حسين عبروس - هوامش على جسد الوطن... قراءة في وجع الانتماء عند نور الدين طاهري

- مدخل:
- نصٍّ يقطر وجعًا، ويتهجّى الوطن كجرحٍ مفتوحٍ على الجهات الأربع، يكتب الشاعر "نور الدين طاهري" نشيدًا منكسَر الإيقاع، عنوانه: *«أحبك يا وطني».
لكنّ هذه المحبّة ليست عاطفةً عمياء، بل اعترافٌ موجع بحدودها، وصرخةُ إنسانٍ يرى وطنه منكسِرًا بين الأطلس النائم والمدن المسلوبة خلف أسوار"سبتة ومليلية". إنّها كتابة تتقد بالغضب، وتفيض بالحنين الموجوع، حيث يتحوّل الحرف إلى أداة مساءلةٍ للذات والجماعة، وإلى مرآةٍ مكسورةٍ تعكس ملامح وطنٍ تاه بين العشق والانكسار.
- أولاً: بنية الوجع وجغرافيا الرّوح
- يبدأ النص بنداءٍ تتكرّر فيه الجملة المفتاح: «أحبك يا وطني»، لكنها تأتي مقرونةً دوماً بما يُضعفها، كشوكةٍ في الحلق أو كصحراء رمادية في قاع الروح.
يقدّم الشاعر الوطن بوصفه جدار صمتٍ ورمال ذاكرةٍ تتآكل، فيتحوّل من مكانٍ حاضنٍ إلى
كيانٍ مستنزفٍ للحنين،ومنذ السطر الأول، نلمس تحوّل الوطن من مساحة جغرافية إلى حالة وجدانية تتأرجح بين الحبّ والخذلان، بين الانتماء والاغتراب.
- ثانياً: الوطن ككائنٍ جريح
- يكتب طاهري الوطن كجسدٍ تنزف أعضاؤه:
الأطلس نائم،
النخيل يرفع كفّيه احتجاجًا،
الزيتون يبكي،
المرأة تحمل جرة الماء نحو الهاوية.
كلّ عناصر الطبيعة في النص تتحوّل إلى رموزٍ دالّةٍ على الانكسار الجمعي.
إنّها الطبيعة التي لم تعد تفيض بالعطاء، بل أصبحت شاهدةً على الخراب، تتآكل كما تتآكل
ذاكرة الأمة،ويبلغ الرمز ذروته حين يصوّر الشاعر شوارع الدار البيضاء «رئةً مصابة بسعال الإسمنت المزمن»، فيومئ بذلك إلى اختناق المدن تحت ثقل الحداثة الزائفة، وإلى تحوّل الجمال العمراني إلى عطبٍ إنساني.
- ثالثاً: جماليات اللغة وتوتر الإيقاع
- اللغة هنا مشحونة بتكثيفٍ دلاليٍّ قويّ. فالنصّ، وإن كان نثريًا، إلا أنّه يمتلك موسيقى داخلية تنبع من التكرار، والتوازي، والتموج الإيقاعي بين الجمل القصيرة والمتقطعة.
تسكنه لغة احتجاجية، مشهدية، رمزية، تزاوج بين البساطة والعمق:
«كل نافذة شاشة عرض لجريمة صامتة»
«طفولة تبيع الورد لتشتري صمت المستقبل»
- إنّها لغة تُدين الصمت الاجتماعي والسياسي، لكنها تفعل ذلك بجمالٍ فنيٍّ بعيدٍ عن المباشرة، وهو ما يمنح النصّ قوةً شعرية تجعل الوجع قابلاً للتماهي.
- رابعاً: البنية الرمزية ودينامية المعنى.
- يُقيم النص جدليةً بين الذات والوطن، فـ«الأنا» لا تنفصل عن المكان، بل تتماهى معه في
مصيره،ويتجلّى الوطن في صورةٍ ميتافيزيقية، لا كرقعة ترابية، بل كـ«فكرة مبتورة» و«فصل من كتاب لم يكتمل بعد».
وهذا ما يجعل القصيدة تنتمي إلى شعر ما بعد اليوتوبيا؛ حيث يتحوّل الوطن من حلمٍ إلى سؤالٍ، ومن يقينٍ إلى هشاشة هوية تبحث عن اكتمالها في الاغتراب.
وفي المقطع الأخير، تبلغ المأساة ذروتها حين يقول الشاعر:
«يا وطني، كل يوم أرفع نعشك الصغير على كتفي، وأمشي.»
إنّها ذروة التّراجيديا الوجدانية؛ فالحبّ هنا لا يُنقذ الوطن، بل يحمله في جنازةٍ رمزية دائمة، حيث يصبح الانتماء عبئًا وجوديًا، والمواطنة طقسًا للحداد اليومي.
- خامساً: الرؤية الفكرية والإنسانية
- يتجاوز النص البعد المحلي ليطرح إشكالية الكينونة العربية المعاصرة: أين يقف الإنسان في وطنٍ يأكله الفقر، وتستنزفه اللامساواة، وتُغتال فيه الأحلام؟
الكاتب هنا لا يهاجم الوطن، بل يهاجم زيف السلطة، وانكسا العدالة، وصمت الضمير الجمعي
إنه نصٌّ يُحاور الواقع من داخل الجرح، لا من خارجه، ويؤمن أن الكتابة فعل مقاومةٍ روحيةٍ ضدّ القبح والخذلان.
- خاتمة: بين الحب والخذلان
في النهاية، لا يقدّم نور الدين طاهري وطنًا مثالياً، بل وطنًا ينزف على الورق كما ينزف في
الذاكرة،فقصيدته ليست هجاءً للوطن، بل مرثية حبٍّ معلّقة على أبواب الخيبة.
إنه يقول بوضوح: الحبّ لا يعني الصمت، والانتماء لا يعني الولاء الأعمى.
فمن يحب وطنه بحقٍّ، هو من يجرؤ على مساءلته، ويكشف عوراته، كي يستعيده من بين أنياب الزّيف والنّسيان.
-
النص
هوامش على جسد الوطن
نور الدين طاهري
******
أحبك يا وطني،
ولكن شوكة في الحلق،
سؤال مر الطعم،
ثقيل الظل،
يتمدد كصحراء رمادية
في قاع الروح.
أحبك يا وطني،
يا جدار الصمت،
يا رمال الذاكرة التي تتآكل،
وأنا،
مجرد صدى لخطى
لم تصل بعد.
المغرب ليس رقعة،
بل وجع متمدد
تحت أقدام الأطلس النائم،
سلسلة أرقام
لا تجيد القسمة،
أو حلم طفل مسن
ضاع منه مفتاح قريته.
النخيل يرفع كفيه،
لا للدعاء،
بل للاحتجاج
على سماء تحولت
شبكة صيد
للأحلام المهاجرة
خلف أسوار سبتة ومليلية.
أشجار الزيتون تبكي زيتا خامدا،
لم يعد يضيء سراج الفقير،
بل يدور في محركات
صفقات باردة.
الزمن هنا ليس دورانا،
بل ركضا في مكان
بأحذية مثقوبة،
على أرصفة تعرض الفقر
كتحفة سيريالية للسائح.
شوارع الدار البيضاء،
رئة مصابة بسعال الإسمنت المزمن،
تلفظ أنفاسها الأخيرة
في زحمة الضروريات.
كل نافذة
شاشة عرض لجريمة صامتة:
جوع مقنع بقفطان العزلة،
وطفولة تبيع الورد،
تشتري بالثمن البخس
صمت المستقبل.
أجساد نحيلة،
تئن تحت عبء الشمس،
لم تعد تشبه منحوتات الطين،
بل شظايا مرايا
تعكس أطياف غد مكسور.
في القرى النائية،
المرأة ليست أما،
ولا حبيبة،
بل ميزان صبر
يميل نحو الهاوية.
تحمل جرة الماء،
أثقلتها أوزان الغياب الذكوري
الذي ابتلعته مراكب اللاشيء.
الحب في لغتنا
تحول إلى اسم مدينة محترقة،
نردده بخوف،
كي لا ننسى
أننا كنا نحترق.
السلطة،
تمثال من رمل
مصفح بالوعد،
ينهار في أول عاصفة،
وتظل الشفاه
مزمنة بطعم "نعم" الخجول.
أحبك يا وطني،
لكنني أراك في منام اليقظة،
مقهى مزدحما بالوحدة،
يقدم الشاي المغلي
بدموع اليائسين.
أنت لست هويتي الكاملة،
أنت فكرة مبتورة،
فصل من كتاب
لم يكتمل بعد.
أنا المحمل بأرشيف الخذلان،
أغني لك:
أغنية بلغة الموت البطيء،
لحنها صرير الأبواب المغلقة
في وجوه من هربوا منك إليك،
فلم يجدوا إلا صدى متعبا
لصرختهم.
يا وطني،
كل يوم
أرفع نعشك الصغير
على كتفي،
وأمشي.
بروكسيل / 29 شتنبر 2025

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى