من أبي محمد عبدالله بن مسلم بن قُتَيبة الدِّينَوْري، الأديب النحوي اللغوي
إلى الأديب القاص الألمعي الأستاذ أحمد بوزفور
السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته،
وبعد،
فقد سُررتُ غاية السرور لما بلغني أنك من المعجبين بكتابي( الشعر والشعراء). وهو كتابٌ أتحدثُ فيه عن الشعراء وأزمانهم، وعما يُستحسَن من أخبار كل شاعر، وما يُسْتجادُ من شعره. وأنتَ تَعرف جيدا، يا سي أحمد، وأنت أستاذ الأدب القديم، والمطلع على أسرار الشعر العربي والعليم بخفاياه، أن أجْمَلَ الشعر هو ما حَسُنَ لفظه وجادَ معناه، مثل قول الحَزين الكناني في أحَد بني أمَيّة:
يُغْضي حَياءً ويُغْضى منْ مَهابَتهِ = فما يُكَلَّمُ إلا حينَ يَبْتسمُ
و مثل قول أوس بن حجر :
أيتها النفسُ أجْملي جَزَعا =إنّ الذي تَحْذَرينَ قدْ وَقَعا
و مثل قول أبي ذؤيب الهذلي:
والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبْتَها = وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تَقْنَعُ
ومثل قول حُمَيد بن ثور:
أرى بَصَري قد رابَني بعْدَ صحَّة = وحَسْبُكَ داءً أنْ تَصحَّ وتَسْلَما
فتأمل معي - يا صاحب ديوان السندباد
- هذه الأبيات. هل قال أحد في الهيبة مثل قول الحزين الكناني؟
- وهل ابتدأ أحد مرثية مثلما ابتدأها أوس بن حجر؟
- وهل وصف أحد رياضة النفس كما وصفها أبو ذؤيب؟
- وهل قال أحد في الكبر أحسنَ من قول حُمَيد بن ثور؟
لقد كان همي الأول، إذن، عند تأليف ذلك الكتاب، هو السمو بالذائقة الشعرية لدى الناس، كما تقولون أنتم في قرنكم الميلادي الواحد والعشرين. ولا يخفى عليك، وأنت من أنت، أنني ألفتُ كتبا أخرى عديدة، منها كتاب (معاني الشعر) وكتاب (عيون الشعر) و(عيون الأخبار). كما أنني لم أقتصر في تصانيفي على الأدب، فقد كنتُ عالما لغويا كذلك، آجمع بين المذهبين البصري والكوفي، مثلما كنتُ قاضيا في الدينَوْر، مما جعل الناسَ يسمونني الدينوري. ورغم اشتغالي بالقضاء، وكثرة مصنفاتي في علوم القرآن والحديث، فإن إسهامي في المناقشات الكلامية - وما كان أكثرها في زمني! - قد جعل بعض المتعالمين يتهمونني بالزندقة ويطالبون بقتلي.
أما رجال العلم الحقيقيون، فإنهم يعترفون بقيمتي ويشيدون بمكانتي. وقد أثلجَ صدري ما بلغني عن العالم ابن خلدون، الذي قال عني في مقدمته: ( وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين، هي: "أدب الكاتب " لابن قُتيبة، و "الكامل" للمبرد، و" البيان والتبيين " للجاحظ، و"النوادر" لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبعٌ لها وفروع عنها...)
وها هو كتابي ( الشعر و الشعراء) لا يزال يلقى الإقبال من أبناء عصركم، رغم أنني رحلتُ عن دنياكم منذ اثني عشر قرنا من الزمان! إذْ كانت وفاتي، كما تعلم، سنة 276 للهجرة، وأنا في الثالثة والستين من العمر.
ويبدو أنني متُّ نتيجة لحالة تسمم، كما يقول أطباءُ زمنكم. إذْ يحكي البعض أني أكلتُ هريسة فأصابتني منها حرارة شديدة، فصحْتُ صيحة عظيمة، ثم أغْمِيَ عليّ إلى الظهر واضطربتُ ساعة ثم هدأتُ، فما زلتُ أتشهد إلى أن أدركَتْني الوفاة عند السَّحَر...
بينما يَزعم آخَرون أن وفاتي كانت مفاجئة، إذْ أغمي عليّ بغتة فلم أفقْ من إغماءتي تلك،
وفارقتُ الدنيا، دون أن أشتكي من علة أو نحوها. والله تعالى أعلم بالحقيقة.
وحرر ببغداد العامرة،
توقيع : ابن قتيبة الدينوري.
إلى الأديب القاص الألمعي الأستاذ أحمد بوزفور
السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته،
وبعد،
فقد سُررتُ غاية السرور لما بلغني أنك من المعجبين بكتابي( الشعر والشعراء). وهو كتابٌ أتحدثُ فيه عن الشعراء وأزمانهم، وعما يُستحسَن من أخبار كل شاعر، وما يُسْتجادُ من شعره. وأنتَ تَعرف جيدا، يا سي أحمد، وأنت أستاذ الأدب القديم، والمطلع على أسرار الشعر العربي والعليم بخفاياه، أن أجْمَلَ الشعر هو ما حَسُنَ لفظه وجادَ معناه، مثل قول الحَزين الكناني في أحَد بني أمَيّة:
يُغْضي حَياءً ويُغْضى منْ مَهابَتهِ = فما يُكَلَّمُ إلا حينَ يَبْتسمُ
و مثل قول أوس بن حجر :
أيتها النفسُ أجْملي جَزَعا =إنّ الذي تَحْذَرينَ قدْ وَقَعا
و مثل قول أبي ذؤيب الهذلي:
والنفسُ راغبةٌ إذا رَغَّبْتَها = وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تَقْنَعُ
ومثل قول حُمَيد بن ثور:
أرى بَصَري قد رابَني بعْدَ صحَّة = وحَسْبُكَ داءً أنْ تَصحَّ وتَسْلَما
فتأمل معي - يا صاحب ديوان السندباد
- هذه الأبيات. هل قال أحد في الهيبة مثل قول الحزين الكناني؟
- وهل ابتدأ أحد مرثية مثلما ابتدأها أوس بن حجر؟
- وهل وصف أحد رياضة النفس كما وصفها أبو ذؤيب؟
- وهل قال أحد في الكبر أحسنَ من قول حُمَيد بن ثور؟
لقد كان همي الأول، إذن، عند تأليف ذلك الكتاب، هو السمو بالذائقة الشعرية لدى الناس، كما تقولون أنتم في قرنكم الميلادي الواحد والعشرين. ولا يخفى عليك، وأنت من أنت، أنني ألفتُ كتبا أخرى عديدة، منها كتاب (معاني الشعر) وكتاب (عيون الشعر) و(عيون الأخبار). كما أنني لم أقتصر في تصانيفي على الأدب، فقد كنتُ عالما لغويا كذلك، آجمع بين المذهبين البصري والكوفي، مثلما كنتُ قاضيا في الدينَوْر، مما جعل الناسَ يسمونني الدينوري. ورغم اشتغالي بالقضاء، وكثرة مصنفاتي في علوم القرآن والحديث، فإن إسهامي في المناقشات الكلامية - وما كان أكثرها في زمني! - قد جعل بعض المتعالمين يتهمونني بالزندقة ويطالبون بقتلي.
أما رجال العلم الحقيقيون، فإنهم يعترفون بقيمتي ويشيدون بمكانتي. وقد أثلجَ صدري ما بلغني عن العالم ابن خلدون، الذي قال عني في مقدمته: ( وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين، هي: "أدب الكاتب " لابن قُتيبة، و "الكامل" للمبرد، و" البيان والتبيين " للجاحظ، و"النوادر" لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبعٌ لها وفروع عنها...)
وها هو كتابي ( الشعر و الشعراء) لا يزال يلقى الإقبال من أبناء عصركم، رغم أنني رحلتُ عن دنياكم منذ اثني عشر قرنا من الزمان! إذْ كانت وفاتي، كما تعلم، سنة 276 للهجرة، وأنا في الثالثة والستين من العمر.
ويبدو أنني متُّ نتيجة لحالة تسمم، كما يقول أطباءُ زمنكم. إذْ يحكي البعض أني أكلتُ هريسة فأصابتني منها حرارة شديدة، فصحْتُ صيحة عظيمة، ثم أغْمِيَ عليّ إلى الظهر واضطربتُ ساعة ثم هدأتُ، فما زلتُ أتشهد إلى أن أدركَتْني الوفاة عند السَّحَر...
بينما يَزعم آخَرون أن وفاتي كانت مفاجئة، إذْ أغمي عليّ بغتة فلم أفقْ من إغماءتي تلك،
وفارقتُ الدنيا، دون أن أشتكي من علة أو نحوها. والله تعالى أعلم بالحقيقة.
وحرر ببغداد العامرة،
توقيع : ابن قتيبة الدينوري.