تمثل رواية "هاء وأسفار عشتار" للأديب الجزائري الكبير عز الدين جلاوجي تجربة أدبية وفلسفية فريدة تسعى لاستكشاف عوالم الأسطورة، خاصة أسطورة عشتار، بشكل يتجاوز السرد التقليدي ليغوص في أعماق الأسئلة الوجودية الكبرى التي تشغل البشرية منذ الأزل.
يتميز الإهداء الذي يقدمه الأديب في بداية الرواية بتوجيهه إلى الأنثى، إذ يوجه كلماته إلى "ملهمته" التي هي رمز للأنوثة، ويصفها بأوصاف توحي بالبهاء والإشراق، مما يضفي على النص طابعًا مقدسًا ويجعل من المرأة محورًا روحيًا يملأ النص حيوية ورونقًا؛ فقوله "إليك، ملهمتي، يا رَوْح قلبي والسناء، يا إشراق روحي والضياء، يا نبع الأنوثة، يا رضاب البهاء" يجعل المرأة، كما تجسدها عشتار، عنصرًا ملهمًا، يخلق جوًا من الجمال والضوء داخل النص، ويجعل الأنوثة ليست فقط ميزة شخصية أو ملمحًا اجتماعيًا، بل هي حالة وجودية وروحية تملأ الحياة بالأمل والجمال.
تبدأ الرواية بنافذة يقدّم فيها جلاوجي رسمًا للشخصية النسائية والتي أسماها "طفلتي المدللة" ومع أولى كلمات النافذة تظهر ملامحها؛ مما يكشف عن العالم الروائي المحيط بها؛ إذ يكتنف هذا العالم مفردات تبرز ملامحه، مثل " الدفء الحنون ، والنور الشفيف، والهدوء والسكينة " وهذا يؤكد على رؤية الكاتب للمرأة على أنها كائن يمنح الحياة الفرح وهذا وضح جليًّا في عبارة "لسنا إلا روحًا خفاقة سكنت جسدين".
تمثل المرأة، في هذه الرواية، الوجود العميق الذي يعكس الأبعاد الروحية والفكرية، وتُظهر هذه الشخصية قوة الأنوثة، ولكنها تُعرض من خلال مناظير غير تقليدية، فتصبح أقرب إلى كائن مهيب غير مرئي، يظل غامضًا ومبهمًا في بعض جوانب وجوده. إنها أنوثة غير قابلة للتحقيق الكامل أو الفهم التام، ولكنها مع ذلك تظل حاضرة بشكل مستمر، مما يعزز ذلك الإحساس بالحلم والبحث عن الكمال.
يحدد العنوان نفسه، الذي ارتبط بالأسطورة الأنثوية "عشتار"، حضور الأنوثة في الرواية ويجعلها القوة الدافعة وراء كثير من الأحداث. تصبح عشتار، التي تمثل إلهة الحب والحرب والجمال في الأسطورة، في هذا النص الروائي رمزًا لا محدود للأنوثة، وتكاد تكون تجسيدًا للبحث الوجودي الذي يخوضه بطل الرواية في سعيه لتحقيق الحرية.
المرأة في "هاء وأسفار عشتار" هي أكثر من مجرد شخصية؛ بل هي فكرة ورمزية، طيف لا يمكن الإمساك به، لكنها مع ذلك حاضرة بقوة في كل تفاصيل النص. ينجح جلاوجي من خلال الربط بين الأسطورة والأنوثة وتوظيف الإهداء العاطفي، في جعل المرأة تمثل القوة الملهمة والمقدسة، ويمنح الرواية بُعدًا فلسفيًا يتجاوز الواقعية؛ ليغرق القارئ في عالم من الجمال والتجريد.
يتجسد البطل في هذه الرواية، الذي لا يحمل اسماً، كرمز للحالة الإنسانية العامة؛ حيث يُحيل غياب الاسم إلى فكرة الشمول والعموم ومجهولية الشخصية وغياب الهوية المستقرة؛ ما يعكس عمق تساؤلاته حول حريته ووجوده. هذا الاختيار، من جهة أدبية، يشير إلى هشاشة الهوية في عالم مليء بالتناقضات والصراعات الداخلية التي قد تجعل الإنسان يفتقد لمعنى وجوده أو هوية شخصيته في كثير من الأحيان.
الأسطورة، خاصة أسطورة عشتار، ليست مجرد رمز ديني أو تاريخي في الرواية، بل هي أداة يتمكن جلاوجي من خلالها من إثارة الأسئلة الكبرى حول مفهوم الحرية والقيود التي تفرضها المدنية والديانات والعادات والتقاليد. عشتار، التي تعد في الأسطورة رمزاً للأنوثة والحب والحرب، تظهر في الرواية كمحور للتأمل في قدرة الإنسان على تجاوز القيود المفروضة عليه من خلال المسارات الروحية والجسدية والعاطفية. فهل يمكن للإنسان أن ينعتق من هذه القيود؟ وهل يمكن له أن يحقق حرية تامة وسط هذا الزخم من التأثيرات والتراكمات الحضارية؟
من الناحية اللغوية، يبرز جلاوجي براعته في استخدام أسلوب سردي متنوع وأسلوب لغوي يتراوح بين الجمالية الرمزية والتعبير الفلسفي العميق. تعتمد الرواية على استحضار الأسطورة لطرح قضايا معاصرة، وتوظيف اللغة كأداة قوية لتوصيل أفكار معقدة تتعلق بالوجود والحرية. يعزز التلاعب بالألفاظ والصور الشعرية من أثر الأسطورة ويجعل القارئ يعيش التجربة الإبداعية بشكل مختلف، حيث لا تقتصر على مستوى المعنى الظاهر بل تتخللها إشارات إلى معانٍ أعمق تتعلق بالحياة الإنسانية.
ذكر الأديب في الرواية لجوء الأم إلى السحرة لكشف سر الخاتم المختفي الذي حفره البطل وأخفاه في الحفرة يعكس دلالات فنية وجمالية وأسلوبيّة عميقة، تنسجم مع معمار السرد وتثري النص على مستويات متعددة. إليك تفسيرًا لهذه الدلالات:
يعكس اللجوء إلى السحرة في الرواية التباين بين عالم البشر الملموس (حفرة الخاتم) وعالم الخوارق، ما يعزز من البُعد العجائبي للنص. هذه الدلالة الفنية تهدف إلى خلق توتر بين الواقع اليومي والحلول الخارقة، مما يعكس الصراع بين التفسير المنطقي والتفسيرات السحرية للأحداث.
السحرة في هذا السياق هم وسيلة لفك لغز غامض، ما يتيح للقارئ استكشاف الفارق بين القوى العقلانية البشرية والتفسير الماورائي. السحرة كرمز للغموض والسلطة يجعلهم يحملون دلالة قوة غير مرئية، تتجاوز حدود الإنسان العادي.
تكمن الجمالية في هذا المشهد في رسم التوتر بين الأمل المستمد من التوسل إلى السحرة (كأمل في الحلول غير المألوفة) وبين اليأس الناتج عن فشل الأم في إيجاد الخاتم بنفسها. هناك عنصر شعري في تصوير الأم وهي تسعى وراء الخلاص السحري، ما يعمّق الحزن والأمل معًا، ويخلق طبقات من الجمال في السرد.
السحرة يمثلون في هذا السياق الأشخاص القادرين على الوصول إلى معرفة غير مرئية أو مغلقة عن الآخرين. هذا يفتح المجال أمام تفسير أن اللجوء إليهم ليس فقط لفك لغز الخاتم المفقود، بل أيضًا للبحث عن أسرار الحياة والمجهول.
من الناحية النفسية، تمثل الأم التي تلجأ إلى السحرة حالة من العجز الداخلي، حيث تعكس عدم القدرة على مواجهة الحقيقة أو الواقع المادي. هذه السمة تشير إلى التوتر النفسي الذي يعيشه الفرد عند مواجهة قوى أكبر من إمكانياته الذاتية، فيميل إلى البحث عن حلول خارقة أو غير تقليدية.
بذلك، يُعد ذكر لجوء الأم إلى السحرة لإعادة الخاتم المختفي عنصرًا فنيًا وجماليًا غنيًا، يساهم في زيادة تعقيد الرواية على المستوى الأدبي والنفسي والرمزي، حيث يعكس البحث عن حلول متجاوزة للواقع الملموس ويثري النص بطبقات من الغموض والتشويق.
بذلك، تظل "هاء وأسفار عشتار" واحدة من الروايات التي تقدم تجربة فكرية عميقة وشاملة حول الإنسان ووجوده في العالم المعاصر، متجاوزة حدود الأدب التقليدي لتفتح نافذة على أسئلة لا تزال تلاحق الإنسان في مختلف العصور.
تمثل رواية "هاء وأسفار عشتار" للأديب الجزائري عز الدين جلاوجي نموذجًا فنيًا وأدبيًا فريدًا؛ حيث يجمع فيها بين الأدب والفن واللغة بأسلوب تجريبي يعكس تفرد رؤيته الإبداعية. وعلى الرغم من أنها تعتمد على الأسطورة كمرتكز أساسي، فإن جلاوجي يضيف إليها طبقات من العمق اللغوي والفني الذي يعكس براعته في استكشاف العوالم العجائبية، وتقديمها بشكل جديد يتجاوز التوقعات.
يقدم جلاوجي عالمًا سرديًا مليئًا بالتحولات والمسخ والأنسنة لمخلوقات مختلفة؛ حيث برز ذلك في أنسنة القط حين شعر بجدّه مصباح يتجسد في جسد القط؛ مما يضفي طابعًا سحريًا وعجائبيًا على الرواية، هذه العوالم ليست مجرد خلفية للأحداث، بل تشكل مكونًا جوهريًا في تطور الرواية ومغزاها. يعكس جلاوجي من خلال هذه التحولات، العالم المتغير للإنسان ويطرح أسئلة وجودية حول الذات والهوية، مما يخلق توترًا بين الواقع والخيال، ويثير تساؤلات عن حدود الإنسان في مواجهة المجهول والمتحول. وتظهر العوالم العجائبية في الرواية ليس كزخارف سردية، بل كوسيلة لطرح أسئلة فلسفية وفكرية حول الطبيعة البشرية.
يتميز جلاوجي بأسلوبه السردي المبتكر الذي يضع الرواية ضمن دائرة النصوص التجريبية. فهو لا يقتصر على معالجة موضوعات شخصية أو اجتماعية محددة، بل يفتح نوافذ متعددة للرواية لتسافر بين عوالم مختلفة: الأسطورة، الفانتازيا، والواقع المعاصر. هذا التنوع في الأسلوب يمنح الرواية طابعًا متجددًا ويجعلها نصًا يتحدى القوالب التقليدية.
تستند الرواية بشكل كبير إلى الأساطير، وخاصة أسطورة عشتار، التي تتيح للأديب استكشاف جوانب مختلفة من الوجود البشري، من خلال صورة عشتار كإلهة للحب والحرب والجمال، إلا أن جلاوجي لا يقدم الأسطورة كما هي، بل يعيد تشكيلها ويعيد توظيفها في سياق معاصر، مما يعكس فكرته حول الفهم الجديد للأساطير وتوظيفها في الأدب الحديث.
تتجلى رغبة الكاتب في العودة إلى الطبيعة في عدة جوانب فلسفية وثقافية. تمثل الطبيعة مصدرًا للنقاء والبساطة، وهي فضاء يتيح للإنسان الابتعاد عن التلوث المادي والفكري الذي يفرضه التقدم التكنولوجي والحضاري. من خلال العودة إلى الطبيعة، يسعى الأديب إلى استعادة الاتصال الجوهري بين الإنسان وبيئته الأصلية، حيث يمكنه العثور على السكينة والتوازن الداخلي بعيدًا عن ضغوط الحياة المعاصرة.
تعكس العودة إلى الطبيعة رغبة الكاتب في استعادة القيم الإنسانية الأصيلة مثل الصدق والبراءة. في عالم يعج بالتعقيدات الاجتماعية والسياسية، قد تكون الطبيعة مكانًا يعيد فيه الإنسان اكتشاف ذاته بعيدًا عن التزيف والنفاق الذي قد يغلف المجتمعات الحديثة.
في كثير من الأعمال الأدبية، تصبح الطبيعة رمزًا للحرية والتجديد الروحي، ودعوة الأديب للعودة إليها تشير إلى رغبة في استعادة القوة الداخلية والتأمل في عالم أرحب يفتح آفاقًا للتنمية الذاتية والروحانية.
بذلك، فإن دعوة الأديب للعودة إلى الطبيعة لا تمثل مجرد استعارة جمالية، بل هي دعوة للتجدد الداخلي، والعودة إلى الجذور الإنسانية النقية، والنظر إلى العالم من منظور أكثر شفافية وتواضعًا.
تصوير الأم في الرواية على أنها مستبدة ومتغطرسة، وكذلك تصوير الزوج أو الأب في صورة المستسلم الخاضع التابع، يحمل دلالات فنية وأدبية وجمالية ولغوية متعددة، تعكس العلاقات الأسرية والتفاعلات النفسية بين الشخصيات.
يعكس تقديم شخصية الأم في صورة مستبدة ومتغطرسة قمة التحكم والسيطرة التي تمارسها في الأسرة، وهي شخصية تستولي على المجال العاطفي والنفسي للمحيطين بها. هذا يخلق نوعًا من التوتر في الرواية، حيث يتصادم موقفها المستبد مع موقف الزوج أو الأب المستسلم الخاضع، مما يعكس التناقض بين القوة والضعف. هذا التفاوت في الأدوار يساهم في تشكيل صراع داخلي في النص يمكن للقارئ أن يتفاعل معه.
تصوير الأم بهذا الشكل يمكن أن يرمز إلى الهيمنة النسائية في بعض الأوقات، ويعكس تأثيراتها في الحياة اليومية، وهذا يخلق نوعًا من الإضاءة على القوى الاجتماعية التي قد تقيد الأفراد. بينما الأب أو الزوج المستسلم يعكس الصورة التقليدية للرجل الخاضع في بعض المجتمعات، مما يفتح المجال لتساؤلات حول الديناميكيات الاجتماعية والأسرية في السياق الثقافي للرواية.
يظهر في تصوير الأم المتغطرسة والزوج المستسلم سمةً هامة تتعلق بتوزيع الأدوار داخل الأسرة. ففي الأدب، غالبًا ما يتم إبراز هذه الشخصيات المتناقضة لتسليط الضوء على أزمات الهوية والمساواة بين الجنسين. الأم التي تتحكم وتمارس الاستبداد هي شخصية تعكس تصورات مجتمعية عن النساء المهيمنات، في حين أن الأب المستسلم يمثل النموذج التقليدي للرجل الذي يتنازل عن سلطته أمام شخصية قوية.
قد تمثل الأم المستبدة القوة الأمومية التي تحاول فرض السيطرة على كل شيء، بينما الزوج المستسلم يعكس الخضوع النفسي الناجم عن القبول بالواقع. هذا التصوير يخلق تفاعلًا أدبيًا مع القارئ، حيث يتساءل عن سبب هذه التفاعلات وكيف يتم تجسيد السلطة في العلاقات الأسرية. هل هو صراع بين الأدوار التقليدية للرجال والنساء؟ أم هو تصوير لظروف اجتماعية معينة؟
يمثل هذا التصوير تباينًا حادًا بين شخصيتين متناقضتين. تمنح الأم المتغطرسة النص طابعًا حادًا أو متوترًا، بينما الأب أو الزوج المستسلم يجلب إحساسًا بالضعف أو الانكسار. يخلق هذا التباين جمالية فنية مميزة من خلال التصوير الواضح للخصائص الشخصية للأفراد وكيفية تأثير ذلك على العلاقات الأسرية. فالإحساس بالاستبداد في شخصية الأم يخلق جوًا مشحونًا من السلطة، بينما الخضوع في شخصية الأب يضفي على النص بعدًا جماليًا من الصراع الداخلي.
من خلال هذا التوزيع المتناقض للسلطة، يجسد النص مشهدًا جماليًا ينطوي على رمزية اجتماعية، حيث يمكن أن تبرز الصورة الجمالية للأم المسيطرة في الضوء الساطع بينما يظهر الزوج في الظل. هذه التباينات تعكس ملامح عاطفية وجمالية تختلط فيها القوة بالضعف، والتحكم بالخضوع.
لغويًا، قد يعكس وصف الأم على أنها مستبدة ومتغطرسة من خلال استخدام صفات قوية وحادة، مثل "القوة" و"التسلط" و"السيطرة"، في حين قد تُستخدم لغة ناعمة وخاضعة عند الحديث عن الزوج أو الأب، مثل "الاستسلام" و"الضعف" و"التبعية". هذا التباين اللغوي يسهم في تعزيز الفجوة بين الشخصيتين ويفتح المجال لتفسير الأدوات اللغوية في السياق الاجتماعي والنفسي.
من الناحية النفسية، يُظهر تصوير الأم في صورة المستبدة والمتغطرسة حالة من الاضطراب النفسي في الشخصية، حيث تسعى الأم إلى فرض السيطرة على المحيطين بها لأسباب قد تكون مرتبطة بالاحتياج النفسي أو القلق الداخلي. بينما الأب أو الزوج المستسلم قد يعكس الضعف النفسي أو حالة من الخوف من المواجهة أو التقاعس عن التصدي لتلك السيطرة.
تشير هذه الصور إلى الاضطراب النفسي الناجم عن تمثيل الأنماط الاجتماعية التقليدية التي قد تؤدي إلى مشاعر الخضوع لدى الرجال والشعور بالعجز، في حين قد تتسم النساء بالتحكم، يظهر تصوير الأم المستبدة والزوج المستسلم أيضًا تعليقًا اجتماعيًا على مكانة المرأة والرجل في بعض المجتمعات. تصوير الأم على أنها المستبدة قد يشير إلى قوى اجتماعية تؤثر على دور المرأة في العائلة أو حتى المجتمع، بينما تصوير الزوج المستسلم يعكس الصورة التقليدية للرجال الذين يُتوقع منهم القبول بدور ضعيف في هذا السياق. يمكن أن يتخذ هذا التصوير شكلًا نقديًا يسلط الضوء على الحاجة إلى إعادة النظر في التوزيع التقليدي للأدوار الأسرية.
وهكذا، فإن تصوير الأم في الرواية على أنها مستبدة ومتغطرسة، وتصوير الأب أو الزوج في صورة المستسلم الخاضع، يعكس تعقيد العلاقات الأسرية والنفسية، ويتيح للأديب بناء مساحة سردية تنطوي على صراع داخلي وخارجي بين الشخصيات. تعزز هذه الصورة من التوتر الأدبي والجمالي، وتثير تساؤلات حول الأدوار الاجتماعية والطبقية، مما يفتح مجالًا لفهم أعمق للهوية والسلطة في العلاقات الإنسانية.
يتسم أسلوب جلاوجي بالثراء اللغوي وعمق التعبير، حيث يبتكر تراكيب لغوية قادرة على نقل القارئ إلى عوالمه العجائبية بأسلوب سلس ومؤثر. اللغة في الرواية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أداة للتعبير عن رؤى فلسفية وجودية معقدة. يقدم جلاوجي، من خلال التنقل بين مستويات لغوية مختلفة، مزيجًا من الأسلوب الشاعري والتوصيف الدقيق الذي يتناغم مع الأجواء السحرية التي تميز الرواية.
إلى جانب ذلك، يسهم غياب الاسم عن شخصية البطل في تحفيز القارئ على التفكير في دلالات الهوية والوجود، وهذا النقص اللغوي المقصود يعكس حالة من العدمية أو البحث الدائم عن الذات في عالم يتسم بالتحولات المستمرة.
ولهذا، يمكن تصنيف "هاء وأسفار عشتار" على أنه عمل أدبي استثنائي يتجاوز مجرد الرواية إلى كونه نصًا تجريبيًا يخلخل المألوف في الأدب العربي.
يدمج عز الدين جلاوجي بين الفانتازيا والأسطورة والواقع بأسلوب سردي فني وبلاغي غني، مما يجعلها تتناغم مع محركات الفكرة والأسطورة الإنسانية، وتستدعي إلى الأذهان الأسئلة الكبرى حول الوجود والحرية والتغير.
تبرز المرأة في رواية "هاء وأسفار عشتار"، كعنصر محوري ليس فقط على مستوى الشخصيات الظاهرة، بل أيضًا في مستويات أعمق تتعلق بالمفاهيم الرمزية والفلسفية. يظهر ذلك بوضوح من خلال شخصية "طفلتي المدللة"، التي تمثل رمزًا للأنوثة الحالمة والمجردة، والتي تتجاوز حدود الواقع لتأخذ طابعًا صوفيًا وكذلك أسطوريًا. تتجسد هذه الشخصية كطيف أو حلم، ما يجعلها بعيدة عن التحقق الملموس أو التفسير المادي، حيث تظل دائمًا في حالة من الترقب والتوق، كما لو كانت شيئًا نتعقبه ولا يمكننا الإمساك به بالكامل.
استمتعت كثيرا بمطالعة رواية “هاء وأسفار عشتار” للأديب الجزائري عز الدين جلاوجي؛ لأن هذا العمل الأدبي والفلسفي يتجاوز السرد التقليدي، ويغمر القارئ في عمق الأسئلة الوجودية الكبرى.
ارتكزت الرواية على أسطورة عشتار، حيث استكشف جلاوجي الأنوثة من خلال شخصية “طفلتي المدللة”، التي تمثل رمزًا للأنوثة الحالمة والمجردة، وتتجسد كطيف لا يمكن الإمساك به. الإهداء في بداية الرواية يركز على المرأة كرمز للإلهام والأنوثة التي تملأ النص بالإشراق والجمال.
برزت براعة الكاتب في رسم شخصيّة البطل في الرواية، وجعله لا يحمل اسمًا؛ مما يعكس غياب الهوية ويثير التساؤلات حول الذات والوجود في عالم مليء بالتناقضات.
تُستخدم الأسطورة، خاصة أسطورة عشتار؛ لاستكشاف الحرية وتجاوز القيود الثقافية والاجتماعية. يطرح جلاوجي من خلال الرواية أسئلة فلسفية عن الإنسان ووجوده، ويعكس التحولات والعوالم العجائبية التي تؤثر في تطور الشخصيات وتدفع القارئ للتفكير في حدود الإنسان في مواجهة المجهول.
تتمتع الرواية بأسلوب سردي مبتكر يجمع بين الأسطورة والفانتازيا والواقع، ويخلق عوالم لغوية وفكرية غنية تعزز التوتر بين الخيال والواقع، كما تقدم الرواية أيضًا فهمًا جديدًا للأسطورة؛ حيث يتم توظيفها بشكل معاصر لتعكس قضايا الوجود والحرية؛ مما يجعل العمل أدبيًا استثنائيًا يتجاوز الأدب التقليدي ويثير الأسئلة الكبرى حول الحياة والإنسان.
يتميز الإهداء الذي يقدمه الأديب في بداية الرواية بتوجيهه إلى الأنثى، إذ يوجه كلماته إلى "ملهمته" التي هي رمز للأنوثة، ويصفها بأوصاف توحي بالبهاء والإشراق، مما يضفي على النص طابعًا مقدسًا ويجعل من المرأة محورًا روحيًا يملأ النص حيوية ورونقًا؛ فقوله "إليك، ملهمتي، يا رَوْح قلبي والسناء، يا إشراق روحي والضياء، يا نبع الأنوثة، يا رضاب البهاء" يجعل المرأة، كما تجسدها عشتار، عنصرًا ملهمًا، يخلق جوًا من الجمال والضوء داخل النص، ويجعل الأنوثة ليست فقط ميزة شخصية أو ملمحًا اجتماعيًا، بل هي حالة وجودية وروحية تملأ الحياة بالأمل والجمال.

تبدأ الرواية بنافذة يقدّم فيها جلاوجي رسمًا للشخصية النسائية والتي أسماها "طفلتي المدللة" ومع أولى كلمات النافذة تظهر ملامحها؛ مما يكشف عن العالم الروائي المحيط بها؛ إذ يكتنف هذا العالم مفردات تبرز ملامحه، مثل " الدفء الحنون ، والنور الشفيف، والهدوء والسكينة " وهذا يؤكد على رؤية الكاتب للمرأة على أنها كائن يمنح الحياة الفرح وهذا وضح جليًّا في عبارة "لسنا إلا روحًا خفاقة سكنت جسدين".
تمثل المرأة، في هذه الرواية، الوجود العميق الذي يعكس الأبعاد الروحية والفكرية، وتُظهر هذه الشخصية قوة الأنوثة، ولكنها تُعرض من خلال مناظير غير تقليدية، فتصبح أقرب إلى كائن مهيب غير مرئي، يظل غامضًا ومبهمًا في بعض جوانب وجوده. إنها أنوثة غير قابلة للتحقيق الكامل أو الفهم التام، ولكنها مع ذلك تظل حاضرة بشكل مستمر، مما يعزز ذلك الإحساس بالحلم والبحث عن الكمال.
يحدد العنوان نفسه، الذي ارتبط بالأسطورة الأنثوية "عشتار"، حضور الأنوثة في الرواية ويجعلها القوة الدافعة وراء كثير من الأحداث. تصبح عشتار، التي تمثل إلهة الحب والحرب والجمال في الأسطورة، في هذا النص الروائي رمزًا لا محدود للأنوثة، وتكاد تكون تجسيدًا للبحث الوجودي الذي يخوضه بطل الرواية في سعيه لتحقيق الحرية.
المرأة في "هاء وأسفار عشتار" هي أكثر من مجرد شخصية؛ بل هي فكرة ورمزية، طيف لا يمكن الإمساك به، لكنها مع ذلك حاضرة بقوة في كل تفاصيل النص. ينجح جلاوجي من خلال الربط بين الأسطورة والأنوثة وتوظيف الإهداء العاطفي، في جعل المرأة تمثل القوة الملهمة والمقدسة، ويمنح الرواية بُعدًا فلسفيًا يتجاوز الواقعية؛ ليغرق القارئ في عالم من الجمال والتجريد.
يتجسد البطل في هذه الرواية، الذي لا يحمل اسماً، كرمز للحالة الإنسانية العامة؛ حيث يُحيل غياب الاسم إلى فكرة الشمول والعموم ومجهولية الشخصية وغياب الهوية المستقرة؛ ما يعكس عمق تساؤلاته حول حريته ووجوده. هذا الاختيار، من جهة أدبية، يشير إلى هشاشة الهوية في عالم مليء بالتناقضات والصراعات الداخلية التي قد تجعل الإنسان يفتقد لمعنى وجوده أو هوية شخصيته في كثير من الأحيان.
الأسطورة، خاصة أسطورة عشتار، ليست مجرد رمز ديني أو تاريخي في الرواية، بل هي أداة يتمكن جلاوجي من خلالها من إثارة الأسئلة الكبرى حول مفهوم الحرية والقيود التي تفرضها المدنية والديانات والعادات والتقاليد. عشتار، التي تعد في الأسطورة رمزاً للأنوثة والحب والحرب، تظهر في الرواية كمحور للتأمل في قدرة الإنسان على تجاوز القيود المفروضة عليه من خلال المسارات الروحية والجسدية والعاطفية. فهل يمكن للإنسان أن ينعتق من هذه القيود؟ وهل يمكن له أن يحقق حرية تامة وسط هذا الزخم من التأثيرات والتراكمات الحضارية؟
من الناحية اللغوية، يبرز جلاوجي براعته في استخدام أسلوب سردي متنوع وأسلوب لغوي يتراوح بين الجمالية الرمزية والتعبير الفلسفي العميق. تعتمد الرواية على استحضار الأسطورة لطرح قضايا معاصرة، وتوظيف اللغة كأداة قوية لتوصيل أفكار معقدة تتعلق بالوجود والحرية. يعزز التلاعب بالألفاظ والصور الشعرية من أثر الأسطورة ويجعل القارئ يعيش التجربة الإبداعية بشكل مختلف، حيث لا تقتصر على مستوى المعنى الظاهر بل تتخللها إشارات إلى معانٍ أعمق تتعلق بالحياة الإنسانية.
ذكر الأديب في الرواية لجوء الأم إلى السحرة لكشف سر الخاتم المختفي الذي حفره البطل وأخفاه في الحفرة يعكس دلالات فنية وجمالية وأسلوبيّة عميقة، تنسجم مع معمار السرد وتثري النص على مستويات متعددة. إليك تفسيرًا لهذه الدلالات:
يعكس اللجوء إلى السحرة في الرواية التباين بين عالم البشر الملموس (حفرة الخاتم) وعالم الخوارق، ما يعزز من البُعد العجائبي للنص. هذه الدلالة الفنية تهدف إلى خلق توتر بين الواقع اليومي والحلول الخارقة، مما يعكس الصراع بين التفسير المنطقي والتفسيرات السحرية للأحداث.
السحرة في هذا السياق هم وسيلة لفك لغز غامض، ما يتيح للقارئ استكشاف الفارق بين القوى العقلانية البشرية والتفسير الماورائي. السحرة كرمز للغموض والسلطة يجعلهم يحملون دلالة قوة غير مرئية، تتجاوز حدود الإنسان العادي.
تكمن الجمالية في هذا المشهد في رسم التوتر بين الأمل المستمد من التوسل إلى السحرة (كأمل في الحلول غير المألوفة) وبين اليأس الناتج عن فشل الأم في إيجاد الخاتم بنفسها. هناك عنصر شعري في تصوير الأم وهي تسعى وراء الخلاص السحري، ما يعمّق الحزن والأمل معًا، ويخلق طبقات من الجمال في السرد.
السحرة يمثلون في هذا السياق الأشخاص القادرين على الوصول إلى معرفة غير مرئية أو مغلقة عن الآخرين. هذا يفتح المجال أمام تفسير أن اللجوء إليهم ليس فقط لفك لغز الخاتم المفقود، بل أيضًا للبحث عن أسرار الحياة والمجهول.
من الناحية النفسية، تمثل الأم التي تلجأ إلى السحرة حالة من العجز الداخلي، حيث تعكس عدم القدرة على مواجهة الحقيقة أو الواقع المادي. هذه السمة تشير إلى التوتر النفسي الذي يعيشه الفرد عند مواجهة قوى أكبر من إمكانياته الذاتية، فيميل إلى البحث عن حلول خارقة أو غير تقليدية.
بذلك، يُعد ذكر لجوء الأم إلى السحرة لإعادة الخاتم المختفي عنصرًا فنيًا وجماليًا غنيًا، يساهم في زيادة تعقيد الرواية على المستوى الأدبي والنفسي والرمزي، حيث يعكس البحث عن حلول متجاوزة للواقع الملموس ويثري النص بطبقات من الغموض والتشويق.
بذلك، تظل "هاء وأسفار عشتار" واحدة من الروايات التي تقدم تجربة فكرية عميقة وشاملة حول الإنسان ووجوده في العالم المعاصر، متجاوزة حدود الأدب التقليدي لتفتح نافذة على أسئلة لا تزال تلاحق الإنسان في مختلف العصور.
تمثل رواية "هاء وأسفار عشتار" للأديب الجزائري عز الدين جلاوجي نموذجًا فنيًا وأدبيًا فريدًا؛ حيث يجمع فيها بين الأدب والفن واللغة بأسلوب تجريبي يعكس تفرد رؤيته الإبداعية. وعلى الرغم من أنها تعتمد على الأسطورة كمرتكز أساسي، فإن جلاوجي يضيف إليها طبقات من العمق اللغوي والفني الذي يعكس براعته في استكشاف العوالم العجائبية، وتقديمها بشكل جديد يتجاوز التوقعات.
يقدم جلاوجي عالمًا سرديًا مليئًا بالتحولات والمسخ والأنسنة لمخلوقات مختلفة؛ حيث برز ذلك في أنسنة القط حين شعر بجدّه مصباح يتجسد في جسد القط؛ مما يضفي طابعًا سحريًا وعجائبيًا على الرواية، هذه العوالم ليست مجرد خلفية للأحداث، بل تشكل مكونًا جوهريًا في تطور الرواية ومغزاها. يعكس جلاوجي من خلال هذه التحولات، العالم المتغير للإنسان ويطرح أسئلة وجودية حول الذات والهوية، مما يخلق توترًا بين الواقع والخيال، ويثير تساؤلات عن حدود الإنسان في مواجهة المجهول والمتحول. وتظهر العوالم العجائبية في الرواية ليس كزخارف سردية، بل كوسيلة لطرح أسئلة فلسفية وفكرية حول الطبيعة البشرية.
يتميز جلاوجي بأسلوبه السردي المبتكر الذي يضع الرواية ضمن دائرة النصوص التجريبية. فهو لا يقتصر على معالجة موضوعات شخصية أو اجتماعية محددة، بل يفتح نوافذ متعددة للرواية لتسافر بين عوالم مختلفة: الأسطورة، الفانتازيا، والواقع المعاصر. هذا التنوع في الأسلوب يمنح الرواية طابعًا متجددًا ويجعلها نصًا يتحدى القوالب التقليدية.
تستند الرواية بشكل كبير إلى الأساطير، وخاصة أسطورة عشتار، التي تتيح للأديب استكشاف جوانب مختلفة من الوجود البشري، من خلال صورة عشتار كإلهة للحب والحرب والجمال، إلا أن جلاوجي لا يقدم الأسطورة كما هي، بل يعيد تشكيلها ويعيد توظيفها في سياق معاصر، مما يعكس فكرته حول الفهم الجديد للأساطير وتوظيفها في الأدب الحديث.
تتجلى رغبة الكاتب في العودة إلى الطبيعة في عدة جوانب فلسفية وثقافية. تمثل الطبيعة مصدرًا للنقاء والبساطة، وهي فضاء يتيح للإنسان الابتعاد عن التلوث المادي والفكري الذي يفرضه التقدم التكنولوجي والحضاري. من خلال العودة إلى الطبيعة، يسعى الأديب إلى استعادة الاتصال الجوهري بين الإنسان وبيئته الأصلية، حيث يمكنه العثور على السكينة والتوازن الداخلي بعيدًا عن ضغوط الحياة المعاصرة.
تعكس العودة إلى الطبيعة رغبة الكاتب في استعادة القيم الإنسانية الأصيلة مثل الصدق والبراءة. في عالم يعج بالتعقيدات الاجتماعية والسياسية، قد تكون الطبيعة مكانًا يعيد فيه الإنسان اكتشاف ذاته بعيدًا عن التزيف والنفاق الذي قد يغلف المجتمعات الحديثة.
في كثير من الأعمال الأدبية، تصبح الطبيعة رمزًا للحرية والتجديد الروحي، ودعوة الأديب للعودة إليها تشير إلى رغبة في استعادة القوة الداخلية والتأمل في عالم أرحب يفتح آفاقًا للتنمية الذاتية والروحانية.
بذلك، فإن دعوة الأديب للعودة إلى الطبيعة لا تمثل مجرد استعارة جمالية، بل هي دعوة للتجدد الداخلي، والعودة إلى الجذور الإنسانية النقية، والنظر إلى العالم من منظور أكثر شفافية وتواضعًا.
تصوير الأم في الرواية على أنها مستبدة ومتغطرسة، وكذلك تصوير الزوج أو الأب في صورة المستسلم الخاضع التابع، يحمل دلالات فنية وأدبية وجمالية ولغوية متعددة، تعكس العلاقات الأسرية والتفاعلات النفسية بين الشخصيات.
يعكس تقديم شخصية الأم في صورة مستبدة ومتغطرسة قمة التحكم والسيطرة التي تمارسها في الأسرة، وهي شخصية تستولي على المجال العاطفي والنفسي للمحيطين بها. هذا يخلق نوعًا من التوتر في الرواية، حيث يتصادم موقفها المستبد مع موقف الزوج أو الأب المستسلم الخاضع، مما يعكس التناقض بين القوة والضعف. هذا التفاوت في الأدوار يساهم في تشكيل صراع داخلي في النص يمكن للقارئ أن يتفاعل معه.
تصوير الأم بهذا الشكل يمكن أن يرمز إلى الهيمنة النسائية في بعض الأوقات، ويعكس تأثيراتها في الحياة اليومية، وهذا يخلق نوعًا من الإضاءة على القوى الاجتماعية التي قد تقيد الأفراد. بينما الأب أو الزوج المستسلم يعكس الصورة التقليدية للرجل الخاضع في بعض المجتمعات، مما يفتح المجال لتساؤلات حول الديناميكيات الاجتماعية والأسرية في السياق الثقافي للرواية.
يظهر في تصوير الأم المتغطرسة والزوج المستسلم سمةً هامة تتعلق بتوزيع الأدوار داخل الأسرة. ففي الأدب، غالبًا ما يتم إبراز هذه الشخصيات المتناقضة لتسليط الضوء على أزمات الهوية والمساواة بين الجنسين. الأم التي تتحكم وتمارس الاستبداد هي شخصية تعكس تصورات مجتمعية عن النساء المهيمنات، في حين أن الأب المستسلم يمثل النموذج التقليدي للرجل الذي يتنازل عن سلطته أمام شخصية قوية.
قد تمثل الأم المستبدة القوة الأمومية التي تحاول فرض السيطرة على كل شيء، بينما الزوج المستسلم يعكس الخضوع النفسي الناجم عن القبول بالواقع. هذا التصوير يخلق تفاعلًا أدبيًا مع القارئ، حيث يتساءل عن سبب هذه التفاعلات وكيف يتم تجسيد السلطة في العلاقات الأسرية. هل هو صراع بين الأدوار التقليدية للرجال والنساء؟ أم هو تصوير لظروف اجتماعية معينة؟
يمثل هذا التصوير تباينًا حادًا بين شخصيتين متناقضتين. تمنح الأم المتغطرسة النص طابعًا حادًا أو متوترًا، بينما الأب أو الزوج المستسلم يجلب إحساسًا بالضعف أو الانكسار. يخلق هذا التباين جمالية فنية مميزة من خلال التصوير الواضح للخصائص الشخصية للأفراد وكيفية تأثير ذلك على العلاقات الأسرية. فالإحساس بالاستبداد في شخصية الأم يخلق جوًا مشحونًا من السلطة، بينما الخضوع في شخصية الأب يضفي على النص بعدًا جماليًا من الصراع الداخلي.
من خلال هذا التوزيع المتناقض للسلطة، يجسد النص مشهدًا جماليًا ينطوي على رمزية اجتماعية، حيث يمكن أن تبرز الصورة الجمالية للأم المسيطرة في الضوء الساطع بينما يظهر الزوج في الظل. هذه التباينات تعكس ملامح عاطفية وجمالية تختلط فيها القوة بالضعف، والتحكم بالخضوع.
لغويًا، قد يعكس وصف الأم على أنها مستبدة ومتغطرسة من خلال استخدام صفات قوية وحادة، مثل "القوة" و"التسلط" و"السيطرة"، في حين قد تُستخدم لغة ناعمة وخاضعة عند الحديث عن الزوج أو الأب، مثل "الاستسلام" و"الضعف" و"التبعية". هذا التباين اللغوي يسهم في تعزيز الفجوة بين الشخصيتين ويفتح المجال لتفسير الأدوات اللغوية في السياق الاجتماعي والنفسي.
من الناحية النفسية، يُظهر تصوير الأم في صورة المستبدة والمتغطرسة حالة من الاضطراب النفسي في الشخصية، حيث تسعى الأم إلى فرض السيطرة على المحيطين بها لأسباب قد تكون مرتبطة بالاحتياج النفسي أو القلق الداخلي. بينما الأب أو الزوج المستسلم قد يعكس الضعف النفسي أو حالة من الخوف من المواجهة أو التقاعس عن التصدي لتلك السيطرة.
تشير هذه الصور إلى الاضطراب النفسي الناجم عن تمثيل الأنماط الاجتماعية التقليدية التي قد تؤدي إلى مشاعر الخضوع لدى الرجال والشعور بالعجز، في حين قد تتسم النساء بالتحكم، يظهر تصوير الأم المستبدة والزوج المستسلم أيضًا تعليقًا اجتماعيًا على مكانة المرأة والرجل في بعض المجتمعات. تصوير الأم على أنها المستبدة قد يشير إلى قوى اجتماعية تؤثر على دور المرأة في العائلة أو حتى المجتمع، بينما تصوير الزوج المستسلم يعكس الصورة التقليدية للرجال الذين يُتوقع منهم القبول بدور ضعيف في هذا السياق. يمكن أن يتخذ هذا التصوير شكلًا نقديًا يسلط الضوء على الحاجة إلى إعادة النظر في التوزيع التقليدي للأدوار الأسرية.
وهكذا، فإن تصوير الأم في الرواية على أنها مستبدة ومتغطرسة، وتصوير الأب أو الزوج في صورة المستسلم الخاضع، يعكس تعقيد العلاقات الأسرية والنفسية، ويتيح للأديب بناء مساحة سردية تنطوي على صراع داخلي وخارجي بين الشخصيات. تعزز هذه الصورة من التوتر الأدبي والجمالي، وتثير تساؤلات حول الأدوار الاجتماعية والطبقية، مما يفتح مجالًا لفهم أعمق للهوية والسلطة في العلاقات الإنسانية.
يتسم أسلوب جلاوجي بالثراء اللغوي وعمق التعبير، حيث يبتكر تراكيب لغوية قادرة على نقل القارئ إلى عوالمه العجائبية بأسلوب سلس ومؤثر. اللغة في الرواية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أداة للتعبير عن رؤى فلسفية وجودية معقدة. يقدم جلاوجي، من خلال التنقل بين مستويات لغوية مختلفة، مزيجًا من الأسلوب الشاعري والتوصيف الدقيق الذي يتناغم مع الأجواء السحرية التي تميز الرواية.
إلى جانب ذلك، يسهم غياب الاسم عن شخصية البطل في تحفيز القارئ على التفكير في دلالات الهوية والوجود، وهذا النقص اللغوي المقصود يعكس حالة من العدمية أو البحث الدائم عن الذات في عالم يتسم بالتحولات المستمرة.
ولهذا، يمكن تصنيف "هاء وأسفار عشتار" على أنه عمل أدبي استثنائي يتجاوز مجرد الرواية إلى كونه نصًا تجريبيًا يخلخل المألوف في الأدب العربي.
يدمج عز الدين جلاوجي بين الفانتازيا والأسطورة والواقع بأسلوب سردي فني وبلاغي غني، مما يجعلها تتناغم مع محركات الفكرة والأسطورة الإنسانية، وتستدعي إلى الأذهان الأسئلة الكبرى حول الوجود والحرية والتغير.
تبرز المرأة في رواية "هاء وأسفار عشتار"، كعنصر محوري ليس فقط على مستوى الشخصيات الظاهرة، بل أيضًا في مستويات أعمق تتعلق بالمفاهيم الرمزية والفلسفية. يظهر ذلك بوضوح من خلال شخصية "طفلتي المدللة"، التي تمثل رمزًا للأنوثة الحالمة والمجردة، والتي تتجاوز حدود الواقع لتأخذ طابعًا صوفيًا وكذلك أسطوريًا. تتجسد هذه الشخصية كطيف أو حلم، ما يجعلها بعيدة عن التحقق الملموس أو التفسير المادي، حيث تظل دائمًا في حالة من الترقب والتوق، كما لو كانت شيئًا نتعقبه ولا يمكننا الإمساك به بالكامل.
استمتعت كثيرا بمطالعة رواية “هاء وأسفار عشتار” للأديب الجزائري عز الدين جلاوجي؛ لأن هذا العمل الأدبي والفلسفي يتجاوز السرد التقليدي، ويغمر القارئ في عمق الأسئلة الوجودية الكبرى.
ارتكزت الرواية على أسطورة عشتار، حيث استكشف جلاوجي الأنوثة من خلال شخصية “طفلتي المدللة”، التي تمثل رمزًا للأنوثة الحالمة والمجردة، وتتجسد كطيف لا يمكن الإمساك به. الإهداء في بداية الرواية يركز على المرأة كرمز للإلهام والأنوثة التي تملأ النص بالإشراق والجمال.
برزت براعة الكاتب في رسم شخصيّة البطل في الرواية، وجعله لا يحمل اسمًا؛ مما يعكس غياب الهوية ويثير التساؤلات حول الذات والوجود في عالم مليء بالتناقضات.
تُستخدم الأسطورة، خاصة أسطورة عشتار؛ لاستكشاف الحرية وتجاوز القيود الثقافية والاجتماعية. يطرح جلاوجي من خلال الرواية أسئلة فلسفية عن الإنسان ووجوده، ويعكس التحولات والعوالم العجائبية التي تؤثر في تطور الشخصيات وتدفع القارئ للتفكير في حدود الإنسان في مواجهة المجهول.
تتمتع الرواية بأسلوب سردي مبتكر يجمع بين الأسطورة والفانتازيا والواقع، ويخلق عوالم لغوية وفكرية غنية تعزز التوتر بين الخيال والواقع، كما تقدم الرواية أيضًا فهمًا جديدًا للأسطورة؛ حيث يتم توظيفها بشكل معاصر لتعكس قضايا الوجود والحرية؛ مما يجعل العمل أدبيًا استثنائيًا يتجاوز الأدب التقليدي ويثير الأسئلة الكبرى حول الحياة والإنسان.