ما أن تجتاز بوابة (المتحف الحربي) حتى تطالعك بندقية قديمة من نوع (برنو) معلقة في صدر القاعة، وتحتها مباشرة صورة كبيرة لشيخ في العقد السابع من عمره، رافعا يده اليمنى، مشيرا بإصبعيه بعلامة النصر، ويرفع بيده اليسرى – مزهوا – بندقية ويبدو في الصورة واضعا إحدى قدميه – بكبرياء – فوق حطام ذليل لطائرة (أباتشي).
إنه جدي (مهاوش) الذي ذاع صيته في الآفاق بين ليلة وضحاها، بعد أن كانت شهرته لا تتجاوز مديرية ناحيتنا وما جاورها.
الجميع يعرف حكاياته العجيبة، ويتندر ببراعته المزعومة بالتصويب الدقيق الذي لا يخطئ الهدف ببندقيته (البرنو) التي ورثها عن أبيه..
وكان يدعي في أحاديثه مع أصدقائه عن براعته بأنه يتسلى نهارا في مطاردة الخنازير البرية واصطيادها وبأن الطيور المهاجرة بالنسبة إليه أهدافا سهلة يسقطها قبل أن تحط رحالها في المستنقعات المجاورة لمزرعته.
ناهيك عن قصص مغامراته في مطاردة اللصوص في الليالي الحالكات إذا ما سولت لهم أنفسهم بالاقتراب من ممتلكاته.
كانت (البرنو) لا تفارق كتفه ليلا ولا نهارا حتى لقب في الناحية وما جاورها (مهاوش برنو).
استيقظ مبكرا – ذلك الصباح – كعادته، وتنكب بندقيته وقاد قطيعه صوب مزرعته. وما أن تجاوز منتصفها، حتى توقف وعقدت الدهشة لسانه، عمود من الدخان الكثيف يتصاعد إلى كبد السماء، ورائحة شيء يحترق، أخذ يقترب بشيء من الحذر والخوف – يا ألله – ما ذا أرى.. ما هذه ؟
استدار حول بقايا الهيكل المحترق، متفحصا، ثم صاح متعجبا :
– إنها طيارة – ما أضخمها.. يا إلهي :
ثم انطلق مسرعا إلى داره وهو غير مصدق ما رأت عيناه..
– زامل، زامل، أنهض بسرعة، يا ولدي
– دعني يا والدي، أنا تعبان وسهران طوال الليل.
انهض يا زامل، مصيبة، كارثة، في مزرعتنا، أسرع.
نهض (زامل) مذعورا، يجري مسرعا خلف أبيه صوب المزرعة.
عقدت الدهشة لسان الابن حين تطلع صوب الهيكل الضخم وبقايا الدخان المتصاعد.
نقل زامل بصره بين الطائرة ووجه أبيه المتغضن وسرعان ما ومضت في رأسه فكرة..
– اسمع يا والدي.. إنها ضربة حظ.. هذه فرصة العمر..
– ما ذا تقصد ؟ ألا ترى، أنها مصيبة وبلوى
– دعني أتصرف.. وسوف ترى،
قاد عمي (زامل) دراجته النارية – على عجل – صوب الناحية.
– ما ذا تريد، في هذا الصباح يا فتاح يا رزاق ؟ قالها الحارس مستنكرا وهو يفرك عينيه من بقايا النعاس.
– عندي خبر للمدير، هام وخطير، هيا أسرع، فالخبر لا يحتمل الانتظار.
– انتظر، سأخبر المدير.
ارتدى المدير ملابسه على عجل واستقبل زامل بلهفة.
– سيدي، والدي مهاوش، يبلغك السلام، ويزف لك البشرى فقد أسقط فجر هذا اليوم طائرة (أباتشي) بإطلاقة واحدة من بندقيته (البرنو) فوق مزرعتنا.
هرول المدير صوب بناية المديرية يتبعه زامل، وتناول سماعة الهاتف بيد مرتجفة…
– آلو.. سيدي المحافظ.. طائرة. فجرا. نعم، مهاوش.
واهتزت أسلاك الهواتف ما بين المحافظ ووزير الإعلام من جهة، والوزير والمسؤولين من جهة أخرى، وسرعان ما كلف وزير الإعلام بمتابعة وتغطية أخبار الحادث.
انتشر الخبر وأصبح على كل لسان بعد إذاعته مفصلا عدة مرات في نشرات الأخبار وظهور جدي (مهاوش) في التلفزيون مبتسما وقدمه فوق حطام الطائرة.
صارت قريتنا محجا، ودار جدي قبلة للزائرين من رجالات الدولة والمراسلين والمصورين والجميع يبدون إعجابهم بشجاعة جدي التي لا مثيل لها في التاريخ. عندما كمن بين عرانيص الذرة حالما سمع أزيز الطائرة في سماء مزرعته. وبتصويب دقيق وباطلاقة واحدة اخترقت خزان الوقود، فهوت أرضا محترقة، ولكن خاب أمله حين لم يعثر على الطيار.
وكان جدي أمينا في تكرار روايته كما لقنها له عمي (زامل)..
وتكريما له وعرفانا بجميله وشجاعته أطلقت وسائل الإعلام وأجهزة الدولة الرسمية على قريتنا اسم (قرية صياد الأباتشي)
وسرعان ما نصب قوس للنصر في مدخلها تعلوه الرايات الوطنية خفاقة، وأنيرت شوارع القرية وعبدت طرقها ورصفت أرصفتها.
لقد عم الصخب قريتنا وفقدنا الهدوء في دارنا من كثرة الوفود الرسمية والشعبية، وترك الفلاحون حقولهم وأصبحوا أدلاء للوافدين، وانتعشت الحياة الاقتصادية فقد حل الاستثمار في قريتنا بأوسع أبوابه مســـتغلين اسم – مهاوش برنو صياد الأباتشي – تجاريا، إذ أقبل المستثمرون مبكرين ليحتفلوا بوضع حجر الأساس لفندق ذي خمس نجوم يطل على منتجع سياحي أعدوا تصاميمه بعناية، ناهيك عن افتتاح مطاعم الوجبات السريعة ومحلات المرطبات العديدة وكلها تحمل عنوان ولقب جدي…
بعد أشهر من ذلك الحدث.. انقلب كل شيء في قريتنا رأسا على عقب.. هدأت الضجة، وانقطع مجيء الناس للقرية، ولم يعد أحد يذكر جدي واختفى عمي زامل تحت جنح الظلام، ورفع قوس النصر وطويت راياته في وضح النهار، وأفلست الاستثمارات وأغلقت المطاعم والمحلات الأخرى، وها هو جدي يرقد – وحيدا – على فراش المرض حزينا، واهنا، اقتربت وجلست على فراشه والألم يعتصرني ثم ناديته : –
– جدي. جدي. أتسمعني؟ جاءني صوته ضعيفا، متقطعا.
– نعم، يا بني، نعم، أسمعك.
– جدي العزيز، هل حقيقة أنك أسقطت الطائرة؟
لم يسمعني جيدا، كررت السؤال بصوت مرتفع، فأجابني :
– يا بني.. إنها كانت كذبة كبيرة.. أرضت غرور الكبار.. وخدعت الصغار، وإنني لأطلب من الله العفو والمغفرة.
ثم تمتم بكلمات لم أفهم منها سوى.. احتفظ يا بني… احتفظ يا بني
وتقطعت أنفاسه وراح في غيبوبة، ولما أفاق، خاطبته:
– جدي، يا جدي، بماذا أحتفظ ؟
ولكنه لم يسمعني.. كررت سؤالي، أكثر من مرة، أفاق فجأة وأجابني بصوت واهن :
– وصيتي… احتفظ… احتفظ.. بالبرنو.. وأغمض عينيه.
* عن الزمان
إنه جدي (مهاوش) الذي ذاع صيته في الآفاق بين ليلة وضحاها، بعد أن كانت شهرته لا تتجاوز مديرية ناحيتنا وما جاورها.
الجميع يعرف حكاياته العجيبة، ويتندر ببراعته المزعومة بالتصويب الدقيق الذي لا يخطئ الهدف ببندقيته (البرنو) التي ورثها عن أبيه..
وكان يدعي في أحاديثه مع أصدقائه عن براعته بأنه يتسلى نهارا في مطاردة الخنازير البرية واصطيادها وبأن الطيور المهاجرة بالنسبة إليه أهدافا سهلة يسقطها قبل أن تحط رحالها في المستنقعات المجاورة لمزرعته.
ناهيك عن قصص مغامراته في مطاردة اللصوص في الليالي الحالكات إذا ما سولت لهم أنفسهم بالاقتراب من ممتلكاته.
كانت (البرنو) لا تفارق كتفه ليلا ولا نهارا حتى لقب في الناحية وما جاورها (مهاوش برنو).
استيقظ مبكرا – ذلك الصباح – كعادته، وتنكب بندقيته وقاد قطيعه صوب مزرعته. وما أن تجاوز منتصفها، حتى توقف وعقدت الدهشة لسانه، عمود من الدخان الكثيف يتصاعد إلى كبد السماء، ورائحة شيء يحترق، أخذ يقترب بشيء من الحذر والخوف – يا ألله – ما ذا أرى.. ما هذه ؟
استدار حول بقايا الهيكل المحترق، متفحصا، ثم صاح متعجبا :
– إنها طيارة – ما أضخمها.. يا إلهي :
ثم انطلق مسرعا إلى داره وهو غير مصدق ما رأت عيناه..
– زامل، زامل، أنهض بسرعة، يا ولدي
– دعني يا والدي، أنا تعبان وسهران طوال الليل.
انهض يا زامل، مصيبة، كارثة، في مزرعتنا، أسرع.
نهض (زامل) مذعورا، يجري مسرعا خلف أبيه صوب المزرعة.
عقدت الدهشة لسان الابن حين تطلع صوب الهيكل الضخم وبقايا الدخان المتصاعد.
نقل زامل بصره بين الطائرة ووجه أبيه المتغضن وسرعان ما ومضت في رأسه فكرة..
– اسمع يا والدي.. إنها ضربة حظ.. هذه فرصة العمر..
– ما ذا تقصد ؟ ألا ترى، أنها مصيبة وبلوى
– دعني أتصرف.. وسوف ترى،
قاد عمي (زامل) دراجته النارية – على عجل – صوب الناحية.
– ما ذا تريد، في هذا الصباح يا فتاح يا رزاق ؟ قالها الحارس مستنكرا وهو يفرك عينيه من بقايا النعاس.
– عندي خبر للمدير، هام وخطير، هيا أسرع، فالخبر لا يحتمل الانتظار.
– انتظر، سأخبر المدير.
ارتدى المدير ملابسه على عجل واستقبل زامل بلهفة.
– سيدي، والدي مهاوش، يبلغك السلام، ويزف لك البشرى فقد أسقط فجر هذا اليوم طائرة (أباتشي) بإطلاقة واحدة من بندقيته (البرنو) فوق مزرعتنا.
هرول المدير صوب بناية المديرية يتبعه زامل، وتناول سماعة الهاتف بيد مرتجفة…
– آلو.. سيدي المحافظ.. طائرة. فجرا. نعم، مهاوش.
واهتزت أسلاك الهواتف ما بين المحافظ ووزير الإعلام من جهة، والوزير والمسؤولين من جهة أخرى، وسرعان ما كلف وزير الإعلام بمتابعة وتغطية أخبار الحادث.
انتشر الخبر وأصبح على كل لسان بعد إذاعته مفصلا عدة مرات في نشرات الأخبار وظهور جدي (مهاوش) في التلفزيون مبتسما وقدمه فوق حطام الطائرة.
صارت قريتنا محجا، ودار جدي قبلة للزائرين من رجالات الدولة والمراسلين والمصورين والجميع يبدون إعجابهم بشجاعة جدي التي لا مثيل لها في التاريخ. عندما كمن بين عرانيص الذرة حالما سمع أزيز الطائرة في سماء مزرعته. وبتصويب دقيق وباطلاقة واحدة اخترقت خزان الوقود، فهوت أرضا محترقة، ولكن خاب أمله حين لم يعثر على الطيار.
وكان جدي أمينا في تكرار روايته كما لقنها له عمي (زامل)..
وتكريما له وعرفانا بجميله وشجاعته أطلقت وسائل الإعلام وأجهزة الدولة الرسمية على قريتنا اسم (قرية صياد الأباتشي)
وسرعان ما نصب قوس للنصر في مدخلها تعلوه الرايات الوطنية خفاقة، وأنيرت شوارع القرية وعبدت طرقها ورصفت أرصفتها.
لقد عم الصخب قريتنا وفقدنا الهدوء في دارنا من كثرة الوفود الرسمية والشعبية، وترك الفلاحون حقولهم وأصبحوا أدلاء للوافدين، وانتعشت الحياة الاقتصادية فقد حل الاستثمار في قريتنا بأوسع أبوابه مســـتغلين اسم – مهاوش برنو صياد الأباتشي – تجاريا، إذ أقبل المستثمرون مبكرين ليحتفلوا بوضع حجر الأساس لفندق ذي خمس نجوم يطل على منتجع سياحي أعدوا تصاميمه بعناية، ناهيك عن افتتاح مطاعم الوجبات السريعة ومحلات المرطبات العديدة وكلها تحمل عنوان ولقب جدي…
بعد أشهر من ذلك الحدث.. انقلب كل شيء في قريتنا رأسا على عقب.. هدأت الضجة، وانقطع مجيء الناس للقرية، ولم يعد أحد يذكر جدي واختفى عمي زامل تحت جنح الظلام، ورفع قوس النصر وطويت راياته في وضح النهار، وأفلست الاستثمارات وأغلقت المطاعم والمحلات الأخرى، وها هو جدي يرقد – وحيدا – على فراش المرض حزينا، واهنا، اقتربت وجلست على فراشه والألم يعتصرني ثم ناديته : –
– جدي. جدي. أتسمعني؟ جاءني صوته ضعيفا، متقطعا.
– نعم، يا بني، نعم، أسمعك.
– جدي العزيز، هل حقيقة أنك أسقطت الطائرة؟
لم يسمعني جيدا، كررت السؤال بصوت مرتفع، فأجابني :
– يا بني.. إنها كانت كذبة كبيرة.. أرضت غرور الكبار.. وخدعت الصغار، وإنني لأطلب من الله العفو والمغفرة.
ثم تمتم بكلمات لم أفهم منها سوى.. احتفظ يا بني… احتفظ يا بني
وتقطعت أنفاسه وراح في غيبوبة، ولما أفاق، خاطبته:
– جدي، يا جدي، بماذا أحتفظ ؟
ولكنه لم يسمعني.. كررت سؤالي، أكثر من مرة، أفاق فجأة وأجابني بصوت واهن :
– وصيتي… احتفظ… احتفظ.. بالبرنو.. وأغمض عينيه.
* عن الزمان