عبد الرحيم جيران - وضع المحنة في «ألف ليلة وليلة»

تحدثنا في المقال السابق عن ثلاثة أوضاع تخصص الحبكة في «الليالي»، وقاربنا وضع «الورطة»، وسنعمل في هذا المقال على مقاربة الوضع الثاني المتصل بـ«المحنة»، فما المقصود بهذا الوضع؟ وما الفرق بينه ووضع الورطة؟ وكيف ينشأ؟ وما هي الاقتضاءات الدلالية التي تصل به؟
لا ينشأ هذا الوضع من وجود الذات أمام مشكلة طارئة، بل أمام مشكلة تتحمل قدرا من المسؤولية في تشكلها، لكن من دون أن يكون الخطأ المتسبب فيها جوهريا، أو لنقل تحدث هذه المشكلة نتيجة عدم تقدير العواقب، أو هفوة غير متمعن فيها. ومن ثمة تنتفي الإرادة في الموضوع، إذ لا تعلن الذات عن رغبتها في موضوع معين، ولا تكلف بمهمة محددة، بيد أنها تجد نفسها موضوعا لإرادة قهرية أقوى منها، ولا فكاك من بطشها أو فعلها. ويترتب على وضعها هذا رد فعل يتراوح بين الاضطرار والاختيار، ويحدث هذا التراوح- كما سنرى في ما بعد- وفق طبيعة موضوع إرادة الآخر العليا المرغِمة- القاهرة.
ينبغي على العمل توضيح تسمية «المحنة» قبل الشروع في معالجتها نصيا، وتحديد ما تقوم عليه بنيتها من اقتضاءات نظرية، فهي تتضمن ثلاثة مكونات أسس: الاختبار (الابتلاء)- الصبر- التصفية (تخليص الشيء من الشوائب). وهي مكونات تشكل وحدات- أفكار تكاد تهيكل الإحساس العام الذي طبع عصرا برمته من تاريخ الأمة العربية، والمقصود (سقوط بغداد). والمعنى المستخلص من هذا أن هذه الوحدات- الأفكار تعَد منظمات نفسية – فكرية للحبكة الواقعية التي تكمن خلف كل أنماط الحبكة المتخيلة التي تتصل بوضع المحنة، والتي تخيل تعريض الذات إلى اختبار يهدد وجودها (القتل) أو وضعها الاعتباري الذي يفضي إلى انحطاط القدْر. ومعنى هذا أن هذا الاختبار- الابتلاء يتضمن في بنيته مفهوم التدهور، الذي يضاد مفهوم كمال الذات المسنن في الرؤية إليها المتعالية على الزمان والمتضمنة في النسق الثقافي لكل حضارة قوية. ولا يستخدم الاختبار تخييلا بغاية امتحان قدرة الذات الفعلية (القوة – المعرفة)، وإنما مدى طاقتها النفسية الماثلة في قوة الصبر على تحمل تبعات الخلع الاجتماعي بعد مرحلة من التنصيب، والتلاؤم مع درجة انحطاط القدر، بما يعنيه هذا من تواجد في المسافة بين اليأس والأمل. هذا فضلا عما يترتب على هذا الانحطاط من طاقة نفسية تتمثل في درجة الصبر على الشدائد، ومن تصفية الذات لنفسها من شوائب تراتب التعينات الاجتماعية (الصور المتصلة بوضع الذات قبل الخلع).
يكمن وراء وضع المحنة لاوعي غريزة البقاء، بما يعنيه من حفاظ على الذات بتجنيبها الموت. وتخيل هذه الغريزة بوساطة الحكاية في «الليالي» وفق حالتين: الهرب أو الرضا بالتحقير، ويترجم هذا التخييل وضعا تاريخيا لم يكن فيه أمام الذات العربية سوى الحفاظ على بقائها بعد انقلاب المجد إلى مذلة. لكن ينبغي أن نتنبه إلى كون الحكاية لا تكتفي بتمثيل وضع المحنة انطلاقا من التوصيفات التي أتينا على ذكرها، بل تقوم إلى جانب هذا بدور استشفائي، فتعمل على تمثيله تحبيكا أيضا انطلاقا من النوس بين اليأس والأمل. وسنعمد في معالجة وضع المحنة نصيا انطلاقا من المقارنة بين حكايا أبناء الملوك الروم الثلاثة وحكاية «نور الدين وشمس الدين».
تقوم حكايات أبناء الملوك الذين قدموا من روما على محفز مشترك ماثل في الطابق تحت الأرضي، بوصفه دالا على غير المرئي الذي يجمع في بنيته الرمزية بين العقاب والمسخ، اللذين يمهدان للانحطاط في القدْر الماثل في الخلع الرمزي (فقدان الملك) وانقلاب الأوضاع، فبانكشاف سر الطابق ينتج التحول المفضي إلى الانحطاط في القدْر، إذ ما أن يخرج ابن الملك الأول وعمه الملك من الطابق يشرد طريدا بفعل غزو مملكة العم من قِبَل وزير أبيه، وما أن يكتشف ابن الملك الثاني سر الطابق يمسخ إلى قرد، وما أن يكتشف ابن الملك الثالث سر الطابق يفقد عينه نتيجة إصابتها بفعل حركة من ذيل الفرس السحري. ويعَد الطابق رمزأ استبداليأ للغموض الداخلي (النفس) للذات المعنية بالتاريخ. وهذا الغموض لا يتلاءم مع تمجيد الظاهر الواضح الذي هو إسمنت كل ممارسة للسلطة، لكنه لا يعَد سببا في انقلاب الأوضاع، بقدر ما يعَد مرضا تاريخيا، أي تداخل الغريزي الغامض والتباس راهن السلطة الماثل في رخاوة الاستعداد للمهام الموكولة للخلف (الحفاظ على التركة: المجد). ولا يعَد الانحطاط في القدْر في هذه الحكايات الثلاث نتاج المصادفة، كما هو الأمر في وضع الورطة، بل نتاج كون الذات تتحمل جانبا من المسؤولية فيه. وتعمل هذه الحكايات الثلاث على تمثيل وضع المحنة من خلال بعد استشفائي يقام على ترميم اليأس، لا الأمل. ومعنى هذا أنها تخيل توقيف استمرار الانحطاط عند عتبة معينة، لا القضاء عليه بمحاولة استعادة المجد.
وتتأسس حكاية «نور الدين وشمس الدين» على وضع المحنة أيضا، وهي حكاية غير مضاعفة بفعل كون كلام راويها المنتمي إلى السلطة يوضع موضع مصداقية. وتتمثل المحنة في نوعيْن من الانحطاط: أ- انحطاط قدْر الوزير «حسن بدر الدين» بتحوله إلى طريد مطلوب دمه. ب- انحطاط قدْر ابنة الوزير «ست الحسن» عن طريق إرغامها على الزواج من السائس الأحدب بأمر من السلطان. وتتحمل الذات قدرا من المسؤولية- سواء أكانت مباشرة أو غير مباشرة- في هذا الانحطاط،. وإذا ربط بين وضع المحنة ومن يسردها (جعفر البرمكي) فإن الخاصية الاستشفائية تصير غير قائمة على ترميم اليأس، بل على إحياء الأمل، حيث يصلح العفريتان وضعَ «ست الحسن» بإحلال حسن بدر الدين محل السائس الأحدب ليلة الدخول بها، ويستطيع «شمس الدين» العثور على ابن أخيه.
ينبغي فهم الاختلاف بين نوعي الاستشفاء (ترميم اليأس وإحياء الأمل) بوصفه تخييلا للتراوح بين المنتهي الذي لا أمل في استعادته (المجد) والانتظار (الفرج). وربما كان هذا التراوح تجديلا بين عطالة أطر موجهة للفعل تحدد ما ينبغي فعله مستقبلا وممكنات الكائن الراهن غير المسعفة. ويكمن خلف هذا التجديل قصد التخييل الماثل في ما كان لا ينبغي أن يكون، والذي هو مرض التاريخ. ويتولد على هذا التجديل سؤال «كيف أدبر المتاح؟»، لا سؤال «ماذا أستطيع؟» كما صاغه بول ريكور.
القشة التي تتلاعب بها الأمواج هي الاستعارة الملائمة لتوصيف الذات وهي تعاني من مرض التاريخ. ومن ثمة يغيب تخييل العلة التي لامسناها في حكي الورطة، والمقصود بهذا عدم ملامسة التخييل في هذه الحكاية مكائد المرأة وسوء الدخيل.


٭ أكاديمي وأديب مغربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى