علجية عيش - المثقف مطالب بتغيير الذهنيات

هل من مجال لـ: "دمقرطة الثقافة"

لا يمكن التخلص من السيطرة الأجنبية دون تحقيق الاستقلال الثقافي


"ازرع بذور ثقافة صحيحة في الجيل الحالي..، تجن نهضة شاملة يحققها جيل الغد و يستمتع بها" هي جملة قالها العالم الكبير الدكتور قسطنطين رزيق، الذي رأى أن ثقافة أمة، أيّ أمّة..، هي الزاد الذي يستمد منه أبناء الأمة و قادتها وأعلامها، و هي القدرة على مجابهة الصعاب و بناء الغد، على أسس أفضل و السعي بهم نحو مجتمع العدالة و الحرية و السلم و التقدم، و المثقف عادة ما يعتبر "الديمقراطية " السقف الذي يستظل به إذا أراد أمنا و حماية، وهي الرئة التي يتنفس بها، و الواقع أن المثقف هو قلب الأمّة النابض و عقلها المدبر، و إن تعرض القلب و العقل لعطب ما توقفت عجلة تقدم الأمة كلها

منذ آلاف السنين و الإنسان يبحث عن طريقة يغير بها نمط حياته، و يسعى لينتقل من الفردانية إلى العيش مع الجماعة ، التي منها يحقق ذاته و يؤمن الظرف المناسب للتواصل في نمط الحياة الديمقراطية على اختلاف أشكالها و نظمها، فكل من كتب عن الثقافة و المثقف يكاد لا يخرج عن حدود التعريفات التي قرأوها هنا و هناك، و دأبوا على تقديمها للطلبة في الثانوية و الجامعة أو في الملتقيات، فالبعض أرجعها إلى الزراعة culture، في المفهوم الفرنسي القديم ، و هو استعمال مجازي للدلالة على ما يجري من ترقية الأفكار و الآداب، و البعض الآخر قابلها بكلمة الحضارة ، التي تعكس الهمجية و البربرية.

و إن كان بعض الباحثين اعتبروا أن الثقافة مرتبطة بالحضارة، حيث تشمل هذه الأخيرة كما قالوا الأمور المادية و الوسائل المادية أيضا، فإن البعض الآخر فرق بين الحضارة و الثقافة، كون الثانية خاصة بكل أمّة على حدة، و هذا مخطئ لأن الثقافة الغربية استطاعت على نشر جذورها في الأمة العربية، خاصة دول العالم الثالث، الذي عرفت شعوبه السيطرة الاستعمارية، و إن كانت هذه الشعوب نالت استقلالها العسكري، فإنها لم تنل استقلالها الفكري و السياسي و الثقافي كذلك، و الجزائر كنموذج ما تزال مستعمرة ثقافيا، فيما راح البعض بالقول أن الثقافة أكثر شمولا، لأنها تنحصر بالأمور "الذهنية"..

فمما لا شك فيه أن المشكلة في المجتمع أي مجتمع ( الجزائر نموذجا) هي مشكلة "ذهنيات"، و تغييرها يأتي مع الجيل الذي يكون قادرا على التغيير، ليس على طريق "الربيع العربي" مثلما يحدث الآن، من أجل التحرر، و إسقاط الأنظمة ، و هنا يبادرنا سؤال وجيه، هل إسقاط النظام و إجبار الحاكم على الرحيل بطريقة أو بأخرى ، يعني القضاء على الفساد أو نهايته؟، فتغيير الذهنيات لا يأتي بالنار و الحديد، و لكن بالفكر، قليلون جدا من لهم فكر " نيّر" و لكن هؤلاء غير مرغوب فيهم، و غالبا ما يكونون في الهامش، و تمارس عليهم شتى أساليب الإقصاء، و أساليب أخرى إما تنتهي بالاغتيال، أو تدفعهم إلى الانطوائية، و هذه بدورها تقود إلى الشعور باليأس ثم الإقبال على الانتحار، و كم من فيلسوف مات مشنوقا أو مسموما، و لنا أمثلة في الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، الذي خص للحديث عن الثقافة و الحضارة و بناء الإنسان مجالا واسعا في كتبه و مؤلفاته، و نذكر أيضا الأديب السوري ندرة اليازجي الذي صور لوحة كانت عبارة عن فسيفساء لما سماه بـ: " حضارة البؤس" ، ركز فيها على قضايا الشباب ، و كانت له أحاديث في الصداقة و الزواج، و فلسفة الكذب و غير ذلك..

الاستقلال الثقافي عامل من عوامل تحضر المجتمع

الصراع بين الشرق و الغرب، و من له حق الملكية الفكرية، جعل البعض يطالبون بالاستقلال الثقافي، باعتبار أن الثقافة تعبير عن هوية المجتمع، غير أن الاصطدام وقع بين أصحاب هذا المطلب و دعاة الحداثة، وقد عرف بعض الكتاب المحدثين "الاستقلال الثقافي" بأنه لا يعني كراهية الثقافات الأجنبية و لا يتضمن قطع العلائق مع الثقافات الأخرى، إنما يعني تنظيم ثقافة البلاد و توجيهها حسب ما تقتضيه مصالح الأمة، ذلك صحيح، غير انه غير مطبق في الواقع، لأن المسؤولين على قطاع الثقافة لم يسعوا إلى تحقيق الاستقلال الثقافي، و راحوا بالقول أنه لابد من أن ننفتح على الآخر و نطور ثقافتنا ، و أن هذه الأخيرة بحاجة هي الأخرى إلى تلقيح اصطناعي من نوع خاص، لكي نمزج ما هو غربي مع ما هو شرقي، و يمكن أن نضرب مثالا لما دأبت عليه بعض الفرق الموسيقية في الجزائر و بخاصة في عاصمة الشرق قسنطينة، عندما أدخلت فن "الجاز" على فن المالوف" ، رغم أن الاثنان يختلفان.

فكل ما يقدم يكاد أن يكون تحصيل حاصل لما أنتجه الآخر، و أصبح هذا الآخر مثل الجنّ يسكن جسده و ذهنه المنغلق على أفكاره الأنانية حتى لا نقول "الخبيثة" ، يضع "الأقنعة" حتى لا تنكشف حقيقته المزيفة، فهل يمكن القول أن "المثقف" في المجتمع العربي بصفة عامة و المثقف الجزائري بصفة خاصة هو ذلك الوعي الزائف، لقد سئل أحد الفلاسفة في حوار أجرته معه جريدة "لوموند" le monde حول ماهية "المثقف" ، فكان رده : أنا لا أعرف من هو المثقف، أعرف أن هذا كاتب و ذاك موسيقي، و الآخر المهندس الذي يخطط، و الذي يعالج يقال له طبيب" و هكذا، أما المثقف فلم أتصادف معه" ، و يفهم من ذلك أن القضية تتعلق بالاختصاص، و كلّ و المجال الذي يعمل فيه، لكن الواقع أن "المثقف" لابد عليه كما يقول قسطنطين رزيق أن "يعرف شيئا عن كل شيئ، و يعرف كل شيء عن شيء"..

فما أعظم ما يكابده المثقف و هو يعصر ما أنتجه المفكرون، يقول عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكُتّابِ و هو يحثهم على العناية بتراثهم و دينهم: " فتنافسوا يا معشر الكتاب في صفوف الآداب و تفقهوا في الدين، و ابدأوا بعلك كتاب الله و الفرائض، ثم العربية فإنها حقائق ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط، و أرووا الأشعار و اعرفوا غريبها و معانيها، و أيام العرب و أحاديثهم و سيرها ، فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم"، و لنستمع إلى ( أمادو هامباتي بل) الذي يقول: " من مميزات المثقف الأساسية استعداداه لسماع الرأي الآخر و احترامه لرغبته في التوصل لتفاهم متبادل عن طريق الحوار و كراهيته للتعصب، و انفتاحه على الفهم العالمي، فهو يتمثل ثقافة مجتمعه و يستلهم أحلام قومه و آمالهم، و في نفس الوقت يعمل على تجاوزها أو تغييرها إن أصابها خلل .

الصِّرَاع بين "المُتَفَرْنِسِينَ" و "المُعَرّبـِينَ" متجذر في التاريخ

الصراع لم يعد بين الشرق و الغرب كما يعتقد البعض ، و إنما هو صراع بين أبناء الوطن الواحد ، المنقسمين ثقافيا إلى مُفَرِنِسٍ و مُعَرَّبٍ، مثلما يحدث في الجزائر، و أثبتت الدراسات في ميدان الثقافة مثلما جاء في كتاب بعنوان : آراء و أحاديث في العلم و الأخلاق و الثقافة" لأحد الكتاب المشارقة أن " الدول المستعمرة كثيرا ما تسعى لنشر ثقافتها في بعض البلاد، بغية تقوية نفوذها السياسي فيها ، و قدم صاحب هذا الكتاب شواهد تاريخية عديدة، تؤكد أن النفوذ الثقافي كثيرا ما يكون مقدمة للنفوذ السياسي، كما أن السيطرة السياسية كثير ما تسعى لترسيخ أقدامها عن طريق تقوية السيطرة الثقافية، و لهذا رأى الباحثين في المجال أن الاستقلال الثقافي أصبح ضرورة ملحة من اجل التخلص من السيطرة الأجنبية، و السؤال يطرح نفسه بنفسه كيف يتخلص المجتمع الجزائري على سبيل المثال من السيطرة الأجنبية.

الصراع ما زال قائما إلى اليوم بين جماعة المتفرنسين و المعربين، تحاول الجماعة الأولى أن تلبس للثانية ثوب "الرجعية"، و تنعتها بالتزمت، و التعصب و التخلف ، و تحاول دوما إلغائها من الوجود، و ظل المثقف المُعَرّبُ في الصف الأخير، يحلم و يرسم أحلامه على الورق، في الكتب و الصحف و المجلات، و يهربها نحو المواقع الإلكترونية ، و اليوم نجده يعلن ثورته عبر "الفايسبوك"، و وجد في هدا العالم الافتراضي المتنفس الكبير، ليعبر عن نجاحه كما يعبر عن فشله فيه أو يفعل ما لا يقدر على فعله أمام المسؤول، يركد وجوده و يقول للآخر : " أنا هنا" لو باسم مستعار أو صورة رمزية.

المثقف و الظاهرة الإسلامية وجها لوجه

محاربة الدين و الرافضين لتطبيق تعالمه، حتى لا نقول "اللادينيين" و محاربة المتلاعبين به، من تجار السياسة، جعلت المثقف في موقف في مفترق الطرق، و وجد نفسه في موقف حرج جدا، و وقع ما يسمى بالانشقاق الذاتي للمثقف ، لأنه أصبح يعيش في تموجات ضبابية، أمام التعدد الإيديولوجي، و ظهور دعوات جديدة لتكوين الدولة الإسلامية و طغيان الشعور القبلي و الطائفي على الشعور الوطني، هذا الالتباس حسب المحللين قام من الصورة التي رسمها إيديولوجيو التاريخ الإسلامي للتاريخ العربي، حيث اعتبرت الإيديولوجيا الإسلامية ( الجماعات السلفية و الوهابية على الخصوص) أن التاريخ بدأ معها و أن كل ما سبقه جاهلية ، مثلما جاء في كتاب الدكتور سلامة كيلة بعنوان: العرب و مسألة الأمة، و كأنها تدعو إلى أسلوب العيش البطريكي القديم ، و هي النظرة السائدة الآن، و هذه النظرة أدت إلى تجاوز أن هناك تاريخا واحدا و تطورا تاريخيا واحدا يخصان مجموعة من البشر، فالصراعات الطائفية و دعوات الوهابية لتأسيس رؤية سلفية، فسخت العلاقة بين المثقف و مجتمعه.

في كل هذا و ذاك لا يمكن بناء الديمقراطية في مجتمع جاهل متخلف، أو مجتمع تسيره المادة و تسيطر عليه الأنظمة الفاسدة و تتحكم في قراراته و مصيره، مجتمع مثقفيه لا يعرفون من الثقافة سوى كتابة بعض الأشعار و القصص الصغيرة أو حتى الروايات، يتفلسفون في الصغيرة و الكبيرة إلى درجة الفتوى، و هم يفتقرون إلى فكر يحرر مجتمعهم من نير المادة و العبودية، مثقفين هم مجرد ديكور يجلسون وراء مكاتبهم و يتركون كاتبتهم تدير و تسير، تأمر و تنهي و تقرر ، و قد تجدهم لا يفقهون شيئا من أمور التسيير سوى حمل القلم للتوقيع على وثائق يجهلون محتواها، فلا هم أفادوا المجتمع بأفكارهم و تجاربهم و المجتمع، و لا استفادوا هم من تجارب " الآخر" الذين يقتبسون إنجازاته و يمارسونها في حياتهم اليومية، و هم يملكون ما لا يملكه هذا "الآخر"، فمسخ نفسه و أصبح يعيش "الازدواجية" لأنه فقد كل المفاهيم و الأفكار التي تعتبر نتاج الواقع، فبدلا من أن يبدع قلد و أغرق نفسه و من حوله في التقليد.

علجية عيش كاتبة صحفية الجزائر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى