قال لي الدليل ونحن في مقهى الحلم، ننعم بمشاهدة البحر عبر زجاج النوافذ:
- سوف تحظى بلقاء خمس شخصيات في الحلم، خلال هذا الأسبوع...
سكتَ قليلا ريثما يضع النادل فنجاني القهوة أمامنا، ثم واصلَ قائلا:
- ستلتقي شاعرين عربيين، هما علي بن جَبَلَة والهيثم بن الربيع، المعروف بأبي حية النميري، ثم بشاعرين فرنسيين، هما ألان بوسكيه وغيلفيك.. أما الشخصية الخامسة فمن عالم السياسة...
قاطعتُه في الحين:
- أما السياسة فلا.. أنا أرفض أن أحلم بالسياسيين، وأنتَ تعرف هذا جيدا أيها الدليل...
أطرق صامتا، بينما يده تعبث بالفنجان أمامه ، ثم قال لي :
- طيب...بمن نبدأ من الشعراء إذن؟
- أرى أن نذهب لرؤية أبي حيّة النُّمَيري في البداية...
انفرجت أسارير الدليل وهو يعلق على اختياري بقوله:
- هو أيضا يريد أن يراك... وينبغي أن تعلم أنه عاتب عليك، لأنك كتبتَ عنه في الفايسبوك بأنه شخص موسْوس...
ولم يكد ينتهي من كلامه حتى تغير ديكور الحلم، فرأيتُ نفسي في مقهى آخر مختلف، في مدينة لم أتبين معالمها وفي زمن لم تتضح لي حدوده. رأيْتُني جالسا هناك، وعن يميني الدليل و أمامي رجل في حوالي الخمسين من العمر، بادي النحافة... أدركتُ في الحين أنه أبو حية النميري. فقلت له مداعبا، كعادتي في الأحلام:
- كنت أظنك سمينا ممتلئا... ولكنك رجل هزيل ضامر، يا أبا حية...
أجاب قائلا:
- لستُ هزيلا يا صاحبي، وإنما أنا نحيفٌ ضَرْب، والقدماء يقولون رجُلٌ ضَرْب، أي خفيف اللحم ، سريع الحركة، وقد قال طرفة بن العبد في معلقته:
( أنا الرَّجُلُ الضَّرْبُ الذي تَعْرفونه = خَشاشٌ كرأس الحية المتوقِّد)...
قلتُ :
- هذه رواية الأصمعي للبيت، أما ابن الأنباري فيروي:
( أنا الرجُلُ الجَعْدُ الذي تَعرفونه)...
والجعد من الرجال هو الخفيف...
نظر إليّ أبو حية النميري مبتسما ،ثم غير دفة الحديث بكيفية مفاجئة:
- أخبرني أيها الحالم، ما الذي جعلك تنعتني بأنني رجل موسوس؟
قلتُ و أنا أتفادى النظر إليه:
- أنا لم أبتكر شيئا يا أبا حية، وإنما رويتُ ما أورده أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب ( البيان والتبيين)... فقد قال عنك بالحرف: " وأما أبو حية النميري فإنه كان أَجَنَّ من جُعَيفران الموسوس، وكان يَزعم أنه يُفاوضُ الجنّ...ولكنه كان أشعرَ الناس، وهو الذي يقول:
( ألَا حَيِّ أطلالَ الرسوم البواليا = لبسْنَ البلى ممّا لبسْنَ اللياليا)...
- وإذن فقد نَعَتني بالجنون جاحظُكُمْ هذا... ولكنه وصفني في الوقت نفسه بأنني أشعرُ الناس... فهذا بذاك كما كنا نقول في زمننا...
قلتُ كي أستفزه بعض الشيء:
- وأما ابن قتيبة فيقول عنك في كتاب الشعر والشعراء: " كان أبو حية النميري كذاباً، وقد قال لجلسائه يوما : ( رميتُ - والله - ظبيةً بسهم، فلما نفذ السهمُ عن القوس، ذكرتُ بالظبية حبيبةً لي، فعدوتُ وراء السهم حتى أمسكتُه!)
- لم أقل " حتى أمسكته " بل قلتُ: " حتى قبضتُ على قُذَذه، أي على ريشه..."
قلت لأبي حية:
- فأنتَ تجادل إذن في الألفاظ لا في صحة الخبر... ويا صديقي الشاعر، يحكي عنك ابن قتيبة كذلك أنه كان لك سيف ليس بينه وبين الخشبة فرْق، وكنتَ مع ذلك تطلق عليه اسما مخيفا...
ضحك أبو حية النميري بصوت مسموع ثم قال:
- أذكرُ ذلك السيف جيدا... كنتُ أسميه لُعاب المنية... وقد ظننتُ يوما أن لصا دخلَ بيتي، فانتضيتُ لُعاب المنية، ووقفتُ أمام البيت و خاطبتُ اللص بقولي: ( أيها المُغْتَرُّ بنا، المُجْتَرئُ علينا، بئس والله ما اخترتَ لنفسك، خيرٌ قليل وسيف صقيل، لُعاب المنية الذي سمعتَ به ،مشهورة ضربته، لا تُخاف نَبْوتُه، فاخرجْ بالعفو عنك قبل أن أدخلَ بالعقوبة عليك...) ثم فتحتُ الباب فإذا كلب قد خرج فقلتُ: ( الحمد لله الذي مسخك كلْباً وكفاني حرباً )...
كان يبدو صادقا تماما في حديثه، رغم اشتهاره بالكذب. وبعد لحظات من الصمت، قلتُ له :
- يا أبا حية، تَذكر لك الكتبُ بيتا شعريا بديعا حقا ، وهو :
( ألا رُبَّ يوم لو رَمَتْني رميْتُها = و لكنَّ عَهْدي بالنضال قَديمُ )...
و معنى النضال في بيتك هذا يختلف عن معناه في زمننا نحن ...
- يا صديقي الحالم، النضال في زمننا نحن هو الرمي بالسهام.. فما الذي يعنيه يا تُرى في زمنكم أنتم ؟
نظرتُ إلى الدليل ونظرَ إلي، بينما أبو حية ينتظر جوابا عن سؤاله.
والحق أني تمنيتُ أن ينتهي الحلم قبل أن أجد نفسي مضطرا لتعريف النضال بمفهومه الحديث....
- سوف تحظى بلقاء خمس شخصيات في الحلم، خلال هذا الأسبوع...
سكتَ قليلا ريثما يضع النادل فنجاني القهوة أمامنا، ثم واصلَ قائلا:
- ستلتقي شاعرين عربيين، هما علي بن جَبَلَة والهيثم بن الربيع، المعروف بأبي حية النميري، ثم بشاعرين فرنسيين، هما ألان بوسكيه وغيلفيك.. أما الشخصية الخامسة فمن عالم السياسة...
قاطعتُه في الحين:
- أما السياسة فلا.. أنا أرفض أن أحلم بالسياسيين، وأنتَ تعرف هذا جيدا أيها الدليل...
أطرق صامتا، بينما يده تعبث بالفنجان أمامه ، ثم قال لي :
- طيب...بمن نبدأ من الشعراء إذن؟
- أرى أن نذهب لرؤية أبي حيّة النُّمَيري في البداية...
انفرجت أسارير الدليل وهو يعلق على اختياري بقوله:
- هو أيضا يريد أن يراك... وينبغي أن تعلم أنه عاتب عليك، لأنك كتبتَ عنه في الفايسبوك بأنه شخص موسْوس...
ولم يكد ينتهي من كلامه حتى تغير ديكور الحلم، فرأيتُ نفسي في مقهى آخر مختلف، في مدينة لم أتبين معالمها وفي زمن لم تتضح لي حدوده. رأيْتُني جالسا هناك، وعن يميني الدليل و أمامي رجل في حوالي الخمسين من العمر، بادي النحافة... أدركتُ في الحين أنه أبو حية النميري. فقلت له مداعبا، كعادتي في الأحلام:
- كنت أظنك سمينا ممتلئا... ولكنك رجل هزيل ضامر، يا أبا حية...
أجاب قائلا:
- لستُ هزيلا يا صاحبي، وإنما أنا نحيفٌ ضَرْب، والقدماء يقولون رجُلٌ ضَرْب، أي خفيف اللحم ، سريع الحركة، وقد قال طرفة بن العبد في معلقته:
( أنا الرَّجُلُ الضَّرْبُ الذي تَعْرفونه = خَشاشٌ كرأس الحية المتوقِّد)...
قلتُ :
- هذه رواية الأصمعي للبيت، أما ابن الأنباري فيروي:
( أنا الرجُلُ الجَعْدُ الذي تَعرفونه)...
والجعد من الرجال هو الخفيف...
نظر إليّ أبو حية النميري مبتسما ،ثم غير دفة الحديث بكيفية مفاجئة:
- أخبرني أيها الحالم، ما الذي جعلك تنعتني بأنني رجل موسوس؟
قلتُ و أنا أتفادى النظر إليه:
- أنا لم أبتكر شيئا يا أبا حية، وإنما رويتُ ما أورده أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب ( البيان والتبيين)... فقد قال عنك بالحرف: " وأما أبو حية النميري فإنه كان أَجَنَّ من جُعَيفران الموسوس، وكان يَزعم أنه يُفاوضُ الجنّ...ولكنه كان أشعرَ الناس، وهو الذي يقول:
( ألَا حَيِّ أطلالَ الرسوم البواليا = لبسْنَ البلى ممّا لبسْنَ اللياليا)...
- وإذن فقد نَعَتني بالجنون جاحظُكُمْ هذا... ولكنه وصفني في الوقت نفسه بأنني أشعرُ الناس... فهذا بذاك كما كنا نقول في زمننا...
قلتُ كي أستفزه بعض الشيء:
- وأما ابن قتيبة فيقول عنك في كتاب الشعر والشعراء: " كان أبو حية النميري كذاباً، وقد قال لجلسائه يوما : ( رميتُ - والله - ظبيةً بسهم، فلما نفذ السهمُ عن القوس، ذكرتُ بالظبية حبيبةً لي، فعدوتُ وراء السهم حتى أمسكتُه!)
- لم أقل " حتى أمسكته " بل قلتُ: " حتى قبضتُ على قُذَذه، أي على ريشه..."
قلت لأبي حية:
- فأنتَ تجادل إذن في الألفاظ لا في صحة الخبر... ويا صديقي الشاعر، يحكي عنك ابن قتيبة كذلك أنه كان لك سيف ليس بينه وبين الخشبة فرْق، وكنتَ مع ذلك تطلق عليه اسما مخيفا...
ضحك أبو حية النميري بصوت مسموع ثم قال:
- أذكرُ ذلك السيف جيدا... كنتُ أسميه لُعاب المنية... وقد ظننتُ يوما أن لصا دخلَ بيتي، فانتضيتُ لُعاب المنية، ووقفتُ أمام البيت و خاطبتُ اللص بقولي: ( أيها المُغْتَرُّ بنا، المُجْتَرئُ علينا، بئس والله ما اخترتَ لنفسك، خيرٌ قليل وسيف صقيل، لُعاب المنية الذي سمعتَ به ،مشهورة ضربته، لا تُخاف نَبْوتُه، فاخرجْ بالعفو عنك قبل أن أدخلَ بالعقوبة عليك...) ثم فتحتُ الباب فإذا كلب قد خرج فقلتُ: ( الحمد لله الذي مسخك كلْباً وكفاني حرباً )...
كان يبدو صادقا تماما في حديثه، رغم اشتهاره بالكذب. وبعد لحظات من الصمت، قلتُ له :
- يا أبا حية، تَذكر لك الكتبُ بيتا شعريا بديعا حقا ، وهو :
( ألا رُبَّ يوم لو رَمَتْني رميْتُها = و لكنَّ عَهْدي بالنضال قَديمُ )...
و معنى النضال في بيتك هذا يختلف عن معناه في زمننا نحن ...
- يا صديقي الحالم، النضال في زمننا نحن هو الرمي بالسهام.. فما الذي يعنيه يا تُرى في زمنكم أنتم ؟
نظرتُ إلى الدليل ونظرَ إلي، بينما أبو حية ينتظر جوابا عن سؤاله.
والحق أني تمنيتُ أن ينتهي الحلم قبل أن أجد نفسي مضطرا لتعريف النضال بمفهومه الحديث....
