عبد الوهاب الفقيه رمضان - السبيل الوحيد لإنقاذ لغتنا العربية

حدث لي مرة أنني احتجت لسكانار لحاجة ملحة بل شديدة الإلحاح بخصوص عمل كلفت به وله مردود أدبي هام ومردود مالي لجيبي الخاص غير هام . وحين طفت بمحلات بيع الأدوات الإعلامية محي من ذاكرتي لفظ سكانار محوا تاما وبقي عالقا في ذاكرتي لفظ ماسح ضوئي . لم أجد صاحب محل واحد لبيع الأدوات الإعلامية فهم مقصدي . والحال أنهم جميعا يملكون سكانارا للبيع والجواب دائما "ليس لدي" . فيهم واحد كان ذكيا وفطنا فسألني ما هذا الماسح الضوئي وما هي استعمالاته وحين وصفت له الأمر مدني بواحد . اللغة ليست ألفاظا في المعاجم والموسوعات ، اللغة ليست في أشعار ونصوص قائلوها صاروا ترابا ، اللغة وسيلة تعامل يومي ، كالنقود . لو عثرت عائلة على ثروة في زمانها خبأها أحد جدودهم القدامى فقدموا هذه الثروة لبنك فهل تراهم يستفيدون منها ، استفادة واحدة لو قبلها متحف من المتاحف ، ولكن المتحف يحتاج بعض الأوراق أو القطع لا مجموع ما عثروا عليه . أينما التفتت ما وجدت معجما عربيا أصيلا يفي بالحاجة في التعداد أو الوصف لا في غرفة النوم ولا في قاعة الجلوس ولا في المطبخ ولا في المكتب العائلي إن وجد مكتب في المنزل وللمكتب معنيان وهو البيرو الغرفة المخصصة للقراءة والكتابة هي أيضا المنضدة المخصصة للكتابة . المعجم العربي الأصيل لا يفي بتعداد ووصف ما يوجد في المطبخ ولا حتى ما يوجد في التواليت لسائل أن يسأل لماذا التواليت ولدينا في اللسان العربي لفضان المرحاض والكنيف .. لكن هل المرحاض والكنيف هو التواليت .. هذا الذي يسمى بالفيانو المركب الصحي أحيانا فيه ما يريح أكثر مما يتوفر في غرف نوم البعض . روائح عطرة لا تجدها في دكاكين الكوافير والمزينين موسيقى هادئة لا تسمعها لا في تلفاز ولا في يوتوب أحيانا مكتبة كاملة من كتب ومجلات وجرائد تنسي صاحب الحاجة حاجته الأصلية . أما القائمات التي تقدم في المطاعم بلسان غير اللسان العربي ، قبل الحديث في هذا الشأن هل مازال ثمة مطعم فاخر عربي وله مطبخ عربي ويقدم طعاما عربيا ، وإن وجد فهل هو طعام تونسي أم جزائري أم مغربي أو ليبي أم موريتاني ويتعدد بتعدد الدول العربية أحيانا طعام واحد له تسميات مختلفة على عدد الدول العربية فأي الأسماء تذكر والحال أن المطعم معدّ ليرتاده خلق الله من كل دول العالم . أما الشأن العلمي فحدث ولا حرج ، هل تمكن العرب من توحيد المصطلحات العلمية في الرياضيات والفيزياء وعلم الأحياء من إنسان وحيوان ونبات .. النبات أحيانا صنف من الغلال أسماؤه تختلف أيضا على عدد الدول العربية . في المهدية التونسية اعتاد الأهالي على أكلة في فصل الربيع تعد بنبات يسمى عن أهل المهدية البندلاقة واللفظ تحريف أو تعريب لاسمها العلمي Porptulaca وهي في كتب العرب الذين اعتنوا بالأطعمة والأغذية والأعشاب الطبية تسمى الرجلة وتسمى أيضا البقلة الحمقاء . لو قال ساكن المهدية للبائع أعطني حزمة رجلة أو قال : أعطني حزمة بقلة حمقاء فلربما نشبت معركة تسيل فيها الدماء ظنا من البائع أن الحريف يهزأ به ، ولو لم يحدث هذا فسيصبح هذا الحريف المتمسك باللسان العربي الفصيح محل استهزاء وتندر وأقل ما يقال عنه أنه متحذلق . لنعترف جميعا أن اللغة العربية التي ألفاظها بين دفتي المعجم هي لغة الأدب يتعامل بها أهل الاختصاص في الأدب كما يتعامل أهل الاختصاص في مجالات علمية كل بمعجمه الخاص ، مع أن ثمة كلمات تدخل في المعجم العام وربما حتى في لغة التخاطب اليومي ، وقديما قيل عن تلك اللغة اليومية أنها لغة سوقية والمقصود الاستهانة بها والحال أن اللغة السوقية تعني لغة السوق وكلنا في حاجة إلى لغة السوق أكثر من حاجتنا إلى لغة العلم ولغة الأدب في تعاملنا اليومي مع الخباز والخضار والجزار وحتى مع بائع الأدوات الإعلامية مادام هذا البائع لا يعرف معنى لكلمة ماسح ضوئي ويعرف المعنى لكلمة سكانار لأن سكانار لغة من صنع السكانار وقائل ماسح ضوئي لم يصنع ماسحا ضوئيا .
لكل لغة معجم تاريخي يحدد معنى اللفظ حسب كل عصر من العصور ، ونحن العرب نفتقد هذا المعجم . مثلا كلمة صاروخ معناها مألوف في عصرنا الحالي ولكن لنفس اللفظ معاني مختلفة حسب أزمنة سابقة ، من هذه المعاني :
اللفظ المعنى المرجع
صاروخ أبو آزر التوضيح لشرح الجامع الصحيح
صاروخ يصرخ كنز العمال
صاروخ ومصروخ تفسير اللباب
مستغيث البحر المحيط

كذلك دراجة معناها مألوف ، لكن للدراجة معنى آخر في لغة العرب وهو مؤنث دراج ، طائر شبيه بالدجاج يؤكل ولحمه لذيذ ، سيارة وهي وسيلة النقل المألوف معناها ، لكن السيارة التي أنقذت يوسف عليه السلام معناها مختلف . أما شان اللغة العربية مع العلم فهو لم يحسم بعد . الذرة التي معناها محدد في الفيزياء والكيمياء كان معناها عند الإغريق في سالف الزمان أنها الجزء من المادة الذي لا ينقسم ، وهذا تصور ذهني إلى الفلسفة أقرب منه إلى العلم ، لكن في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بدأت ملامح هذا الجزء من المادة يأخذ معناه العلمي الدقيق ، ولفظ الذرة ورد في القرآن ، يوجد من يريد أن يقنع بأن هذه الذرة التي يتعامل معها الفيزيائيون والكيمائيون هي نفس الذرة التي ذكرت في القرآن ، وهذا إسقاط في غير محله ، فالقرآن أشار إلى المتناهي في الصغر وكل يقيس حسب قياسات زمانه ، وللذرة معاني أخري عند العرب ، ذرة تراب ، الذر نوع من الكائنات الحية الصغيرة جدا .. وغيرها من المعاني .. وهذا لا يتنافى مع غرض القرآن في استعمال اللفظ مهما كان المعنى في أي زمن كان ، لأن الغرض هو أصغر الأصغر . لكن الهباءة فيها التباس واختلاف حسب المدارس وهذا ما شتت العرب في مجال العلم ، وأصبح العربي أسهل لديه أن يأخذ المعنى المتعلق بعلم ما من غير العربي على أن يأخذه من العربي ، إذ لم يتحد العرب في المصطلح العلمي ، وهذا إشكال كبير . لا تقدم للعرب علميا ولا تصبح اللغة العربية لغة علم إلا إذا كان المصطلح العلمي واحدا في اللسان العربي شرقا ومغربا ، "الموليكيل" عند بعض العرب جزيء وعند بعض العرب هباءة .. زد على ذلك المصطلحات الرياضية دول الاستعمار الإنجليزي له مصطلحات أقرب إلى الأنجلوسكسونية ودول الاستعمار الفرنسي مصطلحاتها العلمية من المعين الفرنكفوني فالعرب الفرنكفونيون يتواصلون بعضهم ببعض علميا والآخرون يتواصلون فيما بينهم في حين أن التواصل بين هذا وذاك يتباعد بتباعد الحروف في اللفظ وإذا كان لا بد للمطالع مثقفا أو أكاديميا عليه أن يعود إلى المعاجم غير العربية لاصطياد المعنى . ولو كان الأمر مقتصرا على لغة العلم التطبيقي لكان الأمر هينا ، أما أن يفتقر المعجم العربي للغة الأدب فتلك الطامة . كم من أديب تجده يكتب مثل هذه العبارة (وضع الطعام في إناء) إن مثل هذا التعبير هو أفقر التعابير ، ما هو الطعام ؟ ما لونه ؟ ما طعمه ؟ ما رائحته ؟ ما هو الإناء ؟ ما شكله ؟ ما المادة التي منها صنع ؟ كل ذلك يترك مبهما ، أحيانا يجد الكاتب نفسه مجبرا عن استعمال مثل هذه العبارات ، لأن اللغة العربية لغة بدوية في الأصل ، وألفاظ لغة ما في علاقة جدلية بالبيئة والحاجة . سكان أستراليا يعرفون كل شيء عن الكنغر ولا يعرفون شيئا عن البقر قبل الاستعمار ، فاللغة الاسترالية الأصلية ثرية بكل ما يتعلق بالكنغر ولكنها فقيرة فقرا مدقعا ربما يبلغ درجة الصفر في كل ما يخص البقر ، وتلك سنة جارية على كل اللغات . للبحارة في تونس مثلا مصطلحاتهم ولكن أغلبها مصطلحات إيطالية ، مقدم السفينة البروّة ومؤخرتها القش ، والحبل الذي يشد الشبكة كلّومة والمسؤول على المحرك ماكينجي ومساعد الربان مسترومو وهكذا .. كل هذه الألفاظ لها مصادر غير عربية ولكن كل بحار يتكلم بها ولو لم يعرف حتى أقوامها .. لأن الحاجة تغلب القانون ، والطبيعة ترفض الفراغ .
بقي شيء هام . العصر عصر الإعلامية ، نحن العرب لم نتفق حتى في اللغة الإعلامية وهذا يسبب قصورا كبيرا ومعيقا في التواصل ، العربية المرقمنة عربيات والحال أنها عربية واحدة ، أحيانا يعجز القارئ قراءة ملف باللغة العربية لأن اللغة في الملف تابعة لجهة غير جهة لغة الحاسوب ، والحال أن الرقمنة معاصرة لكن ما يفرق العرب أكثر مما يوحدهم ماضيا وحاضرا وربما مستقبلا . فاللوم ليس على العربي في كيفية استعماله للغة العربية ، ولكن اللوم على أن اللغة العربية تشتتت عوض أن تتوحد في مؤسسة عربية واحدة بل تبعثرت بين :
- مجمع اللغة العربية في القاهرة .
- مجمع اللغة العربية في دمشق
- المجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر
- المجمع العلمي العراقي
- المجمع العلمي اللبناني
- مجمع اللغة العربية في حيفا
- مجمع اللغة العربية الأردني
- مؤسسة بيت الحكمة في تونس
- أكاديمية المملكة المغربية اللغة (المكتب الدائم لتنسيق التعريب بالرباط)
- مجمع اللغة العربية في السودان
- مجمع اللغة العربية الليبي
- مجمع اللغة العربية الافتراضي في المدينة المنورة
- مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية في مكة المكرمة
وربما نسيت بعض المجامع .
السبيل الوحيد لإنقاذ اللغة العربية وجعلها لغة حية بحق هو أن تتضافر الجهود العربية وتحدث أكاديمية عربية واحدة تكون لها سلطة حقيقية لتحديد اللفظ وتحديد المعنى في كل منحى من مناحي الحياة وفي كل مجال من مجالات الفكر وفي كل علم من العلوم سواء تطبيقية أو إنسانية أو اجتماعية وأن تكون اللغة المرقمنة لغة واحدة تحين بها كل ما رقمن من أدبنا وعلمنا وتاريخنا .

عبد الوهاب الفقيه رمضان
كاتب تونسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى