في الابتدائية كنت طفلة بدينة، أتحرك ببطء، ألهث حين أبذل أتفه مجهود؛ لهذا كنت مسخرة لأطفال حينا.. وكثير منهم لم يكن يروق له اللعب معي -عدا لعبة الغميضة- فقط، لأني أتأخر في البحث عنهم ويظلون وقتها يتغامزون ويقهقهون دون أن أعرف أماكنهم. وأحيانا تناديني أمي قبل أن أبدأ اللعب فتوبّخني لأني أخفيت قطعة أثاث كسرتها أو بقايا حلوى خبأتها تحت مخدتي فتسحبني بقوة نحو المنزل وتصفع الباب في وجوههم وأظل أرقبهم من نافذتي بصمتٍ وحسرة.
وكغيري من الأطفال كنت أحب اللعب لكنّي أفتقد إلى أصدقاء يتوقون ويتسابقون للعب معي، وكم خفت أن أكبر قبل أن أدور في الحي برفقتهم تجمعنا طابة الأقمشة ومعلبات العصائر الفارغة ونط الحبل وسباق الكراسي وعرائس الطين والقفز برجل واحدة على مربعات الفحم والطباشير.
كانت شهيتي للعب أقوى من شهيتي للأكل ومع هذا لم أستطع التخلص من تلك الكيلوهات المخيفة من وزني. ولأني كنت طفلة غير مدللة.. هربت كثيراً من أمي وقت انشغالها بجلسات النميمة التي تجمعها بصديقاتها بعد الظهيرة لأفتش عن طفلٍ يقاسمني اللعب دون تذمر.. كان هروبي مثل هذه الأوقات سهلاً، عدا يوم الجمعة الذي كان مناسبةً مملة وصعبة.
يتحول فيه لقاء أمي بصديقاتها لمهرجان ينغص راحتي.. لذا كنت أشحذ فيه همتي مبكراً وبمساعدة أختي، نتحرك كالآلات دون توقف، ننظف المنزل ثم نجهز النارجيلة، المياه الباردة وأنواع العصائر، وبما أن أمي كانت تحب أن تملأ رائحة البخور المكان طوال اليوم فقد كنا نقف كالخادمتين على مقربة من باب ديوانها الملكي، وما إن تنتهي الجمعة حتى نرمي بنفسينا في أيّ ركن من المنزل وندخل في غيبوبة نومٍ طويلة، لا تبحث بعدها أمي عن إحدانا.
أختي أماني كانت نحيفة وجميلة وأيضا محبوبة.. وكانت حلاوة روحها تملأ البيت بهجة. وكان الفرق بيننا يكاد يكون مضحكاً للغاية.. شعرت مراراً وتكراراً بذلك في وجوه من خالطونا أو زاروا منزلنا، أنا وهي كنا سنداً لبعضنا، وفي أوقات عصيبة كنا نبدو كتوأمتين. في مراهقتنا تركتنا أمي نكبر سريعا بمفردنا.
ولم تعد رائحة البخور تملأ البيت. وصارت النارجيلة تقف بالية حزينة جوار دولاب أمي الذي غطت سطحه الأتربة. بيتنا الذي كان مكتظاً بالضحكات. صار السكون يخنقه، فناجين القهوة المرة والأواني المزينة بالتمر وعيدان الرياحين وحدها تدور في المنزل تمر على الزائرات، وأنا وأختي نكفكف الدمع، نتمسح بصورها وأساورها وبقايا عطر طبعته على سريرها قبل أن تذهب. نعبئ ما تبقى من صوتها وذكرياتها في حقائب جاهزة للحزن.
بعد عام فقط جاءني خاطب من أهل أمي وتزوجت سريعاً وعلى مضض. كنت وأختي هماً ثقيلا على كاهل أبي المنشغل والمسافر دوما فآثر أن يزوجني لأول رجل يطرق بابه.. ودون أن أعرفه أو يعرفني عشنا معا وتقبل كلانا الآخر، عرفت طعم السعادة معه. كان طيب القلب ودوداً وحنوناً، وتلاشى شعوري معه بأني بدينة، وبرفقته أيضاً شعرت أني سيدة الدنيا، وأني أجمل نساء الأرض. دلاله لي زائدٌ حد المبالغة. طلباتي أوامر، وكلماته في الحب تدغدغ مسمعي بمناسبة ودون مناسبة. كنت قصيدته الأولى وقصة عشقه.. حتى جاء يوم تغير فيه دون سبب.. حاولت جاهدة معرفة سبب قسوته وإعراضه عني، وعرفت بعدها أنه مبالغ في الوصل والهجر.
كانت أختي أماني كثيرة الزيارة لمنزل زوجي وكنت أطلبها حين تعترضني أيّ مشكلة حتى لو كانت في نظري صغيرة.. وفي كل زيارة لها تتغير معاملة زوجي لي. يستحيل عصبياً وباردا يتحين الفرص ليبطش بقلبي.
دون مبالاة قال لي مرة وهو يتأمل جسدي المبعثر:
- أين كانت أماني مخبأه؟!
زوجي الذي يستخدم الكلمات كالمناشف والمشاجب.. يمسح حزني ويشنق روحي على خطاطيف زلاته. حفرت كلماته في قلبي أخاديد ألم. لا لشيء إلا لأنها أعادتني إلى ذكريات مزعجة وزمن تمنيت ألا يعود.عشقي له جعلني كدمية يحركها كيفما شاء.. يأخذني ويرميني متى أراد..
لم تكن لديّ جمل اعتراضية أضعها في المنتصف بيننا. لذا بقيت أنتظر القادم منه برهبة وقلة حيلة. ولأني تفاجأت به كما تفاجأ بي، تأقلمت سريعا ككل فتيات عائلتي مع هذه الشراكة.. وتعودت على وجوده قربي، وصرنا حبيبين على طريقة الأجداد. وعلى طريقة الأجداد أيضا كنت جارية له، فلم أفتش في دفاتره، لم أتلصص على هاتفه لم أختلس النظر حيث أشياؤه، ولم أحشر نفسي بين مذكراته..
حتى رن يوماً هاتفه. كان وقتها يغتسل إثر يوم عملٍ شاق.. فهرعت ألتقطه وهممت أن أمد به إليه. ودون اهتمام ألقيت نظرة خاطفة على اسم المتصل. كان ظاهراً لديّ الاسم والرقم معا، وبدا لي رقم المتصل مألوفا، خيل إليّ أني ربما قرأته يوما أو ربما أنا أحفظه. كانت ذاكرتي تألفه، أعطيت زوجي الهاتف ومضيت أقلب الأرقام في رأسي، أتفحص هاتفي، أفتش في سجل المكالمات عن رقم يشبهه.
كان رقم أختي أماني شبيهاً به حد التطابق، كاللصوص سحبت هاتف زوجي بعد أن فرغ من حمّامه، انتهزت فرصة انشغاله بتصفيف شعره وتنميق هندامه. ودققت في رقم المتصل.
أصابعي أصابها البرد وتثلّجت كقطع الجليد، وقلبي كان يرجف بشدة والحطبتان اللتان تحملاني لم أعد أشعر بهما.
وعلى طريقة جدتي تبلدت ولم أجد إجابات مقنعة لتساؤلات كثيرة خنقتني، ولا سبباً بريئاً لتمويه اسم أختي أماني باسم «أمين»، ولا لصورها وعطرها، وجسدها الذي سحقني على بطاقة ذاكرةٍ لهاتفٍ يخص الرجل الوحيد الذي عرفت.
وكغيري من الأطفال كنت أحب اللعب لكنّي أفتقد إلى أصدقاء يتوقون ويتسابقون للعب معي، وكم خفت أن أكبر قبل أن أدور في الحي برفقتهم تجمعنا طابة الأقمشة ومعلبات العصائر الفارغة ونط الحبل وسباق الكراسي وعرائس الطين والقفز برجل واحدة على مربعات الفحم والطباشير.
كانت شهيتي للعب أقوى من شهيتي للأكل ومع هذا لم أستطع التخلص من تلك الكيلوهات المخيفة من وزني. ولأني كنت طفلة غير مدللة.. هربت كثيراً من أمي وقت انشغالها بجلسات النميمة التي تجمعها بصديقاتها بعد الظهيرة لأفتش عن طفلٍ يقاسمني اللعب دون تذمر.. كان هروبي مثل هذه الأوقات سهلاً، عدا يوم الجمعة الذي كان مناسبةً مملة وصعبة.
يتحول فيه لقاء أمي بصديقاتها لمهرجان ينغص راحتي.. لذا كنت أشحذ فيه همتي مبكراً وبمساعدة أختي، نتحرك كالآلات دون توقف، ننظف المنزل ثم نجهز النارجيلة، المياه الباردة وأنواع العصائر، وبما أن أمي كانت تحب أن تملأ رائحة البخور المكان طوال اليوم فقد كنا نقف كالخادمتين على مقربة من باب ديوانها الملكي، وما إن تنتهي الجمعة حتى نرمي بنفسينا في أيّ ركن من المنزل وندخل في غيبوبة نومٍ طويلة، لا تبحث بعدها أمي عن إحدانا.
أختي أماني كانت نحيفة وجميلة وأيضا محبوبة.. وكانت حلاوة روحها تملأ البيت بهجة. وكان الفرق بيننا يكاد يكون مضحكاً للغاية.. شعرت مراراً وتكراراً بذلك في وجوه من خالطونا أو زاروا منزلنا، أنا وهي كنا سنداً لبعضنا، وفي أوقات عصيبة كنا نبدو كتوأمتين. في مراهقتنا تركتنا أمي نكبر سريعا بمفردنا.
ولم تعد رائحة البخور تملأ البيت. وصارت النارجيلة تقف بالية حزينة جوار دولاب أمي الذي غطت سطحه الأتربة. بيتنا الذي كان مكتظاً بالضحكات. صار السكون يخنقه، فناجين القهوة المرة والأواني المزينة بالتمر وعيدان الرياحين وحدها تدور في المنزل تمر على الزائرات، وأنا وأختي نكفكف الدمع، نتمسح بصورها وأساورها وبقايا عطر طبعته على سريرها قبل أن تذهب. نعبئ ما تبقى من صوتها وذكرياتها في حقائب جاهزة للحزن.
بعد عام فقط جاءني خاطب من أهل أمي وتزوجت سريعاً وعلى مضض. كنت وأختي هماً ثقيلا على كاهل أبي المنشغل والمسافر دوما فآثر أن يزوجني لأول رجل يطرق بابه.. ودون أن أعرفه أو يعرفني عشنا معا وتقبل كلانا الآخر، عرفت طعم السعادة معه. كان طيب القلب ودوداً وحنوناً، وتلاشى شعوري معه بأني بدينة، وبرفقته أيضاً شعرت أني سيدة الدنيا، وأني أجمل نساء الأرض. دلاله لي زائدٌ حد المبالغة. طلباتي أوامر، وكلماته في الحب تدغدغ مسمعي بمناسبة ودون مناسبة. كنت قصيدته الأولى وقصة عشقه.. حتى جاء يوم تغير فيه دون سبب.. حاولت جاهدة معرفة سبب قسوته وإعراضه عني، وعرفت بعدها أنه مبالغ في الوصل والهجر.
كانت أختي أماني كثيرة الزيارة لمنزل زوجي وكنت أطلبها حين تعترضني أيّ مشكلة حتى لو كانت في نظري صغيرة.. وفي كل زيارة لها تتغير معاملة زوجي لي. يستحيل عصبياً وباردا يتحين الفرص ليبطش بقلبي.
دون مبالاة قال لي مرة وهو يتأمل جسدي المبعثر:
- أين كانت أماني مخبأه؟!
زوجي الذي يستخدم الكلمات كالمناشف والمشاجب.. يمسح حزني ويشنق روحي على خطاطيف زلاته. حفرت كلماته في قلبي أخاديد ألم. لا لشيء إلا لأنها أعادتني إلى ذكريات مزعجة وزمن تمنيت ألا يعود.عشقي له جعلني كدمية يحركها كيفما شاء.. يأخذني ويرميني متى أراد..
لم تكن لديّ جمل اعتراضية أضعها في المنتصف بيننا. لذا بقيت أنتظر القادم منه برهبة وقلة حيلة. ولأني تفاجأت به كما تفاجأ بي، تأقلمت سريعا ككل فتيات عائلتي مع هذه الشراكة.. وتعودت على وجوده قربي، وصرنا حبيبين على طريقة الأجداد. وعلى طريقة الأجداد أيضا كنت جارية له، فلم أفتش في دفاتره، لم أتلصص على هاتفه لم أختلس النظر حيث أشياؤه، ولم أحشر نفسي بين مذكراته..
حتى رن يوماً هاتفه. كان وقتها يغتسل إثر يوم عملٍ شاق.. فهرعت ألتقطه وهممت أن أمد به إليه. ودون اهتمام ألقيت نظرة خاطفة على اسم المتصل. كان ظاهراً لديّ الاسم والرقم معا، وبدا لي رقم المتصل مألوفا، خيل إليّ أني ربما قرأته يوما أو ربما أنا أحفظه. كانت ذاكرتي تألفه، أعطيت زوجي الهاتف ومضيت أقلب الأرقام في رأسي، أتفحص هاتفي، أفتش في سجل المكالمات عن رقم يشبهه.
كان رقم أختي أماني شبيهاً به حد التطابق، كاللصوص سحبت هاتف زوجي بعد أن فرغ من حمّامه، انتهزت فرصة انشغاله بتصفيف شعره وتنميق هندامه. ودققت في رقم المتصل.
أصابعي أصابها البرد وتثلّجت كقطع الجليد، وقلبي كان يرجف بشدة والحطبتان اللتان تحملاني لم أعد أشعر بهما.
وعلى طريقة جدتي تبلدت ولم أجد إجابات مقنعة لتساؤلات كثيرة خنقتني، ولا سبباً بريئاً لتمويه اسم أختي أماني باسم «أمين»، ولا لصورها وعطرها، وجسدها الذي سحقني على بطاقة ذاكرةٍ لهاتفٍ يخص الرجل الوحيد الذي عرفت.