عبدالقادر وساط - في ضيافة شعراء المفضليات (2) حديث مع ذي الإصبع العدواني

رأيتُني، فيما يرى النائم، وقد دخلتُ خيمةَ الشاعر ذي الإصبع العَدْواني، خلف ذلك الدليل الذي لا أعرف اسمَه، بينما يتبعني الشاعر سُحَيم، القادم من الأصمعيات...
لم يكن ذو الإصبع العَدْواني وحده في تلك الخيمة الفسيحة، المضاءة بما يُشبه الشموع. كان محاطا بشعراء آخرين، من شعراء المفضليات، عرفتُ من بينهم المُرَقِّش الأكبر وابنَ أخيه المُرَقِّش الأصغر ومُتَمِّم بن نُوَيْرَة و المُثَقِّب العَبْدي والجُمَيْح...
وما إن رآنا ذو الإصبع حتى هبَّ واقفا ومرحبا. ثم إنه دعانا إلى الجلوس وهو يردد بيتا من نونيته المشهورة:
إني لَعَمْرُكَ ما بابي بذي غَلَق = عن الصديق ولا خيري بمَمْنُون
وقد اغتنمتُ فرصة جلوسي مباشرة عن يمينه، فبادرته سائلا:
- يا ذا الإصبع، أنتَ من شعراء المفضليات والأصمعيات... والمفضل الضبي يقول إن اسمك حُرْثان بن الحارث، أما الأصمعي فيزعم أنك حُرْثان بن السموأل .
ولكنك اشتهرتَ بذي الإصبع..
- أجل أيها الحالم، لقد سُمّيتُ كذلك لأن حيةً نهشَتْ إبهامَ قدمي فقطعتها...
وكان المرقش الأكبر يتابع حديثنا صامتا، قبل أن يخاطبني، وهو يشير إلى ذي الإصبع العَدْواني، بقوله:
- إن شاعرنا هذا فارس من الفرسان المعدودين و له غارات كثيرة ووقائع معدودة وقد عُمِّر طويلا، فلما أدركته الوفاة دعا ابنَه فقال له: ( يا بُنَيّ، إن أباك قد فنيَ وهو حي، وعاش حتى سئمَ العيش ...)
قلتُ:
-فإني أود لو سمعته ينشد قصيدته ( الأصمعية) على قافية الضاد، فإنها من أحب القصائد إلى نفسي.
فلما سمع ذو الإصبع كلامي ، اندفع ينشد بصوت عذب:
عَذيرَ الحَيِّ منْ عَدْوا = نَ، كانوا حيّةَ الأرْضِ
بغى بعضهُمُ بَعْضاً = فلم يُرْعُوا على بَعْض
و منهمْ كانت السادا = تُ، و المُوفونَ بالقَرْض
و منهمْ حَكَمٌ يَقْضي = و لا يُنْقَضُ ما يَقْضي
و منهمْ حاملُ الناسِ = على السّنَّة والفَرْض
وقد رأيتُ بعينيّ كيف كان المرقشان يهتزان من الطرب وهما يستمعان لإنشاد العدواني وكذلك المثقب والجُميح وسُحيم ومتمم بن نويرة... فلما انتهى شاعرنا من إنشاده، توجه إليه سُحيم بن وثيل قائلا:
- يا ذا الإصبع، هذه قصيدة جيدة وأجْودُ منها نونيتك العجيبة التي أوردها المفضل الضبي في مختاراته، وفيها تتهكم من ابن عمٍّ لك يَكرهك ويشي بك إلى أعدائك ويسعى بينك وبين أحبابك...
قال ذو الإصبع:
- أنا أذكر جيدا قصيدتي النونية التي تتحدث عنها.. وفيها أخاطب ابنَ عمي ذاك بقولي:
لولا أواصر قُرْبى لستَ تَحفظها = ورهبة الله فيمَنْ لا يُعاديني
إذنْ برَيْتُكَ بَرْياً لا انجبارَ لهُ = إنّي رأيتُكَ ما تَنْفَكُّ تَبْريني
إنّ الذي يَقبض الدنيا ويَبْسُطها = إنْ كان أغناك عني سوف يُغْنيني
الله يَعْلمني و الله يَعْلمكمْ = والله يَجْزيكمُ عني ويَجْزيني
ماذا عليّ وإنْ كنتمْ ذوي رحمي = أنْ لا أحبَّكُمُ إنْ لمْ تُحبّوني
فلما بلغ هذا الحد توقف وشردتْ نظراته، فتطوع المرقش الأصغر وواصل الإنشاد:
إنّي أبيٌّ أبيٌّ ذو محافظة = و ابنُ أبيٍّ أبيٍّ منْ أبيّينِ
كل امرئ صائرٌ يوما لشيمته = وإنْ تَخَلَّقَ أخلاقا إلى حين
إلى أن بلغ قوله:
و أنتمُ معشر زَيْدٌ على مائة = فأجْمعوا أمركم شتى فكيدوني
فإنْ علمتمْ سبيلَ الرشد فانطلقوا = و إنْ جهلتمْ سبيلَ الرشد فأْتُوني
وكان الليل قد انتهى إلا أقله فودعتُ شعراء المفضليات على مضض وتواعدنا على اللقاء في الحلم القادم، في خيمة المرقش الأكبر...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى