محمد احمد طالبي - (التسبيح) للزجال سيمو النووي قراءة نقدية

العنوان هو مفتاح تأويلي أول للنص. وهو تركيب مزدوج دلاليا:
زجلية: تحيل إلى الشعر الشعبي المنطوق باللهجة المغربية، بما يحمل من تلوينات صوتية وموسيقية وطقوس أداء شفاهي.
الزجل في الثقافة المغربية ليس مجرد قول شعري، بل هو طريقة للتواصل الجمعي، وللتعبير عن الانفعال الوجداني والاجتماعي.
(التسبيح) كلمة دينية ذات حمولة روحانية، تدل على الذكر، التمجيد، التطهير، وإعادة الانسجام بين النفس والوجود.
إذا العنوان في عمقه يزاوج بين الشعبي والقدسي، بين الأرضي والسماوي، بين الصوت الجماعي والوجدان الفردي.
فـالتسبيح هنا ليس فقط دينيا، بل عملية داخلية للشفاء بالكلمة، والزجل هو وسيلته.
القصيدة إذن تبدأ من عنوانها معلنة عن طقس لغوي روحي: تسبيح شعبي بالكلمة.
تشتات حروفي
تحلت عقدة تسبيحي
ؤ تسرسبت منو حبات
كل حبة تكركبت
في مكان عميق
غابر مظالم
هنا نبدأ بصوت ذاتي منكسر: الحروف تتشتت، والعقدة (عقدة التسبيح) تنحل، أي أن الصمت الطويل ينكسر، فتنفجر الكلمات مثل حبات مسبحة تتناثر.
الصورة المركزية هنا هي صورة المسبحة (التسبيح) التي تنقطع حباتها وتتدحرج.
كل حبة ترمز إلى كلمة، إلى فكرة، إلى نغمة.
لكن بدل أن تكون وسيلة للذكر، صارت وسيلة للتيه.
(في مكان عميق / غابر مظالم)
هذا المكان ليس جغرافيا، بل مكان نفسي وجودي مظلم، فيه الذاكرة والألم والذنوب الموروثة
(غابر مظالم )تركيب فريد يوحي بالقدم، بالجرح التاريخي، بالانكسارات الطويلة التي رسخت في الذاكرة.
هذا المقطع يؤسس لموضوع مركزي: انفلات اللغة وتبعثر المعنى.
الشاعر يواجه انفجار الحروف كأنها تفقد سيطرة التسبيح، فيتحول الذكر من طقس روحي إلى انهيار لغوي.
سباب الحلة
خلة في صروفي
رجحت كفة الميزان
ؤ تاهت صربة لكلام
ؤ تاهت صربة لكلام
يتكرر هنا التواء الإيقاع، مع تكرار عبارة (ؤ تاهت صربة لكلام) كأنها لازمة موسيقية.
اللغة هنا عامية مكثفة، تقطع الجمل وتعيدها تكرار يحاكي حالة التيه الداخلي.
(سباب الحلة) و(خلة في صروفي) تعني أن سبب الحالة (أو العلة) هو في (صروفي) أي في أحوالي، في داخلي.
الذات هنا تعترف بانكسارها الداخلي.
(رجحت كفة الميزان) توحي بأن ميزان العدل أو التوازن النفسي اختل.
(تاهت صربة لكلام) أي ضاعت ضربة الإيقاع تعبير موسيقي شعري جميل، كأنه يقول:
حتى الكلام ما بقاش يعرف لحنو.
المقطع يبرز لحظة ضياع الإيقاع الداخلي للذات، لحظة صمت المعنى رغم امتلاء اللغة.
التسبيح الذي كان ينبغي أن يضبط الإيقاع تحول إلى نشاز وجودي.
ف عز الموسم ؤ التبريدة
البارود بارد
ؤ العمارة هازين مكاحل خاوية
ؤ لخيالة بلا علام
تراب المحرك
غلباتو الحشمة
غابت التزغريدة
تصمكات لوذان
ؤ سادت الترعيدة
ولات لخيل مبعثرة فالمسلك
هذا المقطع من أجمل مقاطع القصيدة من حيث التمثيل التصويري والرمزي.
ننتقل من الذات إلى مشهد خارجي رمزي: لوحة محرك جامد، ميت.
(البارود بارد) المحرك بلا نار، رمزية لانطفاء الفعل، ضياع الحماسة، موت المطلب.
(الخيالة بلا علام) رمز لما هو بلا وجهة.
(تراب المحرك غلباتو الحشمة) صورة مذهلة: الأرض تخجل، كأنها تتحمل ذنبا لم ترتكبه.
(غابت التزغريدة) غابت أصوات الفرح النسائي (الزغاريد)، دلالة على الحداد الجماعي.
كل هذا يكون مشهد انطفاء جماعي:
الحركة انتهت، الصدى بقي، الخيول مبعثرة، والأصوات خائفة.
راني زاد خوفي
ؤتشغل بالي بالتخمام
للاه يا شفايفي لطفي
ببنات العقل عطفي
طلقي سراح لعنان
ؤروفي
ردي عل لقلام السلام
رخفي و ثرات
البلحوحة ؤ بوحي،
يبياض سواد لوحي
يتفك رباط اللسان
نزمم شكايا ؤ نوحي
ؤما داير في الزمان
ؤما داير في الزمان
المقطع هنا انتقالي: من مشهد المحرك إلى صوت الذات المتأملة.
(زاد خوفي)و(تشغل بالي بالتخمام) التأمل (التخمام) يستبدل بالتفكير المنهك.
مناجاة الشفاه والعقل توحي برغبة في تحرير اللغة من عقدها.
(طلقي سراح لعنان) تحرر القول من ربقة الصمت.
(يتفك رباط اللسان) لحظة انفتاح، شفاء لغوي.
لكن رغم هذا التحرر، تنتهي بـ (ؤما داير في الزمان) مرتين، أي:
(ما نافع والو في الزمان)، إحساس بعدم الجدوى، بالانكسار أمام الزمن.
هنا نبلغ عمق التسبيح: الشاعر يسبح كي يستعيد سلامه الداخلي، لكنه يصطدم بواقع الوجود لا شيء يدوم، ولا شيء يصلح تماما الكسر.
آش تسوى الشفرة بلا نصل
راها خمرات في جوفي
بغيت نشوفها حور
خايف عليها ثمة تبور
بغيت نشوفها
صرح مبني
حرف حرف
كلمة كلمة
بيت بيت
يسكنو كل بوهالي مجدوب
غاوي لكلام
القصيدة تتحول إلى تأمل في الشعر نفسه.
(آش تسوى الشفرة بلا نصل) الكلمة بلا قوة، الشعر بلا معنى، اللغة بلا صدق.
(راها خمرات في جوفي) الشعر يتحول إلى خمر روحي، إلى طاقة داخلية مسكرة.
تكرار (بغيت نشوفها) يبرز هوس الخلق الشعري، الرغبة في رؤية القصيدة متجسدة ككائن حي.
(صرح مبني حرف حرف) القصيدة كمعمار، كمدينة رمزية يسكنها (المجدوب) أي العاشق المجنون بالكلمة.
القصيدة تتأمل ماهية الكلمة: كيف تبني العالم، وكيف تُؤوي المجانين بالحرف (الأنبياء، الشعراء).
هنا التسبيح يصبح تسبيحا للكلمة ذاتها.
بغيت نشوفها
وردة في جنان
تفوح منها نسام
ذيع في كل موضع ؤمكان.
بغيت نشوفها
نجمة في السما
ضوّي طريق
كل عاشق الحرف ولهان
تتحول القصيدة إلى رمز للجمال، للنور، للحب.
(وردة في جنان) نقاء، خصوبة، أنوثة.
(نجمة في السما) هداية، ضوء شعري.
هذه المقاطع تمثل ذروة التجلي بعد التيه:
من الانكسار في البداية إلى الرؤية النورانية في النهاية.
القصيدة صارت كائنا مضيئا هي (تسبيحة) ناجحة بعد تطهير طويل.
آه، عليك يا القصيدة
جمعي جاليلك ؤ تحزمي
ب بيات مقادة القوافي
عطيني جملة مفيدة
نكمّد عاليلك
ؤ نطفي بيها نار زنيدة
ؤ شلا عوافي
شاعلة هنا ؤلهيه
ؤ ثمة في لحصيدة
لا تكوني حت انت عنيدة
تزين ليك
كثرة الفهامة فعايلك.
ليختتم النص بحوار صريح مع القصيدة:
الشاعر يخاطبها كما تخاطب أنثى متمردة.
(آه عليك يا القصيدة) نداء وجداني، فيه عتاب ومودة.
(جمعي جاليلك و تحزمي) أمر شعري جميل، فيه دعوة للقصيدة أن تتماسك، أن تتزن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى