عبد الوهاب الفقيه رمضان - أثر الرومنطيقية في تقدم الشعوب

تنتج الشعوب لتنتفع بنتاجها ، فتستهلكه محليا وتصدر ما يفيض عنها فتكسب من هذا التصدير ثروات إن بالمال أو بكسب الصداقات أو لوضع قدم ثابتة في هذا العالم المزدحم بالمنافسة حد السعي إلى حد إلغاء الآخر أو إزاحته أو تقليص دوره . إن الإنتاج المادي مهما علت قيمته فهي لا تبلغ قيمة الإنتاج اللامادي كإنتاج الفكر وإنتاج الوجدان من فنون بكل فروعها ، فالحضارة تناغم بين إنتاج العقل وإنتاج الروح . لكن أمة العرب أهملت كل إنتاج ينتج على أرضها يكون خارج إرادة الحاكم ومصالحه لا حسب مصلحة الوطن لأن الحاكم العربي جُبِل على أنه الوطن وأنه القانون فلا صوت يعلو على صوته ولا فكر يتفوق على فكره فهو الأول والآخر في كل شيء وبذلك يتخذ الحاكم العربي لنفسه صفات الإله فهو فرعون في قومه حتى وإن لم يقل أنا ربكم الأعلى باللسان فهو يقولها في كل لحظة وحين بالممارسة . اختلط الحابل بالنابل في دولنا العربية إن كان ثمة دول عربية أصلا ، والحال أن الدول المتقدمة فيها أحزاب وتيارات وخلافات لكنها لا ترتقي للتقاتل ولا تختلف في الثوابت ، ثوابت المدنية لا الثوابت العقدية . فالدين للفرد والوطن للجميع . بذلك تقدمت وتخلفنا . لأن الجسم إذا كان بين قوتين واحدة قوة جذب والثانية قوة دفع بقي الجسم حيث هو ، يتزحزح من حين إلى آخر إذا ما قويت إحدى القوتين ويعود حيث هو إذا ما تعادلتا إنه القانون الفيزيائي الذي لا يختلف فيه عاقلان . القوتان التي يوجد العالم العربي بينهما قوة ترى في أن الحل في الرجوع إلى السلف وبعبارة واضحة ألا نعيش عصرنا بل نعيش بآليات وتفكير وطرق تدبير مضت عليها قرون وقرون في حين أن القوة الثانية تجذب نحو الزمن الراهن بدرجة أولى وترنو إلى المستقبل بدرجة ثانية . الأمم المتقدمة تخطط لقرن قادم ونحن العرب فينا من يريد الجرّ إلى قرون خلت وهو محال . لذلك بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال الذي اعترفت به الأمم المتحدة للدول العربية باستثناء فلسطين بقينا نراوح حيث نقطة البداية ، والأسئلة الكبرى التي كانت تطرح قبل الاستقلال هي نفس الأسئلة التي مازالت تطرح اليوم وغدا وبعد غد وربما بعد قرن وربما إلى قرون وقرون قادمة . لماذا لأن الحاكم لا يسمع إلا نفسه ، ولأن منتج الفكر في بلاد العرب لا يجد رواجا لفكره ولا من يعبأ بقوله . شيزوفرينا تتملك عالمنا العربي من الخليج إلى المحيط . يلبس لباس "الكافر" ، يتغذى بما أنتج الفلاح "الكافر" يركب سيارة استوردها من بلاد "الكافر" يضيء بيته بفرداي ومكسويل وأمبير وإيديسون والقائمة تطول ليس فيها عبد الله ولا صالح ولا حامد ولا محمود ورغم ذلك يدعو ليلا نهارا على هؤلاء "الكفار" بالهلاك والدمار وخلاء الديار ، في حين أن خالقهم يطعمهم ويسقيهم وجعلهم في رفاه وسعادة وأمن ، أي والله في أمن ، فلا يوجد مسيحي يقتل مسيحيا طلبا للجنة ، ولا يهودي يقتل يهوديا طمعا في الفردوس ، في حين أننا العرب نتقاتل أربعين سنة من أجل طعن ضرع ناقة حلوب ، وبعد الجهل والجاهلية صرنا نتقاتل – ولم أجد سببا يقنع عقلي بهذا التقاتل – إنما نتقاتل لأن في طبعنا أن نتقاتل ، المبكي والمخجل أن القاتل قَتل طمعا في الجنة والمقتول يستمهل القاتل ليصلي ركعتين قبل أن يُقتل .
لو وضعنا المسألة في المخبر وتعاملنا معها تهامل الفيزيائي مع الجسم الجامد ، وتعامل الكيميائي مع تفاعل العناصر وتعامل البيولوجي مع المادة الحية ، يتبين أن السبب قلة الذوق وعدم الإحساس بالجمال ، وحصر الحياة في الشأن العقدي الذي هو من المفروض ألا يكون حسابه بين إنسان وإنسان بل بين عابد ومعبود ، إلا أن يحل إنسان محل المعبود .
لو نظرنا إلى القيم الكونية اليوم ونظرنا إلى ما وصلت إليه الأمم من هذا الرفاه والسعادة لوجدنا أن من عوامله الإنتاج الفكري والإنتاج الوجداني . ففي القرن الثامن عشر بدأ ينشأ مذهب فكري أدبي فلسفي جديد هو الرومنطيقية ، حيث كان الكلاسيكيون في الفكر والأدب يصرون على أن العقل هو منشأ الحقيقة وهو مبعث السعادة وهو الذي يقود إلى الخير كل الخير ، في حين أن جماعة ظهرت تنتصر للوجدان ، وترتمي في الطبيعة تتغنى بكل عناصرها لا تفضل عنصرا عن عنصر ولا تحتقر كائنا عن كائن بل تجاوز الأمر إلى مخاطبة البحر والجبل والسماء والنجوم وإبراز الجمال في كل ما كان يُنظر على أنه قبيح . وإذا كان أغلب دارسي التيار الرومنطيقي قد ذهبوا إلى أنه مذهب الشعراء فالحقيقة أن الرومنطيقية تجاوزت الشعر لتتغلغل في مناحي أخرى من مشاغل كانت تحتكر على العقل دون سواه . إن المتأمل في الفكر التربوي عند جان جاك روسو يجده رومنطيقيا في فكره هذا ، والمسألة ليست إسقاطا أو إلباس شيء غير لباسه ، لأن الفكر التربوي عند جان جاك روسو الذي أعلنه في كتابه إيميل أو التربية دعا إلى تربية الطفل تربية طبيعية ، أي ترك الطفل يتعلم من الطبيعة وفي الطبيعة على أن يعهد إلى معلم خاص به يراقبه كثيرا ويوجهه قليلا ، فحسب روسو يُترك الطفل يلمس النار ليتعلم أن النار تحرق ، وبقراءة نصوص المفكرين بعضها ببعض نجد شيئا من فكر روسو عند ابن طفيل في حي بن يقضان في الشرق وشيئا من فكر دانيال ديفو في روايته روبنسون كروزو وإذا كانت شخصية دانيال ديفو معروف من أبوه معروف من أمه ، ففي رواية ابن طفيل يبقى هذا الأمر لغزا . لكن مهما يكن من أمر فالشخصيتان فُرض عليهما التواجد في الطبيعة كل منهما منفردا في حين أن شخصية روسو رمي بها في الطبيعة عمدا قصد التعلم ، وتبقى الفكرة فكرة لكنها غير قابلة للتطبيق عمليا ليس من الجانب الفكري والفلسفي بل من الجانب العملي إذ من المحال توفير المعلمين على عدد المتعلمين . إن حشر روسو في موضوع الرومنطيقية الغرض منه إبراز أن الرومنطيقية لم تقتصر على الفنون وخصوصا الشعر وإنما تعدته تأثرا وتأثيرا إلى مجالات أخرى من مجالات الثقافة . وليس أيضا إلباس الرومنطيقية جبة غير جبتها القول بأن للرومنطيقية دورا هاما في القيم الكونية التي اعتمدها ميثاق حقوق الإنسان ، ولا مبالغة القول بأن للرومنطيقية إسهاما كبيرا في الثورة الفرنسية ، إذ شعار هذه الثورة : الحرية ، والإخاء ، والمساواة. وهذه القيم كلها المنطلق والغاية في الرومنطيقية .
نترك شأن الغرب للغرب وننظر إلى بيتنا . بما أن العلم بدأ يضيق ، والتواصل بين مختلف البشر بدأ يكبر باختراع المطبعة ، ورواج المكتوب بين البشر في الوطن الواحد وفي الأوطان المتعددة ، فقانون التلاقح بين الثقافات جعل الأدب العربي يسعى لتبني هذا المذهب الأدبي والإبداع فيه أحيانا إبداعا قد يفوق من زرع بذرته الأولى . وممن تناول هذه المسألة بإسهاب الصديق فؤاد القرقوري إذ كتب دراسة قيمة بعنوان : أهم المظاهر الرومنطيقية في الأدب العربي الحديث وأهم المؤثرات الأجنبية فيها طبعت هذه الدراسة في طبعتها الأولى في جوان سنة 1988 وصدرت عن الدار العربية للكتاب بتونس في 294 صفحة وهي في الأصل رسالة دكتورا مرحلة ثالثة نوقشت سنة 1984 ونالت مرتبة حسن جدا . في حين أن أستاذي محمد قوبعة اهتم بالجانب الحداثي في الأدب العربي من خلال الشعر الرومنطيقي وكتابه عنوانه : الرومنطيقية ومنابع الحداثة في الشعر العربي صدر عن جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية بتونس 1 – كلية الآداب - سنة 2000 والكتاب في 678 صفحة . وبما أننا ولجنا البعض من الببليوجرافيا التونسية في الأدب الرومنطيقي لا بد من ذكر أستاذي هشام الريفي إذ ساهم مع ثلة من الأساتذة الجامعيين بتونس في تأليف كتاب عنوانه دراسات في الشعرية الشابي نموذجا صدر عن بيت الحكمة – تونس سنة 1988 ، حيث اهتم بشعر أبي القاسم الشابي ، وهو شاعر تونسي رومنطيقي بامتياز ، زيادة على أن ما في شعره من رومنطيقية ، فهو يقول :
عش بالشعور وللشعور فإنمــــــا = دنياك كون عواطف وشعور
شيدت على العطف العميق وإنها = لتجف لو شيدت على التفكير
وتظل جامدة الجمال كئيبــــــــــة = كالهيكل المتهدم المهجــــــور
وتظل قاسية الملامح جهمـــــــــة = كالموت مقفرة بغير ســـرور
فقد صنف نفسه ضمن الرومنطيقيين وبيّن هذا الفرق بين ما سبق أي الكلاسيكية التي تنزع منزع العقل ، والرومنطيقية التي تنزع منزع القلب وعبر عنه بكل ما له علاقة بالعاطفة في الفظ الذي استعمله [العطف] ويعلن أن الجمال في هذا المنزع الوجداني في حين أن في المنزع العقل جمود وكآبة وقساوة وتجهم وموت وقفر وافتقادٌ للسرور. ومخاطبته لغير الإنسان والتحاور معه يبرز في قوله :
وقالت الأرض لما سألـــــــتُ = أيا أم هل تكرهين البشـــــــر
أبارك في الناس أهل الطموح = ومن يستلذ ركوب الخطـــر
وألعن من لا يماشي الزمـــان = ويقنع بالعيش عيش الحجـر
هو الكون حي يحب الحيــــاة = ويحتقر الميت مهما كبــــر
فلا الأفق يحضن ميت الطيور = ولا النحل يلثم ميت الزهـر
ولولا أمومة قلبي الــــــرؤوم = ما ضمت الميت تلك الحفر
في الرومنطيقية ثورة على الواقع المرير ، والعالم العربي في فترة نشأة الرابطة القلمية حيث أعلم جماعة من شعراء المهجر وأغلبهم من أرض الشام وقتها رسميا على إعلان أنفسهم كشعراء الرومنطيقية ، وقتها كانت الخلافة العثمانية على سرير المرض على وشك الاحتضار ، وكان الذين يتزعمون الريادة في العالم يسمونها الرجل المريض ، وبينما الأخوان رايت يقومان بتجاربهما في الطيران ، وبينما إديسون ينير العالم بمصباحه السحري وبينما ماري كوري تقوم بتجاربها على المادة المشعة وهي لا تعلم أنها تبحث فيما سيكون سببا في موتها ، لكنها حصدت جائزين من جوائز نوبل هي سنتين متباعدتين نسبيا ، هكذا العالم الحي يسابق الزمن في البحث العلمي والاختراع والاكتشاف ، كان وقتها العالم العربي تحت تكالب القوى للانقضاض عليه لنهب موارده الطبيعية وفتح حدوده لاستهلاك سلعه والقضاء على كل صناعة تقليدية لدى العرب ، ووقتها كان كما هو الحال دوما أصحاب الأطماع يبيعون الأوطان لبريطانيا العظمى بثمن وهم وهو من يرث الخلافة حين تلفظ الخلافة العثمانية آخر أنفاسها ، وبما أن جل العالم العربي إن لم يكن كله كان تحت حكم هذا الرجل المريض فقد استشرى فيه هذا المرض بكل ما فيه من جهل وفقر ومعاناة من استبداد الحكام وقد وصف إيليا أبو ماضي شيئا من هذا الوضع ليس بأسلوب مباشر وإنما عن طريق الأسلوب الشعري بما فيه من رومنطيقية ، حيث يقول في قصيدته الرائعة جدا متى يذكر الوطَنَ النوَّمُ وما أشبه البارحة باليوم في واقعنا العربي المرير
وَحَوَّلتُ طَرفي إِلى المَشرِقِ = فَلَم أَرَ غَيرَ جِبالِ الغُيوم
تَحومُ عَلى بَدرِهِ المُشرِقِ كَما = اِجتَمَعَت حَولَ نَفسي الغُموم
فَأَسنَدتُ رَأسي إِلى مِرفَقي = وَقُلت وَقَد غَلَبَتني الهُموم
بِرَبِّكِ أَيَّتُها الأَنجُمُ مَتى = تَضَعُ الحَربُ أَوزارَها
كَما يُقتَلُ الطَيرُ في الجَنَّةِ = وَيُقتَنَصُ الظَبيُ في السَبسَبِ
كَذَلِكَ يُجنى عَلى أُمَّتي بِلا سَبَب وَبِلا موجِبِ
فَحَتّامَ تُؤخَذُ بِالقُوَّةِ وَيُقتَصُّ مِنها وَلَم تُذنِبِ
وَكَم تَستَكين وَتَستَسلِمُ وَقَد بَلَغَ السَيلُ زُنّارَها
وَسيقَت إِلى النَطعِ سَوقَ النَعَم مَغاويرُها وَرِجالُ الأَدَب
وَكُلُّ اِمرِئٍ لَم يَمُت بِالخَذَم فَقَد قَتَلوهُ بِسَيفِ السَغَب
فَما حَرَّكَ الضَيمُ فيها الشَمَم وَلا رُؤيَةُ الدَمِ فيها الغَضَب
تَبَدَّلَتِ الناس وَالأَنجُمُ وَلَمّا تُبَدِّلُ أَطوارَها
أَرى اللَيثَ يَدفَعُ عَن غَيضَتِه بِأَنيابِه وَبِأَظفارِه
وَيَجتَمِعُ النَملُ في قَريَتِه إِذا خَشِيَ الغَدرَ مِن جارِهِ
وَيَخشى الهَزارُ عَلى وُكنَتِهِ فَيَدفَعُ عَنها بِمِنقارِهِ
فَلا الكاسِرات وَلا الضَيغَمُ وَلا الشاةُ تَمدَحُ جَزّارَها
عَجِبتُ مِنَ الضاحِكِ اللاعِبِ وَأَهلوهُ بَينَ القَنا وَالسُيوف
يَبيتونَ في وَجَلٍ ناصِبِ فَإِن أَصبَحوا لَجَأوا لِلكُهوفُ
وَمِمَّن يُصَفِّقُ لِلضارِبِ وَأَحبابُهُ يَجرَعونَ الحُتوف
مَتى يَذكُرُ الوَطَنَ النُوَّمُ كَما تَذكُرُ الطَيرُ أَوكارَها
مظاهر الرومنطيقية تبرز في الفرق بين استماتة عناصر طبيعية عن وجودها وكرامتها - مجازا – وخنوع الإنسان وهو الإنسان بهذا الهوان الذي يعيشه فأصبح يساق إلى الموت سوق النعم ، ولعل أقوى طلقة يطلقها في قوله :
فلا الكاسرات ولا الضيغم = ولا الشاة تمدح جزارها
لكن شعراء الرومنطيقية في أوروبا استنهضوا الهمم فنهضت ، لكن شعر شعراء الرومنطيقية العرب كان كنعيق البوم في البيداء أو كوابل على صلد . مما جعل أبا القاسم الشابي يطلقها بأسلوبه في قصيدته العظيمة ، وهي ليست أوصافا للتفخيم ، إنما هي توصيف حقيقي لما في هذه القصائد من شحنة ، لكن قلوب قست رغم أن من الحجارة من يشقق فيخرج منه الماء ومنها ما يهبط من خشية الله . القصيدة العظيمة المقصودة هي قصيدته : النبي المجهول حيث فيها يأس ، وعظمتها أنها نابعة من صميم الصميم ، فالشابي قتله شعره ، قتله إحساسه :
والشقي الشقي من كان مثلي = في حساسيتي ورقة نفسي
مهما بُذل من جهد لاختصار أبيات من هذه القصيدة في الاستشهاد إلا أن الأبيات تصرخ بأعلى صوتها فارضة نفسها فرضا ، ففي القصيد يقول الشابي :
وقال أيضاً:
أَيُّها الشَّعْبُ ليتني كنتُ حطَّاباً = فأهوي على الجذوعِ بفأسي
ليتني كنتُ كالسُّيولِ إِذا = سالتْ تَهُدُّ القبورَ رمساً برمسِ
ليتني كنتُ كالرِّياحِ فأطوي = كلَّ مَا يخنقُ الزُّهُورَ بنحسي
ليتني كنتُ كالشِّتاءِ أُغَشِّي = كلّ مَا أَذْبَلَ الخريفُ بقرسي
ليتَ لي قوَّةَ العواصفِ يا = شعبي فأَلقي إليكَ ثَوْرَةَ نفسي
ليتَ لي قوَّةَ الأَعاصيرِ إنْ = ضجَّتْ فأدعوكَ للحياةِ بنبسي
ليتَ لي قوَّةَ الأَعاصير لكن = أَنْتَ حيٌّ يقضي الحَيَاة برمسِ
أَنْتَ روحٌ غَبِيَّةٌ تكره النُّور = وتقضي الدُّهُور في ليل مَلْسِ
أَنْتَ لا تدركُ الحقائقَ إن طافتْ = حواليكَ دون مسٍّ وجَسِّ
في صباحِ الحَيَاةِ ضَمَّخْتُ = أَكوابي وأَترعتُها بخمرَةِ نفسي
ثمَّ قَدَّمْتُها إليكَ فأَهرقْتَ = رحيقي ودُستَ يا شعبُ كأسي
فتأَلَّمتُ ثمَّ أسْكَتُّ آلامي = وكَفْكَفْتُ من شعوري وحسّي
ثمَّ نَضَّدْتُ من أَزاهيرِ قلبي = باقةً لمْ يمسَّها أيُّ إنْسِي
ثمَّ قَدَّمتُها إليكَ فمزَّقْتَ ورودي ودُسْتَهَا أَيَّ دَوْسِ
ثمَّ أَلبسْتَني منَ الحُزْنِ ثوباً وبِشَوكِ الجبالِ تَوَّجْتَ رأسي
إنَّني ذاهبٌ إلى الغابِ يا شعبي لأقضي الحَيَاةَ وحدي بيأسِ
إنَّني ذاهبٌ إلى الغابِ علِّي في صميم الغاباتِ أَدفنُ بؤسي
ثم أنساك ما استطعت فما أنت بأهل لخمرتي ولكأسي
سوف أَتلو على الطُّيور أَناشيدي وأُفضِي لها بأشواقِ نفسي
فَهْي تدري معنى الحَيَاة وتدري أنَّ مجدَ النُّفوسِ يَقْظَةُ حِسِّ
ثمَّ أقضي هناكَ في ظلمةِ اللَّيل وأُلقي إلى الوُجُودِ بيأسي
ورغم طول الأبيات فهي جزء من القصيدة ولست القصيدة كاملة ، إنما المحزن فيها هذا اليأس القاتل ، وفعلا لم يعمر الشابي طويلا بعد كتابته هذه القصيدة النبي المجهول ، كتابتها سنة 1930 ووفاته كانت سنة 1934 . كم هي عقول جُنَّتْ وكم هي قلوب توقفت وقاتلها هذا الوضع المتردي وهذا الظلام الذي ما ينجلي قليلا حتى يحط ظلام أشد سوادا . إذ ما كادت ثورة تقوم في تونس سنة 2011 حتى سطا عليها من همه الأوحد في الحياة هو السطو فسُرِقت الثورة كما سبق أن سُرِقت ومازالت تُسرق الثروة .
ولن يتوقف القلم قبل الإشارة إلى شاعر رومنطيقي لو فهم شعره ووقع تبنيه كما هو الشأن لدى الأمم الحية لتجنبنا مآسي كثيرة . إنه ميخائيل نعيمة في قصيدته إلى دودة ، ففيها من المحبة والتسامح ما لا يكاد يوجد في أي شعر لا في الغرب ولا في الشرق ، أترك البيت يكشف ما لا يمكن فيه قول على قول :
لعمرك يا أختاه . ما في حياتنا قدْر أو تفاوت أثمان
ميخائيل نعيمة يخاطبها بقوله يا أختاه . من ؟ دودة . ويقر أنه لا فرق بينه وبين هذه الدودة من حيث القدر أو الثمن . إنها قمة التعبير عن وحدة الوجود . لقد رفض شعراء الرومنطيقية الموجود فعبروا كل بأسلوبه عن المنشود ، هذا المنشود تحقق لدى أمم أصغت لشعرائها وعقلائها وفلاسفتها فجعلتهم مهندسين لبناء سياساتهم فنجحوا وتجاوزوا الأرض بيابسها وغازها ، ثم تجاوزوا مجموعتنا الشمسية وبقينا نحن حيث نحن . نحلم بدولة الخلافة كي نسبي النساء والذراري فنجعل النساء سبايا والذراري عبيدا وغلمانا . شتان .. شتان .. شتان .. ولعل في هذا شيء من جواب على سؤال طرحه شكيب أرسلان منذ ما يقارب القرن لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون ؟


عبد الوهاب الفقيه رمضان
كاتب تونسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى