كان الشيخ ابن جني يمشي بخطى بطيئة، و الظاهر أنه لم يتعود السير في مثل هذا الزحام...
كنتُ مكلفا بمرافقته في هذه الزيارة التي يقوم بها لمعرض الكتاب بالدار البيضاء. بيد أني لم أتحمس كثيرا لهذه المهمة ،رغم محبتي للشيخ و إكباري له. فقد
يحدث له أمر ما، لا سمح الله ، و أجد نفسي عرضة للمتاعب من كل صنف. خصوصا و أنه مصاب في إحدى عينيه ، كما يشير هو نفسه إلى ذلك، حين يقول في قصيدة من قصائده و قدْ- و حياتك - ممّا بكيتُ/ خشيتُ على عيْنيَ الواحدهْ)... ذلك ما رواه ابن الأنباري في كتابه( نزهة الألباء في طبقات الأدباء)... لكن جاء في كتاب ( البداية و النهاية) لابن كثير أن هذا الشعر ليس للشيخ ابن جني و إنما كان يتمثل به أحيانا ... و يروي صاحب ( مسالك الأبصار) ، من جانبه، أن أبا الطيب المتنبي كان -إذا سُئل عن معنى بيت قاله - يجيب سائلَه:" عليك بالشيخ الأعور ابن جني فاسأله "...
و على أية حال، فإن الشيخ كان يسير بأناة و حذر ، و يتوقف بين حين و آخر كي يتأمل الكتب المعروضة . و لما دخلنا معا رواق ( التراث) ، تناول بنفسه ديوان الشريف الرضي، و شرع يتصفحه قائلا:
- رحم الله الشريف ... كان كريما ،أبيّ النفس... و لما متُّ رثاني بقصيدة لا تُنسى...و مما قاله في رثائي ، رحمنا الله جميعا:
و ما احتاجَ بُرْداً غيْرَ بُرْد عفافه = و لا عُرْف طيب غير تلك الخلائق
ثم إن ابن جني سكت قليلا قبل أن يضيف:
- كان عليكم أن تدعوا بعض الشعراء القدامى ، مثل المتنبي و الشريف الرضي لزيارة هذا المعرض... و كذلك بعض شيوخنا الأجلاء، خصوصا أبا علي الفارسي و أبا الفرج الأصبهاني ...
و لماغادرنا ذلك الرواق، سألني بكيفية مفاجئة:
- ما لي لم أرَ كتابَ ( الفسر) ضمن الكتب المعروضة ؟ ... لقد شرحتُ فيه ديوانَ أبي الطيب المتنبي شرحا استفاد منه كل الذين أتوا من بعدي ... ذلك أن عشرتي الطويلة للشاعر جعلتني عارفا بالظروف التي أحاطت بشعره ...
قلتُ للشيخ:
- و مع ذلك، فقد هاجمك بعض معاصريك، بسبب هذا الشرح... مثل ابن فورجة، في كتابه ( الفتح على أبي الفتح) ...
قال ابن جني و هو يضحك:
- هو لم يكتف بهذا الكتاب، بل أضاف كتابا ثانيا بعنوان( التجني على ابن جني) ! ... كما أن أبا حيان التوحيدي ألّف هو الآخر كتابا بعنوان: ( الرد على ابن جني في شعر المتنبي)... و لا تنس أن الشيخ الربعي قام بدوره بتأليف كتاب ( الرد على ابن جني في تفسير شعر المتنبي)...لكنني لم أر هذه الكتب في معرضكم هذا...
كنا نجد طريقنا بصعوبة وسط الزحام الشديد في المعرض... و كان أطفال المدارس ينظرون بكثير من الفضول إلى الشيخ أبي الفتح عثمان ابن جني، بسبب لباسه غير المألوف أو ربما بسبب جمعه بين اللباس العربي القديم و الملامح ( الأروبية) ... فهو أشقر ، بيّنُ الشقرة ، كما نعلم ، لأنه ينحدر من أب رومي، يسمى Gennaius ...و منه استُمدت تسمية( جنّي)...
و خلال تجوالنا بالمعرض، مررنا بقاعة كانت تنظَّم فيها قراءات شعرية... كانت هناك شاعرة في مقتبل العمر تقرأ ( قصيدة ) من قصائدها الحديثة ، بصوت رخيم... و قفنا - الشيخ ابن جني و أنا- نصغي لما تقرأه:( ...أفق يتردد بلا ملل / و نحن بلا ظلال / و أحيانا أخرى بظلال طويلة/ لكننا حائرين في كلتي الحالتين)
مال علي الشيخ قائلا:
- لماذا تقول ( حائرين) ؟ و لماذا تقول( في كلتي) ؟ هل تغير النحو من بعدي ؟ و هل تغير الشعر؟ ما معنى ( أفق يتردد بلا ملل)؟ ثم أين هو الإيقاع ؟ و أين العروض ؟
قلتُ محاولا تهدئة ذلك النحوي القديم:
- لم يتغير النحو يا شيخنا، لكن بعض (شعراء) اليوم لا يعرفون قواعد اللغة ، كما أنهم لم يطلعوا قط على التراث ، و لا يملكون أدنى فكرة عن قواعد و أسس العروض !... نحن في عصر السرعة أيها الشيخ الجليل ... و الناس مضطرون لأن يصيروا شعراء بسرعة .... ليس لديهم الوقت الكافي لدراسة اللغة و النحو و التراث و العروض و ما إلى ذلك ....
أخذت الشيخ من يده كي أجنبه ذلك المشهد. اقترحتُ عليه أن نجلس قليلا في مقهى المعرض حتى نسترد أنفاسنا. ألقى الشيخ جسدَه المتعب على أحد الكراسي و هو يردد مغتاظا:
- لكننا حائرين... في كلتي الحالتين... ماذا سيقول شيخي أبو علي الفارسي، حين أحكي له عما سمعتُه اليوم؟
كنتُ مكلفا بمرافقته في هذه الزيارة التي يقوم بها لمعرض الكتاب بالدار البيضاء. بيد أني لم أتحمس كثيرا لهذه المهمة ،رغم محبتي للشيخ و إكباري له. فقد
يحدث له أمر ما، لا سمح الله ، و أجد نفسي عرضة للمتاعب من كل صنف. خصوصا و أنه مصاب في إحدى عينيه ، كما يشير هو نفسه إلى ذلك، حين يقول في قصيدة من قصائده و قدْ- و حياتك - ممّا بكيتُ/ خشيتُ على عيْنيَ الواحدهْ)... ذلك ما رواه ابن الأنباري في كتابه( نزهة الألباء في طبقات الأدباء)... لكن جاء في كتاب ( البداية و النهاية) لابن كثير أن هذا الشعر ليس للشيخ ابن جني و إنما كان يتمثل به أحيانا ... و يروي صاحب ( مسالك الأبصار) ، من جانبه، أن أبا الطيب المتنبي كان -إذا سُئل عن معنى بيت قاله - يجيب سائلَه:" عليك بالشيخ الأعور ابن جني فاسأله "...
و على أية حال، فإن الشيخ كان يسير بأناة و حذر ، و يتوقف بين حين و آخر كي يتأمل الكتب المعروضة . و لما دخلنا معا رواق ( التراث) ، تناول بنفسه ديوان الشريف الرضي، و شرع يتصفحه قائلا:
- رحم الله الشريف ... كان كريما ،أبيّ النفس... و لما متُّ رثاني بقصيدة لا تُنسى...و مما قاله في رثائي ، رحمنا الله جميعا:
و ما احتاجَ بُرْداً غيْرَ بُرْد عفافه = و لا عُرْف طيب غير تلك الخلائق
ثم إن ابن جني سكت قليلا قبل أن يضيف:
- كان عليكم أن تدعوا بعض الشعراء القدامى ، مثل المتنبي و الشريف الرضي لزيارة هذا المعرض... و كذلك بعض شيوخنا الأجلاء، خصوصا أبا علي الفارسي و أبا الفرج الأصبهاني ...
و لماغادرنا ذلك الرواق، سألني بكيفية مفاجئة:
- ما لي لم أرَ كتابَ ( الفسر) ضمن الكتب المعروضة ؟ ... لقد شرحتُ فيه ديوانَ أبي الطيب المتنبي شرحا استفاد منه كل الذين أتوا من بعدي ... ذلك أن عشرتي الطويلة للشاعر جعلتني عارفا بالظروف التي أحاطت بشعره ...
قلتُ للشيخ:
- و مع ذلك، فقد هاجمك بعض معاصريك، بسبب هذا الشرح... مثل ابن فورجة، في كتابه ( الفتح على أبي الفتح) ...
قال ابن جني و هو يضحك:
- هو لم يكتف بهذا الكتاب، بل أضاف كتابا ثانيا بعنوان( التجني على ابن جني) ! ... كما أن أبا حيان التوحيدي ألّف هو الآخر كتابا بعنوان: ( الرد على ابن جني في شعر المتنبي)... و لا تنس أن الشيخ الربعي قام بدوره بتأليف كتاب ( الرد على ابن جني في تفسير شعر المتنبي)...لكنني لم أر هذه الكتب في معرضكم هذا...
كنا نجد طريقنا بصعوبة وسط الزحام الشديد في المعرض... و كان أطفال المدارس ينظرون بكثير من الفضول إلى الشيخ أبي الفتح عثمان ابن جني، بسبب لباسه غير المألوف أو ربما بسبب جمعه بين اللباس العربي القديم و الملامح ( الأروبية) ... فهو أشقر ، بيّنُ الشقرة ، كما نعلم ، لأنه ينحدر من أب رومي، يسمى Gennaius ...و منه استُمدت تسمية( جنّي)...
و خلال تجوالنا بالمعرض، مررنا بقاعة كانت تنظَّم فيها قراءات شعرية... كانت هناك شاعرة في مقتبل العمر تقرأ ( قصيدة ) من قصائدها الحديثة ، بصوت رخيم... و قفنا - الشيخ ابن جني و أنا- نصغي لما تقرأه:( ...أفق يتردد بلا ملل / و نحن بلا ظلال / و أحيانا أخرى بظلال طويلة/ لكننا حائرين في كلتي الحالتين)
مال علي الشيخ قائلا:
- لماذا تقول ( حائرين) ؟ و لماذا تقول( في كلتي) ؟ هل تغير النحو من بعدي ؟ و هل تغير الشعر؟ ما معنى ( أفق يتردد بلا ملل)؟ ثم أين هو الإيقاع ؟ و أين العروض ؟
قلتُ محاولا تهدئة ذلك النحوي القديم:
- لم يتغير النحو يا شيخنا، لكن بعض (شعراء) اليوم لا يعرفون قواعد اللغة ، كما أنهم لم يطلعوا قط على التراث ، و لا يملكون أدنى فكرة عن قواعد و أسس العروض !... نحن في عصر السرعة أيها الشيخ الجليل ... و الناس مضطرون لأن يصيروا شعراء بسرعة .... ليس لديهم الوقت الكافي لدراسة اللغة و النحو و التراث و العروض و ما إلى ذلك ....
أخذت الشيخ من يده كي أجنبه ذلك المشهد. اقترحتُ عليه أن نجلس قليلا في مقهى المعرض حتى نسترد أنفاسنا. ألقى الشيخ جسدَه المتعب على أحد الكراسي و هو يردد مغتاظا:
- لكننا حائرين... في كلتي الحالتين... ماذا سيقول شيخي أبو علي الفارسي، حين أحكي له عما سمعتُه اليوم؟