... إنه فصل الصيف بحرارته وغباره الذي ينهك الخارجين من بيوتهم بحثاً عن الرزق فتمتلئ الشوارع بالمارة والسيارات كلّ ذاهب إلى غايته التي يسعى إليها ولا تخف الحركة في شوارع هذه المدنية إلا عندما تبدأ الشمس برفع أهدابها عن الأرض عندها ترى الناس عائدين إلى منازلهم ببعض وريقات القات كان من هؤلاء العم علي الذي كان يحمل عصاه في يد وقاته في اليد الأخرى واتجه للسؤال عن محمد الذي وصلت له رسالة من القرية عن طريق أحد سائقي فرزة الحصبة.
صعد درجتين ليصل إلى باب اللوكندة عندها مرّ بعينيه على الموجودين ثم سأل:
-أين محمد؟
ردّ عليه أحدهم:
- «لم يأت بعد».
عندها أخرج العم علي من جيبه ظرفاً وقال لصديقه حسين:
- «هذا الظرف له». ثم انصرف.
لم يمرّ وقت طويل حتى أقبل محمد على أصحابه في اللوكندة حاملاً في يده كيس قاته، ألقى عليهم السلام ثم أخذ موضعه بينهم. فتح كيسه وأخذ يحشو فاه بأوراق القات وعندما أراد أن يشرب الماء وجده ساخناً لشدة الحرارة.. عندها نهض ونظر من باب اللوكندة عله يجد بعض الأطفال الذين يدلون بالماء الكوثر في فرزة الحصبة، كانوا كثيرين نادى على أحدهم باسمه فأقبل الولد وأعطاه الماء وانتظر أن ينقده ثمن الماء ولكن محمداً قال بنزق:
«بَعْدَين ما بش صرف»..
نظر إليه الولد نظرة غيظ ثم انصرف. ودخل محمد إلى أصحابه ليكمل التخزين والثرثرة حول ما صادفهم في يومهم. مر الوقت وسمع الجميع أذان المغرب، البعض منهم نهض وأفرغ ما في فيه من القات وذهب إلى المسجد والبعض الآخر تجاهل النداء واستمر في مضغ أوراق القات. كان محمد ممن تجاهل النداء واستمروا في أحاديثهم ومزاحهم حتى ذكر أحدهم وقال لمحمد:
- وصلتك رسالة أحضرها العم علي.
أحس محمد بضيق عندما علم بأمر الرسالة وسأل:
- وأين الرسالة؟
-عند حسين عندما يأتي من الصلاة، يبدو أنه نسي مثلما نسينا.
نظر محمد إلى الأوراق المتبقية في الكيس وهو يسأل نفسه «ألم تيأس أمّي وزوجتي من الإلحاح عليّ بالعودة. مرت فترة طويلة لم أرسل لهن أيّ رسالة ولم يرسلن.. عندها حمدت الله وقلت أخيراً سلّمن بالأمر الواقع».
أحس أن طعم القات تغيّر في فمه وشعور خانق يطبق على صدره. لماذا تنتابه هذه الحالة عندما سمع بوصول رسالة من القرية.. لماذا يريد أن ينساه الجميع ويهملون ذكره. نهض وأفرغ فمه من القات وأخذ علبة من علب الفول الفارغة وغسلها بقليل من الماء واتجه إلى القهوة وفي طريقه رأى حسيناً عائداً من المسجد.. حينها لم يطق صبراً فرمى بالعلبة الفارغة وهو يٍسأل عن الرسالة فأخبره حسين أنه وضعها تحت وسادته.
دخلا اللوكندة وأخذ محمد الظرف ونظر إليه وهو يقول لنفسه «ترى ماذا تريدين يا أم ّمحمد هذه المرة؟».
فتح الظرف وشرع في قراءة الرسالة لاحظ أصحابه الضيق الذي بدا عليه في أثناء قراءته للرسالة فسأله حسين:
- ماذا في الرسالة؟
لم يجب ولكنه ناوله الرسالة بأصابع مضطربة. نظر حسين في الرسالة فربت على كتف محمد وقال:
- «رحمة الله عليها وعظم الله أجرك».
كانت الرسالة تحمل نبأ وفاة والدة محمد الذي خرج من اللوكندة محاولاً إظهار اللامبالاة فنهض حسين يتبعه بنظراته محاولاً معرفة وجهته.. فرآه وهو يدخل القهوة لم يشأ أن يلحق به فربما أحبّ أن يجلس بصحبة نفسه دون وسيط. جلس محمد على كرسي من الكراسي الحديدية التي في القهوة وطلب شاياً كانت الهواجس تتقاذفه فلم يلحظ أن الشاي أصبح أمامه والذباب بدأ في احتسائه.
كان ينظر إلى من في القهوة ولكنه لم يكن يرى سوى طفولته في القرية وأمّه كانت ترى فيه الدنيا بأكملها. مرّ الوقت دون أن يعود محمد من القهوة فنام الجميع عدا حسين الذي كان بانتظاره حتى عاد وعند عودته فوجئ أن حسيناً ما زال في انتظاره فقال له:
- «لماذا لم تنم حتى الآن أليس لديك عمل في الغد؟».
فأجابه:
- «بلى ولكني أحببت أن أطمئن عليك».
اتجه محمد إلى سريره وقال «اطمئن». نام الجميع بعد أن أغلقوا باب اللوكندة الذي يشبه أبواب المحلات والتي تكشف للمارة في الخارج عن الأسرة المتراصة لنزلاء هذه اللوكندة.
في الساعة الثانية بعد منتصف الليل مزّق السكون صوت بكاء محمد وهو يحاول أن يخنق صوت بكائه وعبراته بالوسادة التي وضعها على رأسه، نهض حسين من سريره نحو محمد وجلس على حافة سريره لم يمنعه من البكاء «فليبك لعله يستريح» هذا ما قاله حسين لنفسه وهو ينظر إلى صديقه بإشفاق.. رفع محمد رأسه من تحت الوسادة ونظر إلى حسين بعينين محمرتين وقال:
- ماتت أمي وهي تتمنى أن تراني لم أبرّ بها حية ولا ميتة ولكنها لو علمت أنّي مت قبلها فربما سامحتني.
قال حسين:
- لم أكن أعلم أنك ستحزن عليها كل هذا الحزن.
- كيف لا أحزن عليها! لقد كانت المرأة الوحيدة التي أحبتني بصدق.
عندها قال حسين لائماً:
- إذن لماذا لم تعد إليها؟ لماذا لم تعد إلى أمك وزوجتك رغم علمك بمدى حاجتهما إليك ورغم الرسائل التي تدعوك للعودة.
- إن الرسائل التي كانت تأتي منهما لم تكن لي بل لشخص أخر أضعته في المدينة.
- لم يفت الوقت بعد ما زالت زوجتك وأرضك بانتظارك. إذا كنت تحس أنك أخطأت فلا تستمر في هذا الخطأ ولا تسمح للسنين بأن تزحف على جسدك وأنت غريب بعيد عن أرضك أحببت المدينة وأحببت البقاء فيها ولكنها أدارت ظهرها فلماذا الإصرار على البقاء.
- إني ميت والميت لا يستطيع الحركة، إنّني ميت نسي أن يموت.
- الميت يوصي بأن يدفن في أرضه.
- لم تعد أرضي بعد أن هجرتها ثم إني قد اعتدت أن أكون نفاية من نفايات هذه المدينة.
إيمان عبدالوهاب حميد
صعد درجتين ليصل إلى باب اللوكندة عندها مرّ بعينيه على الموجودين ثم سأل:
-أين محمد؟
ردّ عليه أحدهم:
- «لم يأت بعد».
عندها أخرج العم علي من جيبه ظرفاً وقال لصديقه حسين:
- «هذا الظرف له». ثم انصرف.
لم يمرّ وقت طويل حتى أقبل محمد على أصحابه في اللوكندة حاملاً في يده كيس قاته، ألقى عليهم السلام ثم أخذ موضعه بينهم. فتح كيسه وأخذ يحشو فاه بأوراق القات وعندما أراد أن يشرب الماء وجده ساخناً لشدة الحرارة.. عندها نهض ونظر من باب اللوكندة عله يجد بعض الأطفال الذين يدلون بالماء الكوثر في فرزة الحصبة، كانوا كثيرين نادى على أحدهم باسمه فأقبل الولد وأعطاه الماء وانتظر أن ينقده ثمن الماء ولكن محمداً قال بنزق:
«بَعْدَين ما بش صرف»..
نظر إليه الولد نظرة غيظ ثم انصرف. ودخل محمد إلى أصحابه ليكمل التخزين والثرثرة حول ما صادفهم في يومهم. مر الوقت وسمع الجميع أذان المغرب، البعض منهم نهض وأفرغ ما في فيه من القات وذهب إلى المسجد والبعض الآخر تجاهل النداء واستمر في مضغ أوراق القات. كان محمد ممن تجاهل النداء واستمروا في أحاديثهم ومزاحهم حتى ذكر أحدهم وقال لمحمد:
- وصلتك رسالة أحضرها العم علي.
أحس محمد بضيق عندما علم بأمر الرسالة وسأل:
- وأين الرسالة؟
-عند حسين عندما يأتي من الصلاة، يبدو أنه نسي مثلما نسينا.
نظر محمد إلى الأوراق المتبقية في الكيس وهو يسأل نفسه «ألم تيأس أمّي وزوجتي من الإلحاح عليّ بالعودة. مرت فترة طويلة لم أرسل لهن أيّ رسالة ولم يرسلن.. عندها حمدت الله وقلت أخيراً سلّمن بالأمر الواقع».
أحس أن طعم القات تغيّر في فمه وشعور خانق يطبق على صدره. لماذا تنتابه هذه الحالة عندما سمع بوصول رسالة من القرية.. لماذا يريد أن ينساه الجميع ويهملون ذكره. نهض وأفرغ فمه من القات وأخذ علبة من علب الفول الفارغة وغسلها بقليل من الماء واتجه إلى القهوة وفي طريقه رأى حسيناً عائداً من المسجد.. حينها لم يطق صبراً فرمى بالعلبة الفارغة وهو يٍسأل عن الرسالة فأخبره حسين أنه وضعها تحت وسادته.
دخلا اللوكندة وأخذ محمد الظرف ونظر إليه وهو يقول لنفسه «ترى ماذا تريدين يا أم ّمحمد هذه المرة؟».
فتح الظرف وشرع في قراءة الرسالة لاحظ أصحابه الضيق الذي بدا عليه في أثناء قراءته للرسالة فسأله حسين:
- ماذا في الرسالة؟
لم يجب ولكنه ناوله الرسالة بأصابع مضطربة. نظر حسين في الرسالة فربت على كتف محمد وقال:
- «رحمة الله عليها وعظم الله أجرك».
كانت الرسالة تحمل نبأ وفاة والدة محمد الذي خرج من اللوكندة محاولاً إظهار اللامبالاة فنهض حسين يتبعه بنظراته محاولاً معرفة وجهته.. فرآه وهو يدخل القهوة لم يشأ أن يلحق به فربما أحبّ أن يجلس بصحبة نفسه دون وسيط. جلس محمد على كرسي من الكراسي الحديدية التي في القهوة وطلب شاياً كانت الهواجس تتقاذفه فلم يلحظ أن الشاي أصبح أمامه والذباب بدأ في احتسائه.
كان ينظر إلى من في القهوة ولكنه لم يكن يرى سوى طفولته في القرية وأمّه كانت ترى فيه الدنيا بأكملها. مرّ الوقت دون أن يعود محمد من القهوة فنام الجميع عدا حسين الذي كان بانتظاره حتى عاد وعند عودته فوجئ أن حسيناً ما زال في انتظاره فقال له:
- «لماذا لم تنم حتى الآن أليس لديك عمل في الغد؟».
فأجابه:
- «بلى ولكني أحببت أن أطمئن عليك».
اتجه محمد إلى سريره وقال «اطمئن». نام الجميع بعد أن أغلقوا باب اللوكندة الذي يشبه أبواب المحلات والتي تكشف للمارة في الخارج عن الأسرة المتراصة لنزلاء هذه اللوكندة.
في الساعة الثانية بعد منتصف الليل مزّق السكون صوت بكاء محمد وهو يحاول أن يخنق صوت بكائه وعبراته بالوسادة التي وضعها على رأسه، نهض حسين من سريره نحو محمد وجلس على حافة سريره لم يمنعه من البكاء «فليبك لعله يستريح» هذا ما قاله حسين لنفسه وهو ينظر إلى صديقه بإشفاق.. رفع محمد رأسه من تحت الوسادة ونظر إلى حسين بعينين محمرتين وقال:
- ماتت أمي وهي تتمنى أن تراني لم أبرّ بها حية ولا ميتة ولكنها لو علمت أنّي مت قبلها فربما سامحتني.
قال حسين:
- لم أكن أعلم أنك ستحزن عليها كل هذا الحزن.
- كيف لا أحزن عليها! لقد كانت المرأة الوحيدة التي أحبتني بصدق.
عندها قال حسين لائماً:
- إذن لماذا لم تعد إليها؟ لماذا لم تعد إلى أمك وزوجتك رغم علمك بمدى حاجتهما إليك ورغم الرسائل التي تدعوك للعودة.
- إن الرسائل التي كانت تأتي منهما لم تكن لي بل لشخص أخر أضعته في المدينة.
- لم يفت الوقت بعد ما زالت زوجتك وأرضك بانتظارك. إذا كنت تحس أنك أخطأت فلا تستمر في هذا الخطأ ولا تسمح للسنين بأن تزحف على جسدك وأنت غريب بعيد عن أرضك أحببت المدينة وأحببت البقاء فيها ولكنها أدارت ظهرها فلماذا الإصرار على البقاء.
- إني ميت والميت لا يستطيع الحركة، إنّني ميت نسي أن يموت.
- الميت يوصي بأن يدفن في أرضه.
- لم تعد أرضي بعد أن هجرتها ثم إني قد اعتدت أن أكون نفاية من نفايات هذه المدينة.
إيمان عبدالوهاب حميد