سلڤستر دساسي Silvestre de Sacy - مقدمة "كليلة ودمنة"

بسم الله المبدئ المعيد

بعد حمد الله الحنّان المنّان • ذي الجلال والفضل والإحسان • الذي كان قبل المكان والزمان • ثم أبدع العالم بأن قال له: «كن» فكان • وبعد التوسل إليه سبحانه وتعالى بأصفيائه العظام • وأوليائه الكرام • فهذا ما يقول أضعف عباد الله البارون سِلْوَسْتري دساسي • الفقير إلى رحمه ربه المنعم المواسي •
إن كتاب "كليلة ودمنة" مع ما له من الاشتهار التامّ • والاعتبار العامّ • عند سُكّان الممالك الشرقية • وقُطّان البلاد الغربية • حتى انتقل إلى جميع الأطراف والأقطار • فيما مضى من الدهور والأعصار • فإنه إلى زماننا هذا لم تُطبع قط لا عندنا ولا عند غيرنا الترجمة العربية التي ترجمها عبد الله بن المقفع الكاتب المشهور • في أيام أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور • وكان ابن المقفع قد نقل هذا الكتاب إلى لسان العرب من الترجمة البهلوية • التي أحدثها قبل الإسلام برزويه • رأس أطباء فارس الحكيم الفاضل • لكسرى أنوشيروان الملك العادل المتفاضل •
ومن المعلوم أن كتاب "كليلة" لا يُعرَف له عندنا اليوم نسخة أقدم من ترجمة ابن المقفع المشهورة • إذ اضمحلَّت وتلاشت الترجمة البهلوية المذكورة • وإن قال قائل: إن الأصل هو الكتاب الذي وضعته حكماء الهند لملكٍ من ملوكهم • وإنه موجود إلى اليوم في بلادهم • يقال له عندهم "بانجه تانتره" يعني "الخمسة أبواب" • رَدَدْنا له الجواب • وقلنا إنه وإن لم يزعم إلا الصواب • فلا يمنع ذلك ترجمة ابن المقفع أن تكون هي الأصل الذي نُقِل منه هذا الكتاب الأسنى • إلى كل لغة من اللغات المتداولة بين أهل الشرق والغرب من الأقصى والأدنى •
فإني لمّا نظرت إلى ما يؤول من الفائدة الكاملة • والمنفعة الشاملة • إلى كل مَن يتعلم اللغة العربية • من طائفتنا المسيحية • إذا طُبِع هذا الكتاب الجليل • حتى يسهل لهم تحصيله بثمن قليل • خطر في بالي • أن أبذل جهدي ومالي • في طبعه المرة الأولى • ابتغاء مرضاة الله في الدنيا والأخرى • وشكرًا له على ما أفاض عليّ من نعمائه الوافرة • وآلائه الغامرة •
وقد كان اجتمعت عندي من كتاب "كليلة" نسخ شتى متفقة السياق والانتظام • مختلفة العبارة والألفاظ • وكانت من عددها نسخة قديمة العهد عجيبة الخط • غير أنه كان يوجد فيها مع جودتها بعض الغلطات • وقد ذَهَبَتْ منها أيضًا بتصريف الشهور والأيام أوراق • جُعِلَتْ عوضًا عنها أوراق غيرها جديدة العهد رديئة الخط • ليست على هيئة الباقي •
والنسخة المذكورة هي التي اخترتها حتى تكون هي الأصل المعتمد عليه عند طبع هذا الكتاب • غير أنني كلّما عثرتُ فيها على غلطة • أو ما يشتبه على القارئ فهمُه • قابلتها بما عندي من النسخ غيرها • وأثبتُّ ما رأيت لفظه أفصح • ومعناه أوضح •
وقد ذيّلتُ هذا الكتاب بإضافتي إليه القصيدة المعلقة التي أنشدها لبيد بن ربيعة العامري أشعر العرب في الجاهلية • مع شرحها للأستاذ الزوزني • فإن هذه القصيدة مشهورة جدًّا عند أهل الشرق وهي من أحسن القصائد •
ولما تم طبع هذا الكتاب أُلْهِمْتُ أن أضم إليه أيضًا رسالة مختصرة ألَّفتها في أخبار كتاب "كليلة ودمنة" • وبحثت فيها عن أصله الأول الذي يقال عنه إن بعض البراهمة وضعه لملك قديم من ملوك الهند • وبحثت فيها أيضًا عن الترجمات المتواترة التي ترجمها على ممرّ الزمان بعض العلماء من اللغة الهندية إلى البهلوية • ثم من البهلوية إلى العربية • ثم من العربية إلى العبرانية واليونانية والفارسية والتركية • وغير ذلك من اللغات المتداولة بين أمم الشرق •
وقد ألَّفتُ هذه الرسالة في لغتنا الفرانساوية حتى تكون منفعتها أعمّ عند إخواننا • وعلماء بلادنا • ونقلتُ أيضًا القصيدة المعلّقة المذكورة من اللغة العربية إلى الفرانساوية • حتى يصير قراءةُ الأصل ودَرْسُه أسهلَ على مَن يتعلم اللغة العربية من أبناء جنسنا • ولكي لا يبقى محرومًا عن الالتذاذ بعجائب معانيها • وغرائب فحاويها • مَن ليس عارفًا بلسان العرب •
ثم إني أهديت هذا الكتاب للسعادة العلية والحضرة السنية • الملك المعظم • والسلطان الأعظم • ظلّ الله على العباد • باسط بساط الإحسان على البلاد • مجبِّر المكسورين • ملجأ المظلومين • ناشر ألوية العدل والإنصاف على الأمة المسيحية • الفاضل بالدين والإخلاص بين ملوك الملّة النصرانية • الغرّة البيضاء على جبين الدنيا • والتاج الأزهر على فرق مملكة فرانسا العليا • ذي الأصل الجليل الطاهر • صاحب الحسب الجميل الزاهر • محبّ العلم والعلماء • مكرم الحكمة والحكماء • أعظم العظام • أعصم العصام • الملك ابن الملك • لويس الثامن عشر • أدام الله بقاه • وجعل بكل خير دنياه وعقباه • وأصلح به حال بلادنا • وأنعم بدوام مُلكه علينا وعلى أولادنا• فإن سعادته لمملكة فرانسا بمنزلة النيِّر الأعظم المشرق • ولرعيّته وأهل بلاده كالأب الأرحم المشفق •
ثم أسأله عز وجل أن يجعل تعبي هذا نافعًا لإخواني • وأن يغفر لي تقصيري ونقصاني • وأتضرع إليه بأن يديم عليّ وعلى كل مَن يطالع هذا الكتاب كثرة ألطافه ونِعَمِه • ويكفينا جميعًا شدة عذابه ونِقَمِه • فإنه وليّ الخير والثواب • وعنده أحسن المصير وأفضل المآب • اهـ


* هذه هي المقدمة العربية التي أنشأها شيخ المستشرقين الفرنسيين سلڤستر دساسي Silvestre de Sacy (ت 1253 هـ / 1838 م) لكتاب "كليلة ودمنة" الذي حقق نصَّه العربي وطبعه بباريس سنة 1816، وهي المرة الأولى التي يُطبع فيها الكتاب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى