د. حسام الدين فياض - نظرية الصراع الاجتماعي المحدثة: أدوات التحليل السوسيولوجي، مرتكزات المفاهيم، والأسس الإبستمولوجية لفهم الواقع الاجتماعي

تمثل نظرية الصراع الاجتماعي المحدثة امتداداً نقدياً للتصورات الماركسية الكلاسيكية، لكنها أعادت تعريف مفهوم الصراع من كونه ظاهرة مادية طبقية إلى كونه آلية دينامية تنبثق من البنى السلطوية والتنظيمية داخل المجتمع. فقد رأى رالف داهرندورف ولويس كوزر أن الصراع لا يمكن فهمه باعتباره نقيضاً للنظام الاجتماعي، بل بوصفه قوة مولدة للتغير والتوازن في آن واحد.
يركز داهرندورف على العلاقة بين السلطة والتنظيم، حيث تنشأ التناقضات من التوزيع غير المتكافئ للنفوذ داخل المؤسسات، وهو يرى أن الصراع ليس انحرافاً عن القاعدة، بل هو جزء من بنية النظام نفسه. أما كوزر فقد طور رؤية تكاملية تبرز الدور البناء للصراع في تعزيز التماسك الاجتماعي، مؤكداً أن الصراع يساهم في تجديد العلاقات الاجتماعية من خلال كشف التناقضات الكامنة وتكييف البنى القائمة.
بهذا الشكل، تحولت نظرية الصراع المحدثة إلى منظور يفسر المجتمع كنسق دينامي يتوازن بين الاستقرار والتحول عبر آليات الصراع المنظم والشرعي.

أولاً- أدوات التحليل السوسيولوجي:

تعتمد نظرية الصراع المحدثة عند داهرندورف وكوزر على أدوات تحليلية تجمع بين النسقية البنيوية والدينامية التفاعلية، ومن أبرزها ما يلي:
1. تحليل البنية السلطوية والمؤسسية: يعتبر هذا التحليل الأداة الأساسية في فكر داهرندورف، إذ يرى أن كل تنظيم اجتماعي يحتوي على مواقع للسلطة ومواقع للخضوع، وأن هذا التباين هو ما يخلق إمكانات الصراع. فالمجتمع، وفق رؤيته، يتكون من علاقات سلطة تعيد إنتاج التراتب الاجتماعي عبر آليات الشرعية والانضباط. هذا التحليل يمكن الباحث من كشف مصادر التوتر داخل المؤسسات كالنقابات والمدارس والبيروقراطيات السياسية.
2. التحليل الوظيفي للصراع: عند كوزر، يمثل الصراع عملية اجتماعية ضرورية لاستمرارية النظام. فالمجتمعات لا تستقر إلا بقدر ما تستوعب الصراع في بنيتها. لذا يستخدم التحليل الوظيفي لفهم كيف يسهم الصراع في تقوية الروابط الداخلية للجماعة عبر تحديد الأعداء أو التحديات المشتركة. وهو يرى أن الصراع يحافظ على حدود الجماعة من خلال توضيح هوية الأعضاء ومصالحهم الجمعية.
3. التحليل المقارن للأنساق الاجتماعية: يستخدم لمقارنة أنماط الصراع في مجتمعات متعددة أو مؤسسات مختلفة، بهدف تبيان ما إذا كانت الصراعات تدار بأسلوب بنّاء أو تؤدي إلى تفكك النظام.
4. تحليل التغير البنيوي: تعتبر الأداة التي تجمع بين توجهات المنظرين، إذ يستخدم لتحديد ما إذا كانت نتائج الصراع تفضي إلى إعادة توزيع السلطة أو إلى ترسيخها ضمن أنماط جديدة من السيطرة.

ثانياً- مرتكزات المفاهيم:
تقوم النظرية المحدثة للصراع عند داهرندورف وكوزر على مجموعة من المفاهيم النظرية المترابطة، تشكل الإطار المفاهيمي لفهم التوترات الاجتماعية، وهي كالآتي:
- السلطة: عند داهرندورف، السلطة ليست مجرد قوة قهرية بل هي بنية مؤسسية تنتج علاقات السيطرة من خلال الأدوار الاجتماعية. وهي تعد المحرك الأساسي للصراع لأنها تخلق تفاوتاً دائماً في الفرص والمكاسب.
- المصلحة: تمثل المفهوم المركزي في تحليل الصراع، فالمجتمع يتكون من جماعات ذات مصالح متباينة، تسعى إلى الدفاع عن مواردها أو توسيعها. ويرى داهرندورف أن الصراع بين المصالح هو ما يدفع نحو الإصلاح والتجديد الاجتماعي.
- التكامل: عند كوزر، الصراع لا يقود دائماً إلى الانقسام، بل يمكن أن يعيد إنتاج التماسك الاجتماعي من خلال تصفية التناقضات. فالصراع البنّاء يعمل كصمام أمان يحمي الجماعة من الانفجار المفاجئ.
- التغير: يمثل النتيجة الطبيعية للصراع، إذ يفضي إلى تعديل القيم والبنى والعلاقات السلطوية. فالتغير ليس حدثاً طارئاً بل عملية مستمرة لتوازن القوى داخل المجتمع.
هذه المفاهيم الأربعة تظهر كيف استطاع داهرندورف وكوزر تجاوز الثنائية الكلاسيكية بين النظام والفوضى، ليقدما تصوراً يرى المجتمع ككيان حي يتجدّد من خلال التوتر والصراع المنظم.

ثالثاً- الأسس الابستمولوجية:
تقوم الأسس الابستمولوجية في نظرية الصراع الاجتماعي المحدثة على رؤية نقدية تتجاوز النموذج الوضعي في علم الاجتماع نحو فهم جدلي يتعامل مع المجتمع بوصفه فضاءً متغيراً تحكمه علاقات القوة والمعنى.
يؤكد رالف داهرندورف أن المعرفة السوسيولوجية ليست محايدة، لأنها تُنتَج في إطار منظومات سلطوية تحدد ما يعد معرفة مشروعة. لذلك، فإن التحليل السوسيولوجي هو فعل نقدي بالضرورة، لأنه يكشف علاقات السيطرة التي تُخفيها البنى الاجتماعية.
فمن هذا المنظور، يصبح الصراع ليس مجرد موضوع للمعرفة، بل أداة لإنتاجها، إذ لا يمكن فهم المجتمع إلا عبر تحليل تناقضاته البنيوية. فالمعرفة هنا تنشأ من التوتر بين الواقع القائم والإمكان التاريخي، أي بين ما هو مفروض بنيوياً وما يمكن تغييره بفعل الفاعلين الاجتماعيين.
أما لويس كوزر فيقدم بعداً ابستمولوجياً مغايراً من حيث المنطلق، لكنه مكمل في الجوهر، إذ يرى أن الصراع يكشف عن الطبيعة الكامنة للعلاقات الاجتماعية، فيجعل ما هو ضمني ظاهراً للوعي السوسيولوجي. فالمعرفة، في منظور كوزر، لا تنبع من التوافق بل من التوتر، لأنها تعيد للباحث القدرة على رؤية ما يتوارى خلف الاستقرار الظاهري للنظام. ومن ثم، فالصراع يؤدي وظيفة معرفية مزدوجة: يفضح آليات القهر والهيمنة، وفي الوقت ذاته يُنتج الوعي الاجتماعي النقدي الذي يمهد للتغيير البنيوي. بهذا المعنى، تتأسس الابستمولوجيا في النظرية المحدثة على ثلاثة مبادئ محورية، وهي كالآتي:
1. الجدلية بين الصراع والمعرفة: فكل معرفة حقيقية هي ثمرة توتر نقدي يكشف تناقضات الواقع.
2. الترابط بين السلطة والخطاب: إذ تنتج المعرفة داخل أنساق من القوة، لكنها قادرة في الوقت نفسه على مساءلتها.
3. دينامية الوعي الاجتماعي: المعرفة ليست مجرد انعكاس للواقع، بل هي أداة لتغييره، لأنها تسهم في إعادة بناء الفهم الجماعي للعلاقات الاجتماعية.
ومن خلال هذا التأسيس، تتحول نظرية الصراع المحدثة إلى مشروع ابستمولوجي تحرري، يرى أن فهم المجتمع لا يتحقق إلا من خلال الانخراط النقدي في تناقضاته، وأن مهمة السوسيولوجيا ليست فقط تفسير الصراع، بل أيضاً تحرير الوعي الاجتماعي من أشكال اللامساواة البنيوية.

خلاصة القول
، تجسد نظرية الصراع الاجتماعي المحدثة عند داهرندورف وكوزر تحولاً جوهرياً في علم الاجتماع الحديث من الاهتمام بالثبات إلى تحليل دينامية التحول. فقد أعادت تعريف الصراع بوصفه قوة بنائية تنظم المجتمع بدل أن تهدده، وأكدت أن التناقض ليس خللاً بل ضرورة لإعادة التوازن.
ومن خلال أدواتها التحليلية الدقيقة ومفاهيمها المتكاملة، أسست هذه النظرية لفهم أعمق لعلاقات السلطة والمصلحة والتغير، مما جعلها أحد المداخل الأكثر خصوبة في تفسير الحركات الاجتماعية والنزاعات المؤسسية في العالم المعاصر، فهي نظرية تعيد الاعتبار للبعد الجدلي في الحياة الاجتماعية، وتبرز أن التقدم لا يتحقق إلا من خلال مواجهة التناقضات لا إنكارها.
---------------------------------------------------------
- المراجع المعتمدة:

1-Dahrendorf, R. (2022). Class and class conflict in industrial society. (10th ed.). London: Routledge.
2- Coser, L. A. (2001). The functions of social conflict. (International Library of Sociology ed.). London: Routledge.
3- فياض، حسام الدين. (2023). نظرية الصراع الاجتماعي المعاصرة عند رالف داهرندورف (دراسة تحليلية - نقدية). العدد: 7619. موقع الحوار المتمدن. حسام الدين فياض - نظرية الصراع الاجتماعي المعاصرة عند رالف داهرندورف (دراسة تحليلية - نقدية)
4- فياض، حسام الدين. (2023). نظرية الصراع الاجتماعي الإيجابي عند لويس كوزر (قراءة تحليلية – نقدية). موقع أنطولوجيا. د. حسام الدين فياض - نظرية الصراع الاجتماعي الإيجابي عند لويس كوزر (قراءة تحليلية – نقدية)
5- ريتزر، ج.، وستيبنسكي، ج. (2021). النظريات الحديثة في علم الاجتماع. ط1. ( مراجعة علمية، ذ. م. الدوسري وآخرون). الرياض: مكتبة جرير والجمعية السعودية للدراسات الاجتماعية.
6- والاس، ر.، وولف، أ. (2011/2012). النظرية المعاصرة في علم الاجتماع: تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية. ط1. (ت. محمد عبد الكريم الحوراني). عمان: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع.
7- تيرنر، ج. هـ. (2019). علم الاجتماع النظري: مقدمة موجزة لاثنتي عشرة نظرية اجتماعية. ط1. (ت. موضي مطني الشمري). الرياض: دار جامعة الملك سعود للنشر.
8- تيماشيف، نيقولا. (1978). نظرية علم الاجتماع (طبيعتها وتطورها). ط5. (ت. محمود عودة وآخرون). (م. محمد عاطف غيث). القاهرة: دار المعارف.


باحث وأكاديمي من سوريا
د. حسام الدين فياض أستاذ النظرية الاجتماعية المعاصرة جامعة ماردين - تركيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى