيئة مع زوجة أبيه الشابة التى تراوده عن نفسها عند خروج أبيه لصلاة الفجر بالمسجد ويتعرضان لعقاب قاسى من الأب وابنيه الكبيرين ويكونان على شفا الموت .
يواصل الطفل السارد فى القسم الثانى من المجموعة السرد وقد تقدم فى السن وأصبحا صبيا وفى قصة"آخرالليل" تتودد إليه الخياطة الشابة له أثناء عمل بيجامته الجديدة وتواعده بعد المغرب لتسليمها له مع نهاية مفتوحة ومحتملة عما حدث بينها، وفى قصة "حب الزعيم" يحمل السارد الطفل وزميله راية تمثل مدرسته و ترحب بالزعيم الذى يستقل القطار فى طريقه إلى المدينة التى انتصرت على العدو، ولم يصرح الكاتب باسم الزعيم أو المدينة ولكنه مفهوم من السياق أنه جمال عبد الناصر والمدينة هى بورسعيد والمعركة هى العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 والقصة ترمز إلى مصير جمال عبد الناصر ونهايته الحزينة ونهاية مشروعه بسقوط الراية على الأرض ومقتل الفرس الذى كان يحتفل بقدوم الزعيم ، وفى قصة "النافذة" يرى السارد جسد الولد الصغيرالميت فى مشهد سينمائى مروع أثناء غسله، وفى قصة "اقتحام الدار" يعتدى صانع الحصر على الفتاة رضا اعتقادا منه أنها على صلة بالطوبة التى أصابته فيخرج أخوها ويضربه حتى يشارف على الموت وما من مغيث.
أما القسم الثالث من المجموعة فهى قصص متفرقة وهى الملاك ، السجين ، حلم أبو عطية القديم فى العراء ، العقاب وعكس الريح على ما سنرى لاحقا من إحباط وحظ سئ للشخصيات، فى قصة ملاك تُرغم الفتاة الجميلة من والدها على الزواج من رجل شاذ وعنين وتُطلق منه وتطلق أهل القرية عليها الإشاعات بسوء سلوكها ، وفى قصة السجين بعد الإفراج عنه يود أن يعوض الأيام الضائعة فى السجن ويشيد دارا بالطوب الأحمر والأسمنت وينشئ برج حمام ويسعد زوجه وأباه الشيخ ولكنه يحبط قى أقرب الأمانى إليه حيث يسجل الدركى غيابه أثناء معاشرة زوجه حيث يخضع لنظام المراقبة لمدة خمس سنوات عليه أن يكون فى بيته من العشاء إلى الفجر، وفى قصة حلم "أبو عطية" القديم كان يحلم بإنجاب الولد ولكن زوجته ثلاث فتيات عمياوات، وفى قصة العراء يسقط بيت الراوى فيصبح فى العراء ، وفى قصة العقاب يتمنى السارد أن يتبول ولكنه يتعرض لعقاب جماعى فى وحدته العسكرية، وأخيرا قصته عكس الريح والتى سبق أن أشرنا أليها فى بداية القراءة .
العناية بالتفاصيل الصغيرة بالقرية :
عنيت قصص المجموعة بذكر التفاصيل الصغيرة بالبيئة القروية مثل الأدوات المنزلية فى هذه الفقرة " وأمرت زوجة ابنها بأن تحضر لى وابور السبرتو والكنكة والأكواب، جمعت كل هذه العدة ودخلت بها حجرة الكنب، اشعلت الوابور بعود ثقاب بعد أن عصرت شريطه لأخرج السبرتو من داخله، ووضعت الكنكة ، وربعت رجلى، وجلست ممسكا بيدى الكنكة مترقبا فوران الماء الذى سيغلى مع حفنة الشاى التى دلقتها عليه وفكرت أننى ساصحب ميمى وأخواته البنات إلى الغيط لنجمع بعض كيزان الذرة لنشويها بعد قدوم الليل فى راكية سأشعلها أمام الدار من حطب القطن "ص13 ، كما ذكرمفردات البيئة الريفية مثل حطب الدار، الشجرة العجوز، حجرة الفرن،الفأس ،الكوز،الخضرة الشاسعة، الجسر، العزبة،برج الحمام وقد فسر يوسف أبو رية سبب إحتفائه بتفاصيل الريف بقوله "وفى تفسيرى أننا آخر الأجيال التى لحقت بالريف بمعناه التقليدى الذى استمر من عهد الفراعنة إلى بدايات السبعينيات مع زمن الإنفتاح العشوائى وتغير الريف وإختفاء الادوات الأولية التى استخدمها الفلاح منذ عهد الفراعنة مثل الشادوف والنورج فأردت الكتابة عنها للإحتفاء به ولتثبيت والإبقاء على ماهو زائل ومن هنا كان حرصى على تسجيل كل تفصيلة وكل جزئية وكل ما وقعت عليه عينى وكل ما دخل فى تجربتى وتجربة الطفولة المرتبطة بالقرية " (3).
الجنس فى قصص المجموعة :
للجنس حضور لافت فى قصص المجموعة ولكنه موظف توظيفا فنيا واجتماعيا إذ نجد ممارسته –غالبا- غير صحى ويعبر عن الحرمان و الكبت وتحيطه المشكلات الاجتماعية مثل زواج كهل بشابة صغيرة مما يؤدى إلى سقوطها فى الخطيئة مع الابن كما فى قصة السقوط على الأرض أو إرغام فتاة جميلة على الزواج برجل شاذ وعنين فى مقابل منفعة اقتصادية يجنيها أبوها، أو ممارة الجنس مع الحيوان، أو ممارسة الجنس مع زوجته تحت التهديد بحضور الدركى فى أى وقت للتوقيع فى دفتره كما فى قصة السجين، وكلها ممارسات محبطة وغير سوية تدين مجتمعا غير سوى .
السرد والوصف واللغة :
اتسم السرد بقصص المجموعة بالمشهدية والتكثيف والايقاع السريع والبعد عن الرتابة وعلى سبيل المثال يصف الكاتب سقوط الابن مع زوجة أبيه "وكان دفء ، وكان قرب ، وكان اثم "ص41 ،وكان مشهد تغسيل الصبى الصغير أقرب إلى التصوير السينمائى ص59، كما وظف الكاتب تقنيات سردية حديثة مثل ترك مساحات شاغرة للقارئ لكى يملأها ويشارك فى تشكيل القصص كما رأينا فى قصة حب الزعيم من إغفال اسم الزعيم والمدينة والمعركة التى انتصرنا فيها ص53 كذلك ترك نهايات القصص مفتوحة وبعبارات احتمالية تقيل التأويل مثل العبارة المحتملة فى نهاية قصة السقوط على الارض" لينقذوها من اليد العظيمة التى تلفظ أنفاسها" يحتمل الضمير فى أنفاسها يعود على صاحب اليد وهو الزوج ويحتمل الزوجة الخائنة.
وقد غلب استعمال ضميرالمتكلم فى القسم الأول والثانى على لسان صبى حيث قدم الأحداث من وجة نظره ومن زاوية ذاتية وقد أحسن الكاتب فى استعمال ضمير المتكلم غى القصمين حيث عبر عن تجارب ذاتية فى متوالية مكونة من عشر قصص يجمع بينها السارد، أما القسم الثالث فهى قصص متفرقة استعمل الكاتب ضمير الغائب (العليم) فى ثلاث قصص هى الملاك والسجين وحلم أبوعطية القديم ، واستعمل ضمير المتكلم فى قصص العراء والعقاب وعكس الريح، أما الوصف فكان بارعا وموحيا فعلى سبيل المثال عبر بوصف (العحوز)عن أبيه زوج الفتاة الشابة التى وقعت فى الخطيئة وهو وصف دال ومكثف ويحمل إيحاءات عن سبب السقوط فى الخطيئة، كما أشارت قصة وسوسة إلى الممارسات الشعبية التى لجأت إليها زوجة الأب باستحضار الجن وعمل (عمل) عن طريق شيخ حتى لا يعود زوجها إلى امرأته القديمة.
اللغة والحوار :
اتسمت اللغة فى قصص المجموعة بالاقتصاد والكثافة واستخدام الفصحى المبسطة واللغة المحكية مثل شتوى كافر، على الغداء تحدث أبى، وعزَّت علىّ نفسى، وأنهى عفرتتى ، ها أنا وحدى فوق الحصير متكورا، كما استخدم اللهجة العامية فى الحوار فتعجبت أمى وقالت مستنكرة : وهل تكسحت رجلاه ، وسألتنى أمك فين؟، نام نامت عليك حيطة ، وتردد صوتها اللاذع دلع عيال ، انت ماكلتش ليه ؟ ، قلت لها : أريد أن يكون معنا على طول، وقد اتسمت لغة القصص بالحسية فى وصف المرأة إلا أنها حسية تتسم بالجمال الفنى والتعبير عن حب المرأة مثل " شعرها المعقوص على هيئة ذيل حصان، فيتقافذ على خديها قرطان بفصين لا معين ، وعلى صدرها تهتز ثمرتان ناضجتان مشتاقان للشمس والهواء"ص75 كما وظف الكاتب تقنية التناص فى عبارة"خرجت عليهم كريمة بالقلة تنضح بالماء قضموا أكفهم بدلا من اللقمة"ص75 الأية الكريمة من سورة يوسف "وقالت أخرج عليهن ، فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن "جزء من آية31 لوصف جمال الفتاة "كريمة" باستدعاء جمال النبى يوسف.
جماليات القبح :
فى قصة وسوسة صور السارد زوجة أبيه فى وضع منفروقبيح فى المرحاض وهى (تطلق ريحا وتنقل الماء إلى وضعها الملوث) وقد انتقده د/ على الراعى قائلا (ماذا تكسب القصة بإيراد هذا التفصيل وهو لا يضيف شيئا إلى القصة عدا القرف)(4)، وأرى أن هذا الوصف الدميم المنفر لزوجة الاب مبررًا من الناحية الفنية لأنه لم يكن مجانيا ومجردا بل جاء فى سياق كراهية السارد لزوجة أبيه ومحاولته قتلها بالسم بذات القصة لأنها سيطرت على أبيه وحرمت أمه وابنائها من أبيهم وهذا الوصف المنفر أطلق عليه النقد الحديث بجمالية القبح "هو جمال خاص داخل وظيفته ولبس قبحا مطلقا وهو أحد أطروحات مابعد الحداثة .. وبهذا يصبح القبيح فى الفن جميلا لما يحمله من معان خفية ومضامين رمزية "(5)
نجح يوسف أبو رية فى تصوير تفاصيل البيئة الريفية والتى أوشكت على الزوال بعد الإنفتاح الإقتصادى العشوائى بسرد مكثف وبطريقة مشهدية أقرب إلى التصوير السينمائى بلغة فنية وبتقنيات سردية حديثة محققا مشروعه السردى الذى انشغل فيه بالمكان ورصد تحولاته كما ورد فى هذه المجموعة .
_____________________________________________
هوامش (1)يوسف أبو رية قاص وروائى مصرى (1955- 2009) صدرت له ست مجموعات قصصية وست روايات وسبعة أعمال للأطفال .
(2) عكس الرياح قصص قصيرة طبعة مكتبة الأسرة 2002
(3) فيلم تسجيلى بعنوان يوسف أبو رية فى تجليات مبدع ، سيناريو إيمان مصطفى قراءة تعليق محمد عبده إخراج سحر رامى قناة النيل الثقافية .
(4) مقال ترنيمة للدار د/على الراعى من كتاب المفتون بالذاكرة ص141
(5) بتصرف من بحث (جماليات القبح فى إثراء مابعد الحداثة)، سارة مصطفى ،هنا حسن عامر ، مجلة الفنون والعلوم الإنسانية ديسمبر2023
May be an image of text

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى