كنا نمشي تحت ضوء القمر...
كان المُرَقِّش الأصغر يلتفت إليّ، بين حين وآخر، ويضحك عندما يكتشف أن المسافة التي تفصل بيننا صارت كبيرة نسبيا، ثم يقف وينتظرني...
كنا نبحث عن ابن سَلّام الجُمَحي، الذي اختفى في ليل الصحراء ذاك، بعد أن خرج غاضبا من خيمة المرقش الأكبر...
ولما بلغ مني التعبُ مَبْلغَه، اقترح عليّ رفيقي الشاعر أن نجلس قليلا قرب شجرة طَلْح...
جلستُ أنا على الرمل، أما هو فتمدَّدَ على ظهره وشبّكَ يديه خلف رأسه وشرع يتأمل السماء والقمرَ الساطع. وبعد لحظة صمْت، قال لي:
- الظاهر أن ابن سلام الجمحي قد غادر هذا الحلمَ نهائيا، ولعله عاد إلى قرنه الهجري الثاني، هربا من عمّي المرقش الأكبر...
قلتُ له :
- هناك من يزعم أن المرقش الأكبر أخوك و ليس عمك...
فأجابني بنبرة حاسمة:
- بل هو عمي، أيها الحالم... كما أنني أنا عَمُّ طرفة بن العبد...
في تلك اللحظة، مر شخص راجل بالقرب منا. لم يسلم و لم يتوقف. اكتفى بالتفاتة عابرة، ثم واصل السير. قلتُ للمرقش الأصغر:
- مَنِ الرجل يا صديقي؟ هل تبينتَ ملامحه؟
فقال ضاحكا:
- كيف ذلك ؟ ألم تعرفه؟ إنه المفضل الضَّبّي... هو يظهر من حين لآخر في مثل هذه الأحلام ، لكنه لا يتدخل في الأحداث و لا يشارك في الأحاديث...يكتفي بجولة قصيرة ، كأنما يتفقد أحوال الشعراء الذين اختارهم و جمعَ أشعارهم في المفضليات...ثم يختفي من جديد...
قلتُ و أنا أتابع بنظراتي شبح المفضل الضبي، الذي كان يبتعد بسرعة غير ممكنة في عالم اليقظة:
- يا مرقش، لقد اختار لك المفضل عدة قصائد، فمنها الحائية على الطويل ( أمنْ رَسْم دارٍ ماءُ عينيك يسْفحُ)، ومنها الميمية على الطويل كذلك، التي تقول فيها:
( أفاطمَ لو أنّ النساءَ ببلدة = وأنْت بأخرى لاتَّبَعْتُك هائما)...
فقاطعني قائلا بابتسامة ذات معنى:
- وفي هذه القصيدة أيضا أقول: ( وقد تعتري الأحلامُ مَنْ كان نائما)
ثم إنه ابتسم وابتسمْتُ، ومباشرة بعد ذلك سألتُه:
- يا صديقي، تحكي بعض الكتب التي وصلتنا أنك كنت تعشق فاطمة بنت المنذر، وأنك مع ذلك بعثتَ ابنَ عمك جنابَ بنَ عوف ليبيت عندها ويأخذ مكانك منها، ثم يحْكون آنك ندمتَ ندما شديدا على ما بدرَ منك، فعضَضْتَ على إبهامك حتى قطَعْتَها... فهل هذه أخبار صحيحة؟
فلما سمع المرقش الأصغر كلامي ضحك بصوت مسموع، ثم قال:
- هذا كلام الجاهل ابن قتَيبَة، أليس كذلك؟
ثم إنه بسط يديه وقرّبَهما مني، حتى أتمكن من النظر إليهما بوضوح :
- أترى أحدَ إبهاميَّ مقطوعاً؟
وبدا لي أنه قد احتدّ بعض الشيء، رغم أنه كان يقهقه ضاحكا، فقررت تغيير دفة الحديث. وهكذا توجهتُ إليه قائلا:
- قصائدك المثبتة في المفضليات جميلة، ولكنها لا تبلغ المستوى الفني لقصيدتك التي أدرجها الأصمعي في مختاراته...فهل لا تزال تذكرها أم أنْساكَها مرورُ الزمن؟
نظر إليّ المرقش الأصغر نظرة متفحصة، ثم قال:
- كيف أنسى تلك القصيدة التي أصف فيها الخمر وتأثيرَها على الشاربين؟
سألتُه قائلا:
- فأخبرْني عن وصفك لنفسك قبل الشرب وبعده، حين تقول:
( فأوّلَ الليل ليثٌ خادرٌ = و آخرَ الليل ضِبْعانٌ عَثُورْ)...
ما الذي ترمي إليه باذات؟
- الأمر واضح يا صاحبي... ففي أول الليل أكون مثل ليث خادر، أي مثل أسد يلزم خدْرَه، أي عرينَه، فلا يغادره... وفي آخر الليل أكون قد امتلأتُ بالشراب فأعود إلى بيتي وأنا أتعثر في سيري... والضِّبْعان هو ذكَرُ الضباع، والعَثُور من صفاته، ذلك أن الضباع كلَّها تَعْرج...
كنتُ قد أحسست برغبة في النوم، رغم كل شيء، فقلت لصديقي الشاعر:
- إذا أذنتَ لي الآن يا مرقش، فسوف أغفو قليلا، ثم أنهض بعد ذلك لاستئناف البحث عن ابن سلام..
وسرعان ما نمتُ بالفعل. غير أنني لما صحوتُ، وجدتُ نفسي على سريري ، في منزلي بالدار البيضاء....
كان المُرَقِّش الأصغر يلتفت إليّ، بين حين وآخر، ويضحك عندما يكتشف أن المسافة التي تفصل بيننا صارت كبيرة نسبيا، ثم يقف وينتظرني...
كنا نبحث عن ابن سَلّام الجُمَحي، الذي اختفى في ليل الصحراء ذاك، بعد أن خرج غاضبا من خيمة المرقش الأكبر...
ولما بلغ مني التعبُ مَبْلغَه، اقترح عليّ رفيقي الشاعر أن نجلس قليلا قرب شجرة طَلْح...
جلستُ أنا على الرمل، أما هو فتمدَّدَ على ظهره وشبّكَ يديه خلف رأسه وشرع يتأمل السماء والقمرَ الساطع. وبعد لحظة صمْت، قال لي:
- الظاهر أن ابن سلام الجمحي قد غادر هذا الحلمَ نهائيا، ولعله عاد إلى قرنه الهجري الثاني، هربا من عمّي المرقش الأكبر...
قلتُ له :
- هناك من يزعم أن المرقش الأكبر أخوك و ليس عمك...
فأجابني بنبرة حاسمة:
- بل هو عمي، أيها الحالم... كما أنني أنا عَمُّ طرفة بن العبد...
في تلك اللحظة، مر شخص راجل بالقرب منا. لم يسلم و لم يتوقف. اكتفى بالتفاتة عابرة، ثم واصل السير. قلتُ للمرقش الأصغر:
- مَنِ الرجل يا صديقي؟ هل تبينتَ ملامحه؟
فقال ضاحكا:
- كيف ذلك ؟ ألم تعرفه؟ إنه المفضل الضَّبّي... هو يظهر من حين لآخر في مثل هذه الأحلام ، لكنه لا يتدخل في الأحداث و لا يشارك في الأحاديث...يكتفي بجولة قصيرة ، كأنما يتفقد أحوال الشعراء الذين اختارهم و جمعَ أشعارهم في المفضليات...ثم يختفي من جديد...
قلتُ و أنا أتابع بنظراتي شبح المفضل الضبي، الذي كان يبتعد بسرعة غير ممكنة في عالم اليقظة:
- يا مرقش، لقد اختار لك المفضل عدة قصائد، فمنها الحائية على الطويل ( أمنْ رَسْم دارٍ ماءُ عينيك يسْفحُ)، ومنها الميمية على الطويل كذلك، التي تقول فيها:
( أفاطمَ لو أنّ النساءَ ببلدة = وأنْت بأخرى لاتَّبَعْتُك هائما)...
فقاطعني قائلا بابتسامة ذات معنى:
- وفي هذه القصيدة أيضا أقول: ( وقد تعتري الأحلامُ مَنْ كان نائما)
ثم إنه ابتسم وابتسمْتُ، ومباشرة بعد ذلك سألتُه:
- يا صديقي، تحكي بعض الكتب التي وصلتنا أنك كنت تعشق فاطمة بنت المنذر، وأنك مع ذلك بعثتَ ابنَ عمك جنابَ بنَ عوف ليبيت عندها ويأخذ مكانك منها، ثم يحْكون آنك ندمتَ ندما شديدا على ما بدرَ منك، فعضَضْتَ على إبهامك حتى قطَعْتَها... فهل هذه أخبار صحيحة؟
فلما سمع المرقش الأصغر كلامي ضحك بصوت مسموع، ثم قال:
- هذا كلام الجاهل ابن قتَيبَة، أليس كذلك؟
ثم إنه بسط يديه وقرّبَهما مني، حتى أتمكن من النظر إليهما بوضوح :
- أترى أحدَ إبهاميَّ مقطوعاً؟
وبدا لي أنه قد احتدّ بعض الشيء، رغم أنه كان يقهقه ضاحكا، فقررت تغيير دفة الحديث. وهكذا توجهتُ إليه قائلا:
- قصائدك المثبتة في المفضليات جميلة، ولكنها لا تبلغ المستوى الفني لقصيدتك التي أدرجها الأصمعي في مختاراته...فهل لا تزال تذكرها أم أنْساكَها مرورُ الزمن؟
نظر إليّ المرقش الأصغر نظرة متفحصة، ثم قال:
- كيف أنسى تلك القصيدة التي أصف فيها الخمر وتأثيرَها على الشاربين؟
سألتُه قائلا:
- فأخبرْني عن وصفك لنفسك قبل الشرب وبعده، حين تقول:
( فأوّلَ الليل ليثٌ خادرٌ = و آخرَ الليل ضِبْعانٌ عَثُورْ)...
ما الذي ترمي إليه باذات؟
- الأمر واضح يا صاحبي... ففي أول الليل أكون مثل ليث خادر، أي مثل أسد يلزم خدْرَه، أي عرينَه، فلا يغادره... وفي آخر الليل أكون قد امتلأتُ بالشراب فأعود إلى بيتي وأنا أتعثر في سيري... والضِّبْعان هو ذكَرُ الضباع، والعَثُور من صفاته، ذلك أن الضباع كلَّها تَعْرج...
كنتُ قد أحسست برغبة في النوم، رغم كل شيء، فقلت لصديقي الشاعر:
- إذا أذنتَ لي الآن يا مرقش، فسوف أغفو قليلا، ثم أنهض بعد ذلك لاستئناف البحث عن ابن سلام..
وسرعان ما نمتُ بالفعل. غير أنني لما صحوتُ، وجدتُ نفسي على سريري ، في منزلي بالدار البيضاء....