عبد القادر وساط - رسائل إلى أدباء العصور القديمة ورسائل منهم (2) رسالة من أبي النجْم الراجز إلى محمد بن علي

من الفضل بن قُدامة بن عجْل، المعروف بأبي النجم إلى محمد بن علي، المعروف بالرباوي
السلام عليك ورحمة الله وبعد،
أبعث إليك كتابي هذا من موضع يقال له الفِرْك، بسواد الكوفة. وذلك في فجر الاثنين، الثامن من حزيران، من سنة 747 للميلاد، أي في زمن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك.
وما إخالني في حاجة إلى تقديم نفسي إليك، وأنتَ الشاعر المفلق والأستاذ الباحث، الخبير بالشعر العربي القديم... إنك تَعرف دون شك مكانتي في الرجز ومنزلتي بين الشعراء، وتعرف أني أنا صاحبُ الأرجوزة التي أولها ( الحَمْدُ لله الوَهُوب المُجْزِلِ)، وهي أجود أرجوزة للعرَب، وتَعرف أني أنشدْتُها هشامَ بنَ عبدالملك، وأنه كان من شدة استحسانه لها، يصفق بيديه وأنا أنشدها... ثم حدثَ ما حدثَ أثناء الإنشاد، حين شاء لي سوءُ حظي أن أصفَ الشمسَ في هذه الأرجوزة بقولي:
صَغْواءَ قدْ كادتْ ولمّا تَفْعَلِ = فَهْيَ على الأفْق كعَيْن الأحْوَلِ
إذْ غاب عني، عندئذ، أن الخليفة هشامَ بن عبدالملك أحْوَل!
فلما سمعَ قولي هذا، ظن أني أعرّضُ به، فأمرَ بوَجْءِ رقبتي وإخراجي. وقد استعمل الكاشحون هذه القصة المؤسفة للنيل من شاعريتي والحطِّ من قدري، مع أن أباعمرو بن العلاء نفسه قد شهدَ أني أبْلَغُ في النعت من العَجّاج.
والذي حزّ في نفسي، يا ابنَ علي، هو أنك انضممتَ أنتَ الآخر إلى جماعة الساخرين الهازئين، وشرعتَ تنشر نصوصاً تَهزأ فيها مني وتَزعم أنني لا أبلغ شأو غيري من الرجاز. كأنك نسيتَ أو تناسيتَ أني أنا صاحب الأرجوزة المشهورة ( تَذَكَّرَ القلبُ و جَهْلاً ما ذَكَرْ)، والتي أقول فيها:
إنّي و كلُّ شاعرٍ منَ البَشَرْ = شَيْطانُهُ أنْثى وشيْطاني ذَكَرْ
ثم إنني لستُ كغيري من الرّجّاز، الذين اكتفوا بالرجز ولم يُحْسنوا أنْ يُقَصِّدوا، فأنا أقَصِّدُ فَأُجِيد، كما يشهد محمد بنُ سلّام الجُمَحيّ نفسه، في كتابه (طبقات فحول الشعراء). ولا شك أنك تبتسم الآن وأنتَ تقرأ اسمَ ابن سَلّام الجُمَحي، لأنك تَعلم حق العلم أنه أهانني وأزْرى بي، حين وضعني مع ثلاثة من الرجاز الآخرين، وهم الأغْلَب العجْليّ والعجّاج وابنه رُؤْبَة، في الطبقة التاسعة من فحول شعراء الإسلام! وهكذا حشرنا نحن الأربعة في الدرك الأسفل، بينما أغفل الرجاز الآخرين إغفالا تاما، فلم يشر إليهم لا من قريب ولا من بعيد... ومنهم دُكَيْن الراجز، الذي لا يكتفي هو الآخر بالرجز، بل ينظم القصائد أيضا فيجيد... وكيف لا وهو القائل:
إذا المرء لم يدْنسْ من اللؤم عرْضُهُ = فكلُّ رداء يرتديه جميلُ
أعرف أنك ستقلص ما بين حاجبيك، حين تقرأ هذا الكلام، لأن معاصريك ينسبون هذا البيت للسموأل ...
ومن الرجاز الآخرين، الذين ترَفّعَ ابنُ سلام حتى عن ذكرهم في كتابه، هناك أبو نُخيلة، الذي كُني كذلك لأن أمه ولدَتْه إلى جنب نخلة، وهو الذي هجاه رؤبة فوصفه بالخياط في قوله: ( فقلْ لذاك الشاعر الخيّاطِ)، والخياط في لغتهم، كما لا يخفى عليك، هو الدعي، المنتسب إلى قوم ليس منهم....
ومن الذين أغفلهم ابن سلام كذلك، الراجز عمر بن لجأ، الذي كان بينه وبين جرير شرٌّ ومهاجاة...
وإني لأرجو منك، يا أخي الرباوي، في ختام هذا الكتاب، أن تكفّ عما أنتَ فيه من تشنيع بالرجاز، وبي أنا على وجه الخصوص وإلا فسوف ألجأ للسلاح الوحيد الذي أمتلكه، كي أدافع عن حرمتي وأذود عن شرفي، وهو الرجز...
وبه الإعلام والسلام...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى