عبد الرحيم جيران - ألف ليلة وليلة وإشكالية التدوين

لا تكفّ «ألف ليلة وليلة» عن مُخادعة الدارسين، إنّها تُظهر في الوقت الذي تُخفي فيه، وهي في هذا تفتح دائرة التأويل وتُغلقها في الوقت ذاته، أي أنّها تتضمّن في بنيتها وعياً نصيّاً داخليّاً يجعل كلّ انفتاح غير نهائيٍّ في التأويل مُقيَّدًا. ومن ضمن ما تفتحه وتُغلقه مسألة تدوينها في شقّيْها المُخيّل والواقعيّ، واتّصالها بالزمان والتاريخ ومعرفي épistémè الحكي العربيّ.
إنّ الأهمّ في فعل السرد الذي مارسته شهرزاد يمثُل في التقويم النهائيّ لمتلقّيه، والماثل في الكلمة الآمرة لشهريار التي تُقرِّر مُستقبل الليالي بأن تُكتب بحبر من ذهب؛ أي أن تُدوَّن في كتاب، بما يُفيده هذا من حفظ وصون وبقاء. وهذه الكلمة الآمرة هي المُنتجة للّيالي في نهاية المطاف، والمُحدِّدة لطبيعة فعل السرد ووجهاته. كما أنّها تتكفَّل بصياغة المسافة الزمانيّة بين فعل السرد الحيويّ الحقيقيّ لشهرزاد وفعل النقل السردي الذي مارسه المُدوِّن المُخيَّل والمُدوِّنون الواقعيّون المجهولون. يقتضي هذا الأمر- إذن- مُعالجة علاقة فعل السرد بالتدوين انطلاقًا من الطابع الحيويّ الذي يُميِّز المروي فيه، فالسرّاد المُختلفون الذين يَرِدون داخل اللّيالي هم من طبيعة أَنطولوجيّة (أشخاص من لحم ودم)، وإن كانوا مُخيّلين، بمن فيهم شهرزد، وينتمون إلى الحكايات بوصفهم سُرّاداً داخليّين على خلاف السارد المُدوّن الذي يتّصف بكونه سارداً خارجيّاً على الرغم من طبيعته المُخيَّلة التي هي مُتّصلة بكلمة شهريار الآمرة. ويختلف السارد المُدوِّن عن بقية السرّاد الداخليّين في كونه لا يحمل اسماً أو يقوم بدور موضوعاتيّ حكائيّ (أمير- صياد تاجر…الخ)، فهو إذن إمكان اقتراحيّ يقع فعله خارج الحكايات، ويتّسم بوضع نفعيّ مُستقبلي. وهذا الوضع النفعيّ نوعان بحسب نوع المُدوِّن: أ- وضع نفعيّ مُرتبط بالمُدوِّن الذي يُحدِّد في نهاية الحكاية الإطار، ويرتبط دوره بالاستجابة لأمر شهريار، ولا بدّ أن يكُون ذا وظيفة في مُؤسَّسة تدوين المُعطيات المُتّصلة بشؤون الدولة، ويكُون فعل سرده غير حرّ ومُقيَّداً بوظيفته هذه بوضع استعماليّ يتّصل بمن تعاقب على تدوين الحكايات من طريق الإضافة إليها، ويرتبط دور هذا المُدوِّن بالاستفادة من رواية حكايات ألف ليلة وليلة لصالحه، ويكون فعل سرده حرّاً غير مرتبط بأيّة كلمة آمرة. ومهما كان نوع المُدوِّن ووضعه فزمان فعله تالٍ على زمان الحكاية الإطار والحكايات المُؤطَّرة، وينبغي التمييز بالنسبة إلى المُدوِّن المخيل في النصّ بين فعله السرديّ ووجوده الأَنطولوجي، ففعله السرديّ الناقل تالٍ على زمان سرد الحكايات من قِبَل شهرزاد، لكنّ وجوده الأَنطولوجي مُزامِن لها. بيد أنّ ما يظلّ محطّ إشكال هو السؤال عن الكيفية التي حصل بوساطتها على الحكايات: هل كان مُتواجداً في أثناء الليالي بوصفه ذاتاً مُنتمية إلى محفل السماع إلى جانب شهريار ودنيا زاد؟ يُعَدُّ هذا الأمر غير مقبول، لأسباب عدّة، أوّلها أنّ النصّ لا يذكر شيئاً من هذا القبيل، وثانيها، لا يُعقل أن يَنْضمّ غريبٌ أقلَّ رتبةً إلى سياق عائليّ حميم، وثالثها، المكان الخطابيّ الذي يُحدَّد في المخدع، والذي لا سبيل إلى معرفة ما يحدث فيه. وإذا كان تواجد السارد المُدوِّن المُخيَّل مُستحيلاً في أثناء سرد شهرزاد يبقى هناك افتراض كون الحكايات قد أُعيد سردها عليه، وفي هذه الحالة يُطرح سؤال من أعاد سرد الليالي عليه، فلا يُمْكِن أن تكُون شهرزاد هي من فعلت لسببين: أوّلهما، كون وضعها الملكيّ لا يسمح بهذا، وثانيهما، الحذر من مُجالستها غريباً عنها، وبخاصّة إذا ما أُدخلت في المُعادلة تجربة الخيانة القاسية التي تعرّض لها شهريار مع زوجته الأولى. يبقى الافتراض الأنسب هو كون دنيا زاد هي من تكفّلت بسرد الحكايا على المُدوِّن السارد المُخيّل.
ومهما كانت الطريقة التي بلغت بها الحكايات إلى المُدوِّن السارد المخيّل فإنّ ما ينقله هو سرد غير مباشر منقول، أي سرد ينقل ما روته شهرزاد، وما نقلته هي من سرد عن سرّاد داخليّين تُشبِههم في كثير من حالاتهم، وبخاصّة في اعتماد الحكاية وسيلة للخروج من ورطة يجدون أنفسهم مُورَّطين فيها بفعل مُصادفة ما، لكن ما ينبغي الوقوف عنده بالنسبة إلى المُدوِّن السارد المُخيَّل هو كون فعله لم ينغلق، ولم يكن نهائيّاً، أي أنّه لم يقفل صيرورة السرد بوساطة اصطناع أسلوب مُميَّز لا يقبل التقليد، ووسمه بطابعه الخاص الفردانيّ. ومن ثمّة كان فعل سرده ضحية الحكاية الإطار والبنية السرديّة التوالديّة اللتين تسمحان بتسلّل الدخيل الحكائيّ إليها. ويتمثَل هذا الدخيل في مُضاعفة المُدوِّن السارد المُخيَّل من قِبَل سرّاد خارجيّين تعاقبوا على رواية الليالي والإضافة إلى مخزونها السرديّ وفق تطلّبات عصورهم وتقلّباتها. ومن ثمّة يصير فعل السرد المُسنَد إلى المُدوِّن السارد المخيَّل تأسيسيّاً مُوجِّهاً لباقي السرود اللاحقة، أي أنّه يُوفِّر النموذج البنائيّ لكلّ الحكايات الدخيلة اللاحقة عليه. وتتحوّل «ألف ليلة وليلة»- بمُوجب هذه الخاصّية- إلى نصٍّ مفتوح على أزمنة تدوينيّة واقعية غير زمانها الأصليّ المُخيَّل. كما أنّ التدوين يفقد بهذا الانفتاح صفته المُخيَّلة فوق الزمانيّة ليتحوّل- على الرغم من مجهولية المُدوِّنين الواقعيّين- إلى تدوين واقعيّ تاريخيّ.
يُعدُّ كلّ انفتاح على تدوينات مُستقبليّة مُؤشِّراً على التعدُّد (تعدّد السرّاد والنُّسَخ)، لكنّ هذا التعدّد ظلّ مُراقباً من قِبَل وحدة لاحمة، وتتمثَّل هذه الوحدة في ما يُشكِّل هوية الليالي بوصفها نصّاً، والمقصود بهذه الهوية استمرار خاصّيتيْن سرديّتيْن في كلّ التدوينات اللاحقة على التدوين المُخيَّل، وهما: الحكاية الإطار والبنية التوالديّة. لكنّ هناك سؤالاً يُطرح في صدد هذا التعدّد: ألا يُعَدُّ وجوده دليلاً على إرادة مُضادّة لإرادة شهريار في صون الليالي من الضياع، وفي الحفاظ عليها كما هي بعيدة عن كلّ تدخّل عابث؟ يقودنا هذا السؤال إلى سؤال آخر يتّصل بفهم التدوين. وهذا السؤال الثاني يفتح أفق تأويل فعل السرد بما هو تدوين مُتعدِّد على إشكالات تتعلّق بجانب مُهمٍّ من معرفي الحكي العربيّ. ويتعلَّق الأمر- هنا- بأسئلة تتّصل بوضع مسألة التدوين المُتعلّقة بالليالي في نطاق التدوين على نحو عامّ في تاريخ الكتابة العربية، وارتباط هذه الأخيرة بالتحوّلات التي طالت مُمارسة الكلام في مرحلة مُعيّنة من هذا التاريخ، وارتباط هذه التحوّلات بسياق سياسيّ عامّ. هذا ما سنُعالجه في المقالة المُقبلة.

أكاديمي وأديب مغربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى