طرقت الباب مرتين بتردّد، وهي تحتبس أنفاسها بين الفينة والأخرى والعرق يسيل بحذر على وجنتيها.
هل تطرق الباب مجدّداً...أم تعود أدراجها إلى البيت، وبجرأةٍ قالت في نفسها: نعم وإن يكن ماذا سيحدث أكثر بعد...
وفي المرة الثالثة صفعت الباب بقوّة كأنما تصفع ماضياً خذلها بقوّة.
وفجأة...
فتح الباب رجلٌ ضخمٌ، جاحظ العينين، يتسمّر في وجهه العبوس. فقالت له: السلام عليكم يا سيادة القاضي! كيف حالك؟ فأجابها بسخرية: مَن أم محمّد؟! ها قد رجعتِ مرّة أخرى، أسمعت بنصيحتي وتزوّجتِ لتعيلي أطفالك التسعة وحماتك؟
ابتلعت ما قاله على مضض وأجابته: لا أريد أن أتزوّج مرّة أخرى. فقاطعها: لماذا لا! ما زلتِ في ريعان شبابك وجميلةٌ أنتِ، فما المشكلة إذاً؟
فقالت له: إنني لا أبغى الزواج مرّةً أخرى، أريد أن أربّي أطفالي اليتامى ولا أريد سوى بعض المساعدة منكَ أيّها القاضي لكي أستطيع توفير لقمة العيش لهم.
فسألها القاضي: وأين أهلكِ؟
فردّت أم محمّد وقلبها يعصره الأنين: تخلّى عنّي أهلي لأنني رفضت الزواج مرّةً أخرى بعد وفاة زوجي رحمه الله. وأخبروني بأنني إن لم أتزوّج بمن يعيلني وأطفالي، فسوف يتخلّون عنيّ، ويتركونني وحيدة، لأنّهم يرون أنّ شرف المرأة يكمن في سترها بالزواج.
سكتَ القاضي لبرهةٍ وقال لها بسخرية: وما دُمت لا تبغين الزواج، إذهبي وأطعمي عيالكِ بنفسك.
فردّت عليه أم محمّد والدمع يسيل من القلب قبل العين: لا تريد مساعدتي، وإن يكن! ولكنني أدعو الله أن يغنيني عن الناس أجمعين، ويحاسب أمثالك يوم الدين.
فدبّت كلماتها بأذنيه كالصاعقة، ثم أغلق باب السائل وقلبه يعجّ بالحجارة التي تأبى الانكسار.
ابتعدت عن بيت القاضي الذي كان يسكن بجوارها في حيّ المبلّطة في عكا، وأخذت تهرول إلى البيت لكي تُطعِم ابنتها الرضيعة التي ولدت قبل وفاة زوجها بأسبوعين. وفي خطواتها تجتمع ألف قطرة حنينٍ إلى زوجها الراحل، فجعلت تناجيه بروحها: إلى مَن تركتني يا قرّة عيني، أموج في بحرِ الحياة وحيدة، بدون رفيق ولا معين. لقد غاب الأهل والأصحاب وتفرّست الذئاب من حولي، سلبونا الأرضَ والطريق. وأسكنونا أنا وأطفالي التسعة وأمّك في بيتٍ يكاد أن ينهار. أجبني ماذا أفعل؟ كيف أطعم لحمك؟ قل لي: إلى أين سأذهب بعد وأطلب المساعدة، والكلّ قد تخلّى عنّي؟!
لقد رحلتَ مع الربيع وألبست فتاتك الصغيرة عباءةً ثقيلة تكبرها بعشرات السنين.
وعندها أخذت ذاكرتها تبحر عباب الماضي الذي تحنّ إليه من الصميم.
فبعد أن تزوّجت أم محمّد في الحادية عشرة من عمرها، عاشت مع زوجها عشر سنوات، كانت من أجمل أيام حياتها. لقد كان زوجها، الإبن الوحيد الذي تبقّى لأمّه بعد أن فقدت زوجها وكل أطفالها الآخرين، اللذين كانوا قد ماتوا صغارا،ً لا تتعدّى أعمارهم الثلاث سنوات.
ولهذا بقيت الأمّ الثاكلة تعيش مع ابنها وعائلته إلى أن توفيّ وهو لم يبلغ بعد ثمانيةً وعشرين ربيعاً. عندها أرادت الأم العجوز أن ترحل لتعيش وحدها في المزرعة - التي كانوا يقضون فيها عطلة الصيف- وهذا خشية أن تُثقل الحِمل أكثر على زوجة ابنها المسكينة.
لكنّ أم محمد أبَت ذلك وأغرقت نفسها بالبكاء لكي تبقى جدّة أطفالها معها. تُعينها ولو بكلمةٍ تبلسم جراح الحياة.
ومع أنّ أم محمّد ما زالت نفساء، ونيران الحرب والتهجير تعصف بالمدينة، خرجت لكي تبحث عن عمل تُعيل به أبنائها الصغار، أو ربّما تجد من يساعدها ولو قليلاً. توجّهت لجميع أئمة المساجد في المدينة فرفضوا مساعدتها، مدّعين أنّ دائرة الشؤون الإجتماعيّة تستطيع مساعدة الأرامل. فأبت الاستسلام واستمرّت في المحاولة، حيث توجّهت إلى هناك طالبةً المساعدة، فأخبرتها دائرة الشؤون الإجتماعيّة أنّهم يستطيعون المساعدة بوضع اثنين من أبنائها في ملجأ للأيتام. عندها انقسم قلبها إلى نصفين ورجعت إلى أطفالها منكسرة، تائهة، لا تدري ماذا تفعل. أتبلع حزنها على فراق اثنين من فلذات أكبادها، لكي تُطعم الباقين إن استطاعت. أم تجوع ويجوع معها أطفالها كلّهم. وفي صباح اليوم التالي قرّرت مع الجدّة اصطحاب طفلين من أطفالها إلى ملجأ الأيتام، فخرجت والجدّة تتثاقل خطواتهما إلى الأمام مرّةً وإلى الوراء مرّات والحزن يعصف قلبيهما. وعندما وصلوا إلى الملجأ جاء رجلٌ يريد استلام ابنيها منها. فبدأ صراخ الأطفال وبكاؤهم ينتزع قلب الأم والجدّة. عندها صاحت الجدّة بحرقة: لا يا أمّ محمّد، ما تفرطيش بلحمك، وما تخلّيهن يوخذوا اولادنا منّا، الله خلقنا هو اللي بعينّا وما بنسانا.
فانتفضت أم محمّد والدموع تجري منها كالأنهار، وركضت نحو طفليها الباكيين وعانقتهم بقوّة وقالت لهم: هيا يا أحبائي، فلنرجع إلى البيت والله لن ينسانا.
من قسوة الماضي إلى قسوة الحاضر تداعت لأم محمد كل تلك الأحداث في طريق عودتها إلى البيت بعد أن ردّها القاضي خائبةً، ولم يساعدها حتىّ ولو بكلمة يطيب لها الخاطر.
وقبل أن تصل إلى البيت توجّهت إلى البحر عسى أن يبرّد عليها نسيمه مآسي الحياة.
وهي واقفةٌ هناك على إحدى الصخور، هبطت على كتفها حمامة بيضاء وهدلت في أذنها كلماتٍ لم تفهمها وطارت الحمامة إلى البعيد. عندها أدركت أم محمّد أنّ الله معها، ولن يتركها وحيدة، وهي بذاتها كأم، تحمل رسالة كبيرة عليها أن تنثرها على الأنام مهما قست الظروف..
وما هي إلاّ لحظات حتّى سمعت صوت الأذان الذي انسكب كالبلسم على جروحها، وبعده سمعت صوت المؤذّن يقول: انتقل إلى رحمته تعالى قاضي المدينة..... إنّا لله وإناّ إليه راجعون.
- عكا
هل تطرق الباب مجدّداً...أم تعود أدراجها إلى البيت، وبجرأةٍ قالت في نفسها: نعم وإن يكن ماذا سيحدث أكثر بعد...
وفي المرة الثالثة صفعت الباب بقوّة كأنما تصفع ماضياً خذلها بقوّة.
وفجأة...
فتح الباب رجلٌ ضخمٌ، جاحظ العينين، يتسمّر في وجهه العبوس. فقالت له: السلام عليكم يا سيادة القاضي! كيف حالك؟ فأجابها بسخرية: مَن أم محمّد؟! ها قد رجعتِ مرّة أخرى، أسمعت بنصيحتي وتزوّجتِ لتعيلي أطفالك التسعة وحماتك؟
ابتلعت ما قاله على مضض وأجابته: لا أريد أن أتزوّج مرّة أخرى. فقاطعها: لماذا لا! ما زلتِ في ريعان شبابك وجميلةٌ أنتِ، فما المشكلة إذاً؟
فقالت له: إنني لا أبغى الزواج مرّةً أخرى، أريد أن أربّي أطفالي اليتامى ولا أريد سوى بعض المساعدة منكَ أيّها القاضي لكي أستطيع توفير لقمة العيش لهم.
فسألها القاضي: وأين أهلكِ؟
فردّت أم محمّد وقلبها يعصره الأنين: تخلّى عنّي أهلي لأنني رفضت الزواج مرّةً أخرى بعد وفاة زوجي رحمه الله. وأخبروني بأنني إن لم أتزوّج بمن يعيلني وأطفالي، فسوف يتخلّون عنيّ، ويتركونني وحيدة، لأنّهم يرون أنّ شرف المرأة يكمن في سترها بالزواج.
سكتَ القاضي لبرهةٍ وقال لها بسخرية: وما دُمت لا تبغين الزواج، إذهبي وأطعمي عيالكِ بنفسك.
فردّت عليه أم محمّد والدمع يسيل من القلب قبل العين: لا تريد مساعدتي، وإن يكن! ولكنني أدعو الله أن يغنيني عن الناس أجمعين، ويحاسب أمثالك يوم الدين.
فدبّت كلماتها بأذنيه كالصاعقة، ثم أغلق باب السائل وقلبه يعجّ بالحجارة التي تأبى الانكسار.
ابتعدت عن بيت القاضي الذي كان يسكن بجوارها في حيّ المبلّطة في عكا، وأخذت تهرول إلى البيت لكي تُطعِم ابنتها الرضيعة التي ولدت قبل وفاة زوجها بأسبوعين. وفي خطواتها تجتمع ألف قطرة حنينٍ إلى زوجها الراحل، فجعلت تناجيه بروحها: إلى مَن تركتني يا قرّة عيني، أموج في بحرِ الحياة وحيدة، بدون رفيق ولا معين. لقد غاب الأهل والأصحاب وتفرّست الذئاب من حولي، سلبونا الأرضَ والطريق. وأسكنونا أنا وأطفالي التسعة وأمّك في بيتٍ يكاد أن ينهار. أجبني ماذا أفعل؟ كيف أطعم لحمك؟ قل لي: إلى أين سأذهب بعد وأطلب المساعدة، والكلّ قد تخلّى عنّي؟!
لقد رحلتَ مع الربيع وألبست فتاتك الصغيرة عباءةً ثقيلة تكبرها بعشرات السنين.
وعندها أخذت ذاكرتها تبحر عباب الماضي الذي تحنّ إليه من الصميم.
فبعد أن تزوّجت أم محمّد في الحادية عشرة من عمرها، عاشت مع زوجها عشر سنوات، كانت من أجمل أيام حياتها. لقد كان زوجها، الإبن الوحيد الذي تبقّى لأمّه بعد أن فقدت زوجها وكل أطفالها الآخرين، اللذين كانوا قد ماتوا صغارا،ً لا تتعدّى أعمارهم الثلاث سنوات.
ولهذا بقيت الأمّ الثاكلة تعيش مع ابنها وعائلته إلى أن توفيّ وهو لم يبلغ بعد ثمانيةً وعشرين ربيعاً. عندها أرادت الأم العجوز أن ترحل لتعيش وحدها في المزرعة - التي كانوا يقضون فيها عطلة الصيف- وهذا خشية أن تُثقل الحِمل أكثر على زوجة ابنها المسكينة.
لكنّ أم محمد أبَت ذلك وأغرقت نفسها بالبكاء لكي تبقى جدّة أطفالها معها. تُعينها ولو بكلمةٍ تبلسم جراح الحياة.
ومع أنّ أم محمّد ما زالت نفساء، ونيران الحرب والتهجير تعصف بالمدينة، خرجت لكي تبحث عن عمل تُعيل به أبنائها الصغار، أو ربّما تجد من يساعدها ولو قليلاً. توجّهت لجميع أئمة المساجد في المدينة فرفضوا مساعدتها، مدّعين أنّ دائرة الشؤون الإجتماعيّة تستطيع مساعدة الأرامل. فأبت الاستسلام واستمرّت في المحاولة، حيث توجّهت إلى هناك طالبةً المساعدة، فأخبرتها دائرة الشؤون الإجتماعيّة أنّهم يستطيعون المساعدة بوضع اثنين من أبنائها في ملجأ للأيتام. عندها انقسم قلبها إلى نصفين ورجعت إلى أطفالها منكسرة، تائهة، لا تدري ماذا تفعل. أتبلع حزنها على فراق اثنين من فلذات أكبادها، لكي تُطعم الباقين إن استطاعت. أم تجوع ويجوع معها أطفالها كلّهم. وفي صباح اليوم التالي قرّرت مع الجدّة اصطحاب طفلين من أطفالها إلى ملجأ الأيتام، فخرجت والجدّة تتثاقل خطواتهما إلى الأمام مرّةً وإلى الوراء مرّات والحزن يعصف قلبيهما. وعندما وصلوا إلى الملجأ جاء رجلٌ يريد استلام ابنيها منها. فبدأ صراخ الأطفال وبكاؤهم ينتزع قلب الأم والجدّة. عندها صاحت الجدّة بحرقة: لا يا أمّ محمّد، ما تفرطيش بلحمك، وما تخلّيهن يوخذوا اولادنا منّا، الله خلقنا هو اللي بعينّا وما بنسانا.
فانتفضت أم محمّد والدموع تجري منها كالأنهار، وركضت نحو طفليها الباكيين وعانقتهم بقوّة وقالت لهم: هيا يا أحبائي، فلنرجع إلى البيت والله لن ينسانا.
من قسوة الماضي إلى قسوة الحاضر تداعت لأم محمد كل تلك الأحداث في طريق عودتها إلى البيت بعد أن ردّها القاضي خائبةً، ولم يساعدها حتىّ ولو بكلمة يطيب لها الخاطر.
وقبل أن تصل إلى البيت توجّهت إلى البحر عسى أن يبرّد عليها نسيمه مآسي الحياة.
وهي واقفةٌ هناك على إحدى الصخور، هبطت على كتفها حمامة بيضاء وهدلت في أذنها كلماتٍ لم تفهمها وطارت الحمامة إلى البعيد. عندها أدركت أم محمّد أنّ الله معها، ولن يتركها وحيدة، وهي بذاتها كأم، تحمل رسالة كبيرة عليها أن تنثرها على الأنام مهما قست الظروف..
وما هي إلاّ لحظات حتّى سمعت صوت الأذان الذي انسكب كالبلسم على جروحها، وبعده سمعت صوت المؤذّن يقول: انتقل إلى رحمته تعالى قاضي المدينة..... إنّا لله وإناّ إليه راجعون.
- عكا