ميخائيل أوستينوف - نظريات الترجمة .. ترجمة: د محمد أحمد طجو

لقد أصبح للترجمة في العصر الحديث نظرية خاصة بها. هناك في الواقع عدة نظريات كما في الأدب أو اللسانيات. وسوف أقوم بعرض هذه النظريات عرضا موضوعاتيا عوضا عن تناولها الواحدة تلو الأخرى.
أهل المصدر وأهل الهدف
عندما نفتح ترجمة ما نقرأ عادة عبارة "ترجمها عن الإيطالية... "، أو عبارة "ترجمها عن المجرية..." الخ. إننا في الواقع نترجم دائما من لغة إلى أخرى (يتعلق الأمر أحيانا باللغة نفسها، ولكن في عصور مختلفة: تتطلب أغنية رولان Chanson de Roland la ترجمة إلى اللغة الفرنسية الحديثة لمن يجهل الفرنسية القديمة). وهكذا رأينا ظهور عبارات مثل source language (SL)التي نقلت إلى الفرنسية بعبارة langue source "لغة الأصل" أو بعبارة langue de départ (LD) " لغة الانطلاق"، وعبارة (TL) target language التي نقلت إلى الفرنسية بعبارة langue cible "لغة الهدف" أو بعبارة langue d'arrivée (LD) "لغة الوصول".
إننا نرى في المؤلفات المتعلقة بالترجمية مخططات شديدة التعقيد، تنجم كلها في الواقع عن الصيغة الأصلية:
لغة الانطلاق لغة الوصول
يرمز السهم إلى النقل اللغوي الذي تشكله الترجمة، والذي يؤكده أصل الكلمة ("traduire" "conduire" (ducere)"، "conduire de l'autre côté" (trans) =. ولذلك لم يختف التقابل بين اللفظ والمعنى، ولكنه يميل إلى التمركز حول مسألة اللغة: أهل المصدر من جهة وأهل الهدف من جهة أخرى (1). يفضل الطرف الأول "النص الأصل" فيما يفضل الطرف الثاني "النص الهدف" (أو ثقافة الأصل وثقافة الهدف، الخ). و حينما تصل وجهة نظر الطرف الأول إلى حدها الأقصى، فإنها تهدف إلى الوضوح المطلق: "أرى أن الترجمة تقوم على إنتاج نص واضح لدرجة أنه يبدو نصاً غير مترجم "(2).
إن كل تدخل لأحد تراكيب لغة الانطلاق يعتبر رعونة، لا بل عدم إتقان للغة الوصول. وينبغي على المدرس أن يدرب طلابه شيئا فشيئا على محو آثار"تداخل" اللغة الأم (لغة الانطلاق) مع اللغة الأجنبية (لغة الوصول). ونتعرف هنا على إشكالية درايدن Dryden حيث تكمن أناقة الترجمات في التقيد بحسن التصرف بالمعنى الذي كان يقصده فوجلاVaugelas. ويتساءل من ليس له إلمام بالموضوع: كيف نتصرف بخلاف ذلك؟
ومع ذلك، قد نغامر إذا ما ادعينا أن شاتوبريان Chateaubriandأو غوته Goethe، اللذين يوصيان بطريقة أخرى في الترجمة، لا يتقنا اللغة إتقانا كافيا، وهذا دليل على أن التقابل بين أهل المصدر وأهل الهدف يبقى غير كاف على الرغم من ملاءمته.
ولذلك، ليس من الضروري التسليم أنه لا يوجد سوى شكل واحد للترجمة الحقيقية. ففي نص شهير بعنوان " عن مختلف منهجيات الترجمة " ويعود إلى عام 1813، يميز فريدريك شلاير ماشر Friedrich Schleiermacher بين المنهجيتين التاليتين: " إما أن يدع المترجم الكاتب وشأنه ما أمكن ويجعل القارئ يتوجه للقائه، وإما أن يدع القارئ وشأنه ما أمكن ويجعله يتوجه للقائه"(3). إن طبيعة النص الذي نريد ترجمته هي التي تجعلنا من أهل المصدر أو من أهل الهدف.
زد على ذلك أن مفهوم الحركة هو الذي يهم، باعتبار أن الترجمة عملية ذات طبيعة ديناميكية وليست ساكنة. ففي تقديمه كتاب اسخيليوس المعنون أغاممنون (ترجمة نشرت في عام 1916، واستغرقت 15 عاما) يقترح ويلهلم فون هامبولت Wilhelem von Humboldt التمييز الرئيس التالي:" طالما أننا لا نشعر بالغرابة وإنما بالغريب، فإن الترجمة قد حققت هدفها السامي، ولكن حيثما تظهر الغرابة لذاتها، لا بل وتبهم حتى الغريب، فإن المترجم يوحي بأنه ليس على مستوى النص الأصل"(4). إن ذلك يعني السير بعكس الترجمات على الطريقة الفرنسية السائدة،
ولكن مفهوما كهذا يلتقي بها في وضع حد، وهو حد ربما يقوم على " رفض غرابة الغريب رفضا جذريا مثل رفض عرقية (5) ethnocentrismeالكلاسيكية الفرنسية"(6).
وكان هولدرلين H?lderlin الوحيد الذي تجاوزها من الرومانسيين مستبقا ظهور إزرا بوند Ezra Pound (7). إن حجج أهل الهدف لا تخلو مع ذلك من القوة. وأهمها التكافؤ: يميز يوجين نايداEugene E. Nida في كتابه نحو علم للترجمة Toward a Science of Translation (1964) (8) بين نوعين من التكافؤ: التكافؤ الشكلي الذي يقوم على نقل شكل النص الأصل نقلا آليا، والتكافؤ الديناميكي الذي يحول "النص الأصل" بحيث يحدث التأثير نفسه في "اللغة الهدف". ونايدا مختص في ترجمة التوراة. فعندما واجه حضارات مختلفة عن حضارتنا، تغلبت حجة تكافؤ التأثير على أي اعتبار: كيف يمكن أن نوضح رمز القمح الجيد والزؤان لهنود الصحراء الذين يرون أنه يجب طمر كل حبة وحمايتها بعناية وعدم بذرها بلا ترو؟ إن الاكتفاء بالحرفية يعني المجازفة بعوج distorsion جذري في المعنى: في هكذا حضارة، يعد البذار في حد ذاته فعلا شاذا، ولا يمكن بالتالي برأيه استخدام الكلمات نفسها.
إن "التكافؤ الدينامكي" مفهوم خاص بنايدا، وليس له معنى إلا عندما يتم ربطه بنظريته الخاصة بالترجمة. وبالمقابل، يمثل تكافؤ التأثير مفهوما أساسيا يتجاوز الخلاف بين أهل الهدف وأهل المصدر : ينبغي وضع تكافؤ التأثير في إطار أشمل، مبتدئين بانعكاساته لسانية الطابع.
اللسانيات والترجمة
ساهمت اللسانيات في نظرية الترجمة مساهمة هامة، كما حصل في مجال الدراسات الأدبية (تأيثر يلمسليف Hjelmslev في رولان بارت Roland Barthes مثلا) أو في العلوم الإنسانية كعلم السلالات (ليفي ستروس Lévi-Strauss على سبيل المثال)، أو التحليل النفسي (لاكان Lacan واللاشعور الذي يشبه في بنيته اللغة). وتمثل الترجمة بالنسبة إلى اللسانيين أهمية أساسية، كما أشار إلى ذلك رومان ياكوبسونRoman Jakobson : " التكافؤ في الاختلاف هو المسألة الأساسية في اللغة وموضوع اللسانيات الوحيد"(9).
يرى البعض أن سيادة اللسانيات أمر واضح: أصبحت الترجمة مجالا يتعلق باللسانيات العامة. فهكذا ينبغي فهم عنوان الكتاب الذي أصدره كاتفورد Catfordفي عام 1965 A Linguistic Theory of Translation (نظرية لسانية في الترجمة)(10). المنطق الذي يتبعه كاتفورد بسيط: الترجمة مسألة لغة، واللسانيات تدرس اللغة، إذاً الترجمة موضوع اللسانيات. ومن هنا جاء عنوان الكتاب الفرعي An Assay in Applied Linguistics: (دراسة في اللسانيات التطبيقية). الكلام على اللسانيات يعني الكلام على علم، إذ إن عنوان كتاب نايدا نحو علم للترجمة Toward a Science of Translation (1964) يندرج في هذا المنظور. لكن هكذا علم لم يكن بعد موجودا، ومن هنا جاءت عناوين مثل مدخل إلى نظرية الترجمة الذي نشر في عام 1958 للروسي أ. فيدروف (11)A. Fedorov. ويعتمد كل كاتب على نظرية لسانية خاصة به: يعتمد نايدا على النحو التوليدي-التحويلي لدى نعوم تشومسكي Noam Chomsky، وكاتفورد على أعمال فيرث J.R. Firth وهاليداي Haliday، إلخ.
ومع ذلك، سرعان ما أنكر المترجمون بحدة تلك السيادة التي منحت للسانيات، وخصوصا المترجمون الأدبيون. ويعد ادمون كيري Edmond Caryالناطق باسمهم. يقول كيري في كتابه كيف ينبغي أن نترجم?، الذي صدر في عام 1958 (12): " ليست الترجمة الأدبية عملية لسانية. إنها عملية أدبية". والواقع أن فيني وداربلنت J.-P. Vinay et J. Darbelnet يؤكدان في كتابهما الأسلوبية المقارنة للفرنسية والإنجليزية "أننا غالبا ما نقرأ لمترجمين مجربين أن الترجمة فن. إن هذه العبارة التي تنطوي على جزء من الحقيقة، تهدف مع ذلك إلى تحديد طبيعة موضوعنا تحديدا تعسفيا. فالترجمة في الواقع نسق دقيق، له تقنياته ومشكلاته الخاصة"(13).
ويؤلف جورج مونان Georges Mouninبين هاتين النظريتين في كتابه المشكلات النظرية في الترجمة (1963) بقوله: "يمكن القول، إذا ما تمسكنا بالأمر، إن الترجمة تبقى فنا كالطب. ولكنه فن يقوم على علم"(14). الترجمة عملية لسانية ولكنها أيضا عملية أدبية.
ويعود الفضل إلى اللسانيات في ظهور التعريفات الأولى المفصلة تفصيلا كافيا لعمليات الترجمة التي يلجأ المترجمون إليها، إذ إن معظم الكتابات أو الدراسات السابقة كانت تعرض عن ذلك. عندما قال شيشرون Cicéron إنه ينبغي ترجمة المعنى وليس الكلمات فإنه لم يسترسل في الموضوع. ولم يشرح درايدن Dryden كيف ننتقل من مبدأ قاعدة هوراس Horaceالتي تقول "Nec verbum verbo curabis reddere، fidus interpres" إلى الترجمة الأنيقة: "Nor word for word too faithfulluy translate"، أي لا تترجم أبدا كلمة بكلمة. ولم يدخل كل من غوته وهامبولت في بحث عميق للترجمات التي نظَّروا لها.
لقد تغير الوضع في القرن العشرين تغيرا جذريا: زود ازدهار اللسانيات منظري الترجمة بأدوات تحليل فعالة، وظهرت كتب تعليم الترجمة الأولى التي تتجاوز مرحلة التجريب. وأول هذه الكتب الأسلوبية المقارنة للفرنسية والألمانية بقلم ألفرد مالبلان Alfred Malblanc (الطبعة الأولى في عام 1944)(15)، وهو كتاب يرتكز على أعمال شارل بالي Charles Bailly، تلميذ فردينان دو سوسيرFerdinand de Saussure. وقد استوحى فيني وداربلنت في كتابهما الأسلوبية المقارنة للفرنسية والإنجليزية من كتاب مالبلان. والمنهج المتبع منهج استقرائي: ليست النظرية كافية وينبغي الانطلاق من الوقائع.
يتم الانطلاق من ترجمات نفذها مترجمون مهنيون. تقارن هذه الترجمات مع الأصول لدراسة التغييرات التي تم إدخالها. وتصبح نظرية الترجمة تفسيرية بعد أن كانت وصفية باعتبار أن أهم التطبيقات هو المجال التعليمي على المستوى الجامعي. ومهما كانت اللغات المتقابلة، فإنه لا يمكن إنكار مساهمات اللسانيات في الترجمة.

شعرية الترجمة
يؤكد جورج شتاينرGeorges Steiner في كتابه بعد بابل Après Babel، وهو كتاب أساسي عن الترجمة صدر في عام 1975، أن الترجمة (لاسيما ترجمة النصوص الأدبية) لا تختزل إلى البعد اللساني فقط. فمقارنة العنوان الفرعي الإنجليزي (1975) وترجمته الفرنسية (1978) تلخص إشكالية تحتية After Babel، Aspects of Language and Translation. وقد نقلت لوسيين لوترينجر Lucienne Lotringer العنوان الإنجليزي إلى الفرنسية على الشكل التالي: Après Babel. Une poétique du dire et de la traduction. أي: بعد بابل. شعرية القول والترجمة.
يستهل شتاينر كتابه بمثل من (1954) "Dichterisch Wohnet der Mensh" لمارتين هيدجر Martin Heidggerيقول: " يخطئ الإنسان عندما يعتقد أنه يسيطر على اللغة، في حين أنها هي التي تسيطر عليه"، ثم مثلا من "Las versiones Hoéricas" للكاتب خورخي لويس بورخيس Luis Borges(1957) يقول: " لا يمكن لأي مشكلة أن تكون ملازمة للآداب ولغموضها المتواضع ملازمة المشكلة التي تعرضها الترجمة"، ومثلا ثالثا يقول: " إن نظرية الترجمة ليست إذاً لسانيات تطبيقية. إنها حقل جديد في نظرية الأدب وممارسته. وتقوم أهميتها المعرفية على مساهمتها في ممارسة نظرية للاتحاد بين دال ومدلول خاص بالممارسة الاجتماعية التي تمثلها الكتابة". والمثل الأخير من كتاب هام لهنري ميشونيك Henri Meschonnic بعنوان من أجل الشعرية 2 (16)، الذي يفرض بذلك وجود شعرية للترجمة.
أما المثل الأول فيحيل إلى إرث الرومانسيين الألمان، لاسيما هامبولت الذي يرى فيه هيدجر رائدا ليس في اللسانيات فحسب، وإنما أيضا في فقه اللغة. فقد وضع التأمل في الترجمة في أعلى مستوى، وهو أمر لا يجري بسهولة لدى الجميع: يرى البعض أن نظرية الترجمة مجال ثانوي، إذ يركز المثل الثاني على تلازم الكتابة والترجمة، وهو تواز غالبا ما تم نكرانه. وتميل الرؤية السائدة إلى تفحص الترجمة من زاوية ما يطلق عليه أنطوان بيرمانAntoine Berman اسم "النقصان": كل نص مترجم ناقص بطبيعته. والنقص الرئيس هو" ثانويته": " هذا الاتهام القديم جدا، بأنه ليس الأصل، وأنه أقل من الأصل (يحدث الانتقال من تأكيد لآخر بسهولة)، كان جرح النفس الترجمية وأصل كل الذنوب". وقد كان جورج مونان أول من أتى بهذه الفكرة: "تتلخص كل الحجج ضد الترجمة في حجة واحدة: إنها ليست الأصل"(17). وينجم عن ذلك أنه إذا كان المقصود بالترجمة انتقال الأصل من دون أي تعديل إلى لغة أخرى، فإنه ينبغي التسليم باستحالة الترجمة، وهو تناقض أطلق عليه جان رونيه لادميرال اسم "إشكالية الاعتراض الاستباقي"، وأظهر بطلانه(18).
ويذهب المثل الثالث أبعد من ذلك فيلغي ضمنيا الثنائية التقليدية المتمثلة في الأصل والترجمة: "إذا كانت ترجمة نص مبنية كنص، فإنها تعمل كنص، وهي كتابة لقراءة- كتابة، ومغامرة تاريخية لشخص ما، وليست شفافية transparence بالنسبة إلى النص الأصل".(19) ولا يختلف هنري ميشونيك عن أنطوان بيرمان، فهو يبني نظريته في الترجمة على تيار فكري يبدأ بهامبولت وينتهي بهيدجر مرورا بوالتر بنيامينWalter benjamin ومقدمته الشهيرة (1923) لترجمة لشارل بودلير Charles Baudelaire عنوانها "مهمة المترجم")لوحات باريسية((20). وبوصفه مختصا بالتوراة مثل يوجين نايدا، يدحض ميشونيك من دون مجاملة نظريات هذا الأخير: " هذا ما يدين الترجمة) لغة الوصول(التي يمثلها "التكافؤ الديناميكي" الذي يستبدل ب "لا تجعل يدك اليسرى تعرف ما تفعله يدك اليمنى "اعمل بحيث لا يعرف حتى أقرب أصدقائك أي شيء عن عملك". إن كل ما يمت إلى النص يرجع هنا إلى ملفوظ، و كل ما هو متعدد المعنى إلى أحادي المعنى. هكذا يترجم شكسبيرShakespeare إلى الإنجليزية المعاصرة، ونحصل على الملفوظ وليس على شكسبير. إن الترجمة شكل من أشكال الكتابة: "تعمل" الترجمة اللاتينية للتوراة la Vulgate و ترجمة الملك جيمس King James Version كأثرين أدبيين(21).
ويتناول هنري ميشونيك التمييز بين "أهل المصدر" و"أهل الهدف " ليلغيه، فهو يرى أن هذا التقابل لا معنى له: "لا تعرَّف الترجمة بأنها انتقال من نص الانطلاق إلى أدب الهدف أو بالعكس انتقال قارئ الهدف إلى نص الانطلاق (حركة مضاعفة تقوم على ثنائية المعنى والشكل التي تميز تجريبيا كل الترجمات (وإنما بأنها عمل في اللغة، وإزاحة.(22) (وتلتقي وجهة النظر هذه مع وجهة نظر غوته. فترجمة أهل المصدر الصرفة أو الحرفية تقود إلى النسخ calque : "النسخ الشكلي الذي يقود إلى العوج اللساني"، وإلى الأيدولوجيا المزينة للكلمة. أما ترجمة أهل الهدف فإنها تجعل الأثر ثانويا وتدعنا نعتقد أنه كتب في لغة الترجمة فتخلق بذلك وهم" الطبيعي" و"الشفافية" الذي يميز الترجمات "الأنيقة" (23)، وبعبارة أخرى، الترجمات التي تلتزم بالموقف الوسط الذي عرفه درايدن، والتي تلغي العلاقة بين اللغتين - الثقافتين المتقابلتين. إن هكذا مفاهيم قد تبدو جذابة فكريا، ولكنها مفاهيم حكم عليها أن تبقى نظرية كليا. وهذا خطأ، كما تبين ذلك مثلا ترجمات دستويفسكي Dostoïevskiالمختلفة في فرنسا في عام 1968. تبنى أحد المترجمين، ويدعى مارك شابيرو Marc Chapiro، وجهة نظر أهل الهدف: " يطرح بطئ أسلوب دوستويفسكي الأصلي مشكلة يتعذر حلها. وقد كان من المستحيل تقليد جمله الكثيفة broussailleuses على الرغم من غنى محتواها"(24). ما العمل عندما تكون الجملة طويلة، وبطيئة، ومليئة بالتكرار، وخالية كليا من التناغم"؟ (25). يقوم الحل الأول، حرصا على الوضوح والأناقة، على حذف هذه الرعونات. أما الحل الثاني فيقوم على الإبقاء عليها، وهو ما فعله نابوكوف Nabokov لترجمة بطل من عصرنا (ليرمنتوف Lermontov) إلى الإنجليزية: "أولا، ينبغي التخلص نهائيا من الفكرة التقليدية القائلة إن الترجمة يجب أن تقرأ بسهولة"، وأن لا تعطي الانطباع بأنها ترجمة [...] ينبغي أن يعرف القارئ الإنجليزي أن أسلوب كتابات ليرمنتوف النثرية يخلو من الأناقة، وأن تشبيهاته واستعاراته في غاية الابتذال، وأن نعوته رواسم يعوضها عند الحاجة استخدامها الخاطئ، وأن التكرار في المقاطع الوصفية يغضب الصفائي. وينبغي أن ينقل المترجم كل ذلك بأمانة، على الرغم من الرغبة الكبيرة في سد الثغرات وحذف الحشو".(26) إن "التكرار" في حالة دستويفسكي يشكل جزءا من أسلوبه الخارج عن معايير الكتابة الأنيقة التي تميز عصره. وقد أعاد أندريه ماركوفيتش André Markowicz ترجمة دوستويفسكي إلى الفرنسية وفق هذا المنظور، وصدرت الترجمة عن دار بابل للنشر.
إن الثنائيات التقليدية التي تقابل بين الحرفية والجوهر، والشكل والمضمون، والأسلوب والمعنى، والأصل والترجمة، والمؤلف والمترجم تحيل في الواقع إلى رؤية ثنائية. لا يضاف الشكل إلى المعنى: إنهما غير قابلين للانفصال (27). إن شتاينر يجعل من بوند " Poundرائدا لم يكتشف بعد" (28). وهناك في الواقع نظريات أخرى تؤيد الممارسة التقليدية التي كان يرفضها درايدن، لاسيما في مجال الترجمة الشعرية. وينطبق ذلك على أوكتافيو باث (29) Octavio Pazأو إيفيم إتكند Efim Etkind (30) الذي يرى أن الترجمة-الإعادة هي الأفضل لأنها "تعيد تكوين المجموع، وتحافظ في الوقت نفسه على بنية الأصل"(31). وعند ذلك، نكون إلى جانب الترجمة بوصفها إبدالا شعريا transposition poétique تحدث عنه والتر بنيامين في "مهمة المترجم".
هل يعني هذا أن علم اللسانيات ونظرية الترجمة متعارضان؟ الأول بوصفه ثنائي، والثاني بوصفه غير ثنائي. يمكن القول، على العكس من ذلك، إنهما يكملان بعضهما بعضا بالتبادل. كان ياكوبسون يدرس ترجمة الشعر من زاوية لسانية بعبارات مشابهة: "النقل المبدع هو الشيء الوحيد الممكن فقط"(32).

نقد الترجمات
إذا كانت كمية الترجمات المنشورة في الولايات المتحدة وبريطانيا تصنف في غالبيتها العظمى من إنتاج "أهل المصدر" وعرقية (كما في مرحلة نابوكوف) كما يوضح ذلك لورنس فينوتيLawrence Venuti في كتاب غياب المترجم The Translator's Invisibility، فإن الاهتمام بالدراسات المتعلقة بالترجمة لاقى منذ الثمانينيات في العالم الأنجلو سكسوني شغفا بحيث أصبح نسقا مستقلا بذاته، كما يشير إلى ذلك سوزان باسنت Suzan Bassnett وأندريه لوفيفر André Lefevre: "إن تطور علم الترجمة بوصفه نسقا مستقلا نجاح هام في الثمانينيات"(33). ويكفي للاقتناع بذلك البحث عن "دراسات ترجمية"(34) في محركات البحث على الأنترنت، والحصول على ما لا يقل عن 24000 مدخل. ظهر مصطلح "الترجمية" الذي ابتدعه الكندي بريان هاريس Brian Harrisفي عام 1972. ويتفرع عنه 2660 مدخلا. وأول مدخل هو الرابطة الكندية للترجمية في جامعة أوتاوا: تتمتع كندا بصفتها دولة ثنائية اللغة بخبرة طويلة إن على صعيد الممارسة أو على صعيد النظرية: فيني وداربلنت كنديان. أما المداخل الأخرى فتغطي فرنسا والدول الفرانكوفونية الأخرى. وإذا ما تابعنا البحث تحت العناوين traductologia و traduttologia و ubersetzungswissenschaft، الخ، فإننا سوف نلاحظ توسع مجال الدراسة الذي نما لتوه، ويشمل ذلك فرنسا.
لا وجود لنظرية للترجمة من دون نظرية للترجمات، و إلا فإننا ننظر في الفراغ. فعلى العكس من اليوم، كان الأدب العالمي Weltliteratur في عهد غوته يكتب بعدد محدود من اللغات. وحتى إذا ما توقفنا عند القرن التاسع عشر، فإن الحيز الذي تشغله الترجمات هائل. كيف يمكن ترتيب مجموع كهذا؟ إن ذلك ممكن بفضل مفاهيم نظرية مثل "نقد الترجمات" الذي اقترحه أنطوان بيرمان في كتاب من أجل نقد الترجمات: جون دون John Donne. ينبغي ألا تكون الترجمات مادة نقد سلبي فقط (يتلخص غالبا في القول المأثور "المترجم خائن" وفي حساب الربح والخسارة مقارنة بالنص الأصل)، وإنما أيضا مادة نقد إيجابي: "ألا يتمثل هدف الترجمة ليس فقط في نقل الأصل وفي تقديم نسخة عنه، وبالتالي في تأكيد أنها ثانوية، وإنما أيضا في أن تكون أثرا، وأثرا بقوة القانون?. تكمن المفارقة في أن الهدف الثاني، أي بلوغ الاستقلال واستمرارية الأثر لا يناقض الهدف الأول بل يدعمه"(35). إن الترجمات روايات كاملة العضوية عن الأثر الذي تستمد منه، وليس الأصل سوى رواية أصلية بين روايات أخرى، ذلك هو الرأي الذي عرضه بورخيس في روايات هوميروس "Las versions Homéricas". ويتكلم ميشونيك على" ترجمة- نص: مثلما هنالك نقد للنصوص، لابد من وجود نقد للترجمات، إذ لا ينفصل أحدهما عن الآخر."
إن الترجمة – النص لا تظهر من العدم ex nihilo، إنها تفترض حضور مترجم تحدده ثلاثة عوامل: موقفه الترجمي، أي الطريقة التي يتصور بها النشاط الترجمي، ومشروعه الترجمي الذي يحدد الطريقة التي يترجم بها، وأخيرا "أفق المترجم". وقد تمت استعارة هذا المصطلح من التأويلية المعاصرة التي تؤدي إلى غادامرH. G. Gadamar وريكور Paul Ricoeur انطلاقا من هوسرل Husserl وهيدجر Heidgger، مرورا بالتـأويلية الأدبية التي يمثلها ياوس H. R. Jausse: "يمكن تعريف الأفق في مقاربة أولى بأنه مجموع الثوابت اللغوية والأدبية والثقافية والتاريخية التي تحدد شعور مترجم وفعله وتفكيره"(36). ولا يمكن لتحليل الترجمات أن يكون كاملا فعلا إلا عندما يتموضع على مستوى هذه المستويات الثلاثة، إذ إن المستوى الثالث يشمل المستويين الأوليين، وتبدو المقدمات والتعليقات والمقالات والحوارات والمعطيات النصية الملحقة الأخرى جوهرية للتحليل. فالمترجم ينمحي تقريبا حسب موقفه الترجمي الذي يتبناه (موقف القديس جيرومsaint Jérome في ترجمة التوراة يختلف عن موقف هودار دولاموت Houdar de la Motte في ترجمة هوميروس)، الأمر الذي يوجه "مشروعه الترجمي" (التزام الحرفية في حالة ما، وإنتاج " نص خداع" في أخرى)، إذ يرتبط هذان البعدان ب"أفق المترجم": تختلف طريقة الترجمة في عصر النهضة عن طريقة الترجمة في القرن التاسع عشر، ويمكن أن توجد عدة طرق للترجمة في الحقبة نفسها (انظر الفصل السابق)، فالأفق ليس بالضرورة موحدا.
إن هكذا نظريات لا تطبق إلا على الحضارة الغربية أو اليهودية - النصرانية: هذه حالة الصين على سبيل المثال. جرى نقاش مهم في عام 1955 بخصوص الترجمات الصينية لرواية ستاندالStendhal الأحمر والأسود (أكثر من 15 ترجمة في غضون بضع سنوات)، درسها يوان كزياوي Yuan Xiaoyi(جامعة نانجينغ Nanjing) في مقاله الموسوم ب "حوار القرن: الأمانة أو إعادة الإبداع؟".(37) يقول كزو جونXu Jun في مقال آخر نشر في مجلة ميتا Meta (التي تصدرها جامعة مونتريال Montréal) تحت عنوان "تأملات في المشكلات الرئيسية في الترجمة" (38): " إن تاريخ الترجمة في الصين لا يتبع التسلسل التاريخي نفسه في فرنسا. لكن الأصوات المنادية بالترجمة "الحرة" و"المباشرة" (كمرادف للترجمة الحرفية) موجودة أيضا في فرنسا في كل العصور"(39). يقول جون، "يذكر الحوار (على الصعيد القومي) بالحوار الذي رافق ترجمة ماركوفيتش Markowicz الجديدة كليا لدستويفسكي "Destoïvski (40): من جهة، هناك الترجمات التي تنزع إلى تطبيع النص في اللغة – الثقافة الصينية والتي تتسم بالأناقة، والترجمات الغريبة التي لا تسعى إلى تطبيع النص في اللغة- الثقافة المستقبلة. يقول جون أيضا: "إن إعادة الترجمة ليست ظاهرة خاصة بالصين، وإنما ظاهرة كونية" (41).
الهوامش
(*) هذه ترجمة للفصل الثالث من كتاب الترجمة La traduction الصادر عن المطابع الجامعية الفرنسية PUF في عام 2003.
(1) Voir Jean René Ladmiral, Sourciers et ciblistes, Revue d'esthétique, N° 12, Toulouse, Privat, 1986, P; 33-42.
(2) Cité par Lawrence Venuti, op. cit., P. 1
(3) Traduit Par Antoine Berman, in Les tours de Babel, op. cit., P. 303.
(4) Wilhelem von Humboldt, Sur le caractère national des langues et autres écrits sur le langage, éd. Trad. Denis Thourad, Paris, Le Seuil, 2000, P, 39.
العرقية نزعة في الإنسان لإعلاء شأن قومه وبلده (المترجم)(5)
(6) Antoine Berman, L'épreuve de l'étranger, op. cit. P. 248.
(7) Voir Antoine Berman, H?lderlin, ou la traduction comme manifestation, in Les tours de Babel, op. cit, P. 93-109.
(8) Eugen E. Nida, Toward a Science of Translation, Leyede, Brill, 1964
(9) Roman Jakobson, Aspects linguistiques de la traduction, op. cit. P. 80.
(10) John Catford, A linguistics Theory of Translation, Londres, Oxford University Press, 1965.
(11) A. V; Fedrov, Vvedenie v teorju perevodova, Moscou, Institu des littératures en langue étranère, 1958.
(12) Edmond Cary, Comment faut-il traduire? (12958), Lille PUL, 1985, P. 8.
(13) J.P. Vinay, J. Darbelnet, Stylistique comparée du français et de l'anglais, op. cit., P. 23.
(14) Georges Mounin, Problèmes théoriques de la traduction, Paris, Gallimard, 1963, P.16-17.
(15) Alfred Malblanc, Stylistique comparée du français et de l'allemand (1944), Paris, Didier, 1968.
(16) Henri Meschonnic, Pour la poétique II. Epistémologie de l'écriture. Poétique de la traduction, Paris, Gallimard, 1973.
(17) Georges Mounin, Les belles Infidèles, op. cit. p. 13.
(18) Voir Jean-René Ladmiral, Théorèmes pour la traduction, Paris Payot, 1979, P; 85 et s.
(19) Henri Meschonnic, Pour la poétique II, op. cit. P. 307.
(20) Walter benjamin, la tâche du traducteur, in Mythe et violence, trad. M. de Gandillac, Paris, Den?l, 1971, (Heidelberg, 1923).
(21) Henri Meschonnic, Pour la poétique II, op. cit., p. 306
(22) Henri Meschonnic, Pour la poétique, op. cit., p. 313-314.
(23) Ibid., P. 449.
(24) Cité par Henri Meschonnic, Ibid. P. 317.
(25) Ibid., P. 316.
(26) Vladimir Nabokov, Translator's Foreword, Mikhail Lermontov. A Hero of our Time (1958), Londres, Everyman, 1992, p. 7.
(27) Voir Henri Meschonnic, op. cit. p. 311 et Paul Ricoeur, La métaphore vive, Paris, Le seuil, 1975.
(28) Voir Henri Meschonnic, op.cit., p. 323.
(29) Voir Octavio Paz, Tradu?tion: litteratura y literalidad, Barcelone, Tusquets, 1971.
(30) Voir Efim Etkind, Un art en crise. Essai de traduction poétique, Lausanne, L'Age d'homme, 1982.
(31) Efim Etkind, cité par Inës Oseki-Dépré, op. cit., p. 89.
(32) Roman Jakobson, Aspects linguistiques de la traduction, op.cit., p. 86.
(33) Préface, Lawrence Venuti, The Translator's Invisibility, op. cit., p. VII.
(34) Voir Suzan Basnett, Translation Studies, Londres, Menthen, 1980.
(35) Antoine Berman, Pour une critique des traductions: John Donne, op. cit., p. 42.
(36) Ibid., p. 79.
(37) Yuan Xiaoyi, Débat du siècle: fidélité ou recréation?, in revue Meta,1, 1999.
(38) Xu Jun, Réflexion sur les problèmes fondamentaux de la traduction, revue Meta, 1, 1999.
(39) Ibid., p. 47.
(40) Ibid., p. 50.
(41) Ibid., p; 51.
عن :
"مجلة التعريب"، العدد 28، يونيو 2005



* أستاذ مشارك في كلية اللغات والترجمة/ جامعة الملك سعود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى