بعد وقت أطلّ عليهم بعض سكان “الدرم” من الرجال، كما تكاثر النساء والأطفال رغم حلول الظلام. كان الرجال متوجّسين من وجود بيض بينهم. لم يكن من يردّ على تلك التساؤلات، فقط يسمعون زهرة تردد هذا كوخ “العمياء جدتي”. ليسألها قارون بدوره “من العمياء” مندهشا لقدرتها على إدارة كل ذلك الضجيج، وعلى حماسها للبقاء في ذلك الكوخ. مرت الليلة الأولى وتوالت الليالي وزهرة تتدبر أمر ما يأكلون. ولا تزال تلك التساؤلات دون جواب. وما كان يهم قارون هو أن يجد ما يشربه. ولم تمر أيام حتى اهتدى إلى أحد سكان الدرم ليحصل منه على بغيته. زهرة تسعد لسعادته فتجلس إلى جواره كما كانت تجلس جوار الشيخ بعد أن تغسل أغصان القات.. تفليها غصن له.. وغصن لها وكأس له ونصف كأس لها. يسألها:
- أيّ حياة تريدنا أن نعيش.
فترد عليه بغنج:
- ما نعيشه الآن.
- أسعيدة بحياة الدرم.
- كنت أنتظرك.. مشغولة بك، وحين جئت، أهرب بك إلى حياة لا تشبه حياة الحصن.
- أتصدقينني.
- ولمَ لا.
- غير مستوعب عاطفتك نحوي.
- لا أعرف، لكنها أمي.
- أمك!
- ليس وقته الآن.
- ذهلت لجرأتك وأنت تقفين أمام سعدية.
- فاجأني حضورك، لحظتها تذكرت كل شيء، وكأن أكثر الأشياء تجعل الفرد كائنا لا يعرف حتى نفسه. فلولا حضورك لما تجرأت وطلبت منها أن أسير معك، حتى أنّي نسيت يوم قالت لي سعدية حين طلبت أن أغادر الحصن، قول زوجها “من يسكن الحصن لا يخرج منه إلاّ إلى المجنة”. هي قوة لم أكن قد تعرفت عليها فيَّ. وجودك جعلها تظهر. ولحظتها لم أعد زهرة التي أعرفها، وحتى الآن لم أستردها.
- لكن صمتك طيلة الطريق حيرني.
- حين خرجنا من الحصن، استعدت ما كنت أفكر فيه منذ مولدي. أحدث نفسي هل أنا بحاجة إليك. لكني تيقنت بأنك بحاجة إليّ، وأنك تائه.. أفكر أن تعيش معي عيشة دون قيود ما يعيشه الرعية.. حياة تحدثت بها جدتي العمياء يوما إليَّ. فلا نطمع بالدنيا ولا تطمع بنا. وكنت أخشى ألا تستسيغ هذه الحياة، لكني الآن عرفت بأن عدن قد جعلتك أكثر عبثية مما يعيشه الأخدام.
كان مصدقا لكلماتها، وقد أحس بأنها ظهرت في الوقت المناسب، متخيلا لو لم يفكر بصعود الحصن، أو أن الحراس رفضوا طلبه. أعترف لها بأن إحساسها كان صادقا حين أحست بضياعه، وإن كان لم يستوعب موافقة سعدية على طلبها أن ترحل معه، كررت له:
- لم يكن تصرفي أمام سيدتي وليد اللحظة. كنت تعيش معي منذ سنوات، وأشعر بقربك. وهذا أنا وأنت كما كنت أحلم.
- لماذا أنا؟
- لن تصدق إيماني بروح أمي التي تسكنك!
- كيف تسكنني وأنا حتى لا أعرفها.
- ولم أكن أنا قد رأيتك قبل أن أسمع استغاثتها في صوتك. كنت تردّد اسمي، حتى عيناك كانت أمي تنظر منهما. لا يمكن أن أنسى تلك اللحظات وجبار ورجاله يسوطونك الموت.
لم يستوعب قارون ما كانت زهرة تصفه، إلا أن إيقاع كلماتها على قلبه كان مؤثرا وصادقا. يعود بذاكرته مستحضرا ذلك الصباح. تتداخل الأصوات، ويسمع صبية تصرخ. يراها تتلوى من لسع السياط. امرأة وصبي يصرخان. ظن بأنهم يعذبون معه، وهو يرى تلك الصغيرة تتبعثر بين أقدامهم.
في ليلة مقمرة جلس قارون ثملاً أمام باب كوخهما وإلى جواره زهرة سألته عن أيامه في عدن:
- عدن مدينة من دخلها تسكنه طوال عمره.
- كيف؟
- ترينني من هذا الوادي، لكني لم أعد منهم.
- لم أفهمك.
- حتى أنا لا أفهم نفسي. أتريني أعيش معك في درم الأخدام. أنا لا أرى أيّ انتقاص فينا لكنهم يروننا ناقصين.
- حين تصمت أظنني أفهمك حتى تتحدث فأجدني لا أفهمك.
- دعينا والحديث، سأسمعك شيئاً قد تفهمينني.
أخرج ناياً، راقب أصابعه حتى تموضعت على ثغرات سوداء، لامس المبسم شفتيه بشكل مائل، وبدأ ينفخ مغمض العينين. قاطعته:
- وتعرف تعزف.
التفت إليها:
- وأرقص ألف رقصة.
نهضت كمن لدغتها عقرب، وعادت وبيدها مزمار:
- هذا مزمار قديم أهدتني إياه جدتي العمياء ذات يوم.
وضع نايه على حجره، والتقط مزمارها، يقلبه. ثم أخذ يزيل بأظفاره ما التصق. بينما زهرة تحكي له عن امرأة عمياء كانت تسكن الكوخ الذي يسكنونه. قالت له: عرفت من حكاياتها بأنها جدتي لأمي، وأن المزمار لجدها. ثم مالت واختبأت في صدره. غمّضت عينيها تغني أغنية سمعتها من ذات مساء من العمياء. رفع قارون المزمار إلى شفتيه وبدأ ينفخ مسايرا غناءها. شعرت أن أرواحا تنهض خارجة من باب الكوخ وأن رائحة أمها والعمياء قد حضرت.. ظل صوتها يعانق نغم المزمار، يهتزان في نشوة. ولم يعرفا أن سكان الأكواخ المجاورة قد تقاطروا يسمعون ما يعزف، حتى توقف غناؤها وفتحت عينيها لتراهم اقتعدوا الأرض في سكون ينصتون لما يدور.
ومنذ تلك الليلة يشعل سكان الدرم ناراً في ساحة وسط الدرم، يدعون قارون وزهرة. ترى زهرة جدها وقد جلس عازفا للنار كما حكت لها جدتها. يثير بأنغامه البهجة في دائرة النار التي أخذت تتسع ليلة بعد أخرى. وإذا ما ثمل يقف يشاركهم الراقص بعنف.. أمسى قارون صديقا لليل. يعتمد قارون على مدخرات قليلة جمعها في عدن. ينام نهاره ومع قدوم الليل يدعو زهرة لأن تشاركه قاته وشرابه تسايره بالقليل، ثم يخرج منتشياً باتجاه النار. يراقص النار بمزماره. تسلل بعض أبناء الرعية ليلاً مشاركين سهرهم. انتشرت أخبار تلك الليالي في الوادي وروعة عزف قارون وغناء زهرة. تزايد من يأتون خلسة.
في لحظة وَجْدْ هامس قارون زهرة:
- هل تقبلينني زوجاً؟
بكت على صدره ولم تتفوه بكلمة، أخبرها بأنه يريد أن تكون ليلتهم بهيجة، أن يدعو سكان الدرم لمشاركتهم. كانت تبتسم هازة رأسها ثم تحتضنه وتقبله لتعاود دموعها صامتة.
ابتاع كبشين. هي المرة الأولى التي يدعو فيها أحدهم جميع سكان الدرم ليشهدوا زواجاً، طالبا منهم مساعدته في توفير الأواني وإعداد الطعام. لم يجد أوعية كبيرة أو متوسطة تستوعب ما يجب طبخه، ما اضطرهم إلى شيّ ما يريدون تناوله على نار المساء. في تلك الليلة شرب قارون وشاركوه الرقص والغناء حتى الفجر.
ظل قارون يرفض دعوات أعراس الرعية وقد تبقى القليل مما أدخر. حتى أرسل شنهوص ذات ليلة رجاله. عرفهم قارون قبل أن ينطقوا من ملابسهم ولحاهم الطويلة:
- شنهوص أرسلنا لمرافقتك إليه.
أبدى لهم موافقته، واعدا بأنه سيلحق بهم صباح اليوم التالي. رد عليه أحدهم ممسكاً بذراعه:
- أن تسير على قدميك خير لك من أن تُسحب سحباً أنت وزانيتك.
استحسن طاعتهم ممسكاً بكف زهرة ومضى معهم تحت سناء ليلة مقمرة.
لوحة: شادي أبوسعدة
………..
تعددت الوفود تسافر إلى صنعاء لإقناع الشيخ جمال بالوصول لزيارة الوادي. ليتفقد متابعاً لما يدور. يخشى أن ينجحوا بالعودة به. تدفعه الرغبة بملاحقتهم. ومن جهة يقف حائراً أمام رفض سعدية السفر إلى صنعاء وقد أظهر سعادته الزائفة ورغبته بمرافقتها حتى لا يكون بقاؤها سبباً في قدومه. ومع تفاعل تلك المفارقات كلف من يغادر إلى صنعاء ليرصد أغوار نفسه. وسريعاً ما جاؤوه بأخبار أنه يعاقر الخمر. ولا يشبه أحداً في حياته غير ذلك القارون الذي بلغه بأنه يسهر لياليه في مجون وخمر. وقالوا بأنه يعيش مع أشباه له في ليالي صنعاء. عندها تيقن بأن مكانته على الحصن في أمان، مفضلا أن يظل جمال فزاعة. وأن يحاول إقناع سعدية بمرافقته لزيارة ابنها.
………
يسيران وسط ليل هادئ. لم يتكلم أحد طوال الطريق عدت أقدامهم مع حصى مجرى السيل الجاف. مع الصباح وقف أمام شنهوص الذي تمدد على متكأ الآمر. حتى أنه لم ينهض لمصافحة قارون ولم يحتضنه كما كان يفعل، رافعا صوته:
- ألا تتقي الله، أهذا ما عهدناك. انتظرت وعدك أن تلحق بي فخذلتني لتهرب أنت وصاحبك إلى عدن، عذرتك. تعود فلا تزورني عذرتك. لكن أن تتحول إلى نافخ مزمار، معاقراً للخمر، مصاحبا لزانية فهذا ما لن يغفره لك الله.
صمت شنهوص ينتظر رد قارون، لكنه لم يتفوه بكلمة. ظل يتعمد ألا تلتقي عيناه بعيني شنهوص. أردف مهدداً: أريد أن أسمعك. لن أتركك تنشر الرذيلة في الوادي. ولولا ما بيننا لأرسلت من يذبحك ويذبح هذه الساقطة ذبح النعاج، وهذا أنت بين يدي، أدعوك للتوبة.
رفع ناظريه وقال بصوت هامس:
- ممّ أتوب، فأنا لست قاطع طريق ولا سافك دم، ومن تصفها بالزانية هي زوجتي. وما تسميه نفخ مزامير لا يضر أحداً في شيء.
قاطعة غاضبا:
- إياك والهزل معي. تأتيني أخبارك المشينة، أتعلم أن المزامير محرّمة، وضررها في لهو الناس عن ذكر الله وعبادته. وأن عقاب شارب الخمر الجلد، وعقاب الزاني القتل رجما. سأعتبر بأني لم أسمع ولم أرك بهذه الملابس الإفرنجية. عليك أن تغير من نفسك، وإن لم.. فسأتقرب إلى الله بكما. إياك والعودة لمجونك وسفهك.
دار لم ير في مثل روعتها. كانت دار شنهوص الجديدة ينتشر رجاله في كل مكان منها. أدهشه أن جميعهم يشبهونه في ملبسهم ووجوههم، وفي أًصواتهم. خرج من الجفنة تحفه نظراتهم، عائدا وطول طريق العودة لا يصدق بأنه أفلت منه. يستعيد صوت شنهوص المهدد. نظراته القاسية.. ذكره ذلك بعرام واتهامه له الدجال. وقد حافظ على مظهره بقصر ثوبه الأبيض الذي عرفه به.. وزاد من طول لحية حمراء. لم ير ابتسامه أو لينا في صوته.
وصل وزهرة إلى مشارف الدرم كان النهار في منتهاه حين خرج سكان الأكواخ يسألونهم. وما إن غابت الشمس حتى حضر من يدعوهم للسهر حول النار. صرخت زهرة على غير عادتها:
- لا نريد سهرا فنحن متعبان.
لكن قارون لم يقاوم هامسا لها “عيشي لحظتك فغدا موت”. ثم لحقهم وقد بدا ثملاً بالكاد تحمله قدماه. استطاع العزف بصعوبة. كان عزفه حزينا أبكى زهرة. لم يكن من أحد يدرك ما يحمله قارون من ألم غير زهرة التي حاولت أن تثنيه حين نهض محاولا مشاركتهم الرقص. تلك الليلة رقص حتى سقط. ليحمل إلى كوخه فاقد الوعي.
يتشاجر مع زهرة التي تحاول إقناعه في المشاركة بسهراتهم. يخرج منتشياً، تكرر عليه مرددة تهديدات شنهوص. تذكره بوعيده. يعدها بأن تلك الليلة آخر ليلة. لا ينتهي نهار اليوم
-………
- أتعرف المزمرة مهرة من؟
-…….
- أنت قبيلي. بل أنت شيخ يا قارون. لم أصدق ما سمعته من زيد حول عيشتك بين الأخدام. هذا لا يشرفك ولا يشرفنا. سيؤجرك زوجي أرضاً وبيتا تسكنه أنت وزهرة تترعووا مثل بقية الرعية.
- لكني لست رعويا لأحد.
- الرعية قبائل يا ولدي فلا تبخس بنفسك، وتبخس بنا معك.
كان صوت سعدية يتأرجح بين القسوة واللين، وقد أردفت: أنا على يقين من أنك تعي ما أقوله، وأنك ستغير من أسلوب معيشتك.
لا أصدق أنكم تعيشون كالبهائم؛ غناء ورقص وفجور. وأريد أن أخبرك بأن زوجي كان يريد أن يعاقبك لولا أنّي طلبت منه التمهل. فاعقل ما تصنعه من عبث لا يضر إلا نفسك.
مكثا في كوخهما لأيام. استمر قارون يغيّب نفسه بكثرة الشرب. لا يكلم زهرة. يخرج منتشياً ليشاركهم السهر كعادته حول النار، حتى جيء به إليها ذات ليلة فاقدا الوعي. قالوا بأنه رقص كثيرا حتى سقط من الإرهاق. وحين أفاق كانت إلى جواره ساهرة. خرج صوته ذابلاً:
- لا يمكن أن نعيش كما يريدون لنا. ظللت أحلم بأن أعيش حياتي كما أريد. أنا لا أعرف كيف يصفوننا بالفجور، ويتهموننا بنشر الفاحشة. ثم يصفوننا بالزناة. ألم تحدثيني بأنك حلمت بهذه الحياة. إن كنت لا تريدينها أتركيني.
لم تستطع أن تحتمل كلماته. حين شعرت بأنها تفقده. بكت ذلك اليوم كما لم تبك من قبل. وشعور بالقهر يسحقها. لا تعرف ما تصنع. احتضنته:
- لن نفترق. لن أدعك تنتحر بما تشربه.
مع صعود شمس اليوم الثاني لم تفاجأ زهرة بحضور عدد من رجال شنهوص، ودون نقاش تم قيد أيديهم إلى بعض والرحيل غرباً. وساروا بهم. لم يتفوّه قارون بكلمة تنظر إليه زهرة كمن سلبت إرادتهما. خرج سكان الأكواخ يشيعونهم بنظرات حزينة حتى اختفوا في أطراف السهول المجدبة غربا.
وما إن وصلوا بهما نهاية النهار. وقفوا بين يدي شنهوص حتى دمعت عيناه إشفاقا لحالة عرام. لم يسأله أو يتحدث إليه لكنه أمر بوضعهما في حبسين منفصلين حتى ينظر في شأنهما. ولأيام، لا يعلم أيّ منهما بحال الآخر. إلى ظهيرة يوم جمعة حين ربطا متجاورين أمام باب المسجد. ليتهادى صوت الخطيب حول قول الله في شارب الخمر. وقول الرسول الكريم في تحريم رنين المعازف. خرج المصلون حين بدأ رجلان بجلدهما.
حضرا في وقت لاحق أمام شنهوص ليخطب فيهما خطبة جعلت من حولهما يرددون “الله أكبر ولله الحمد” بين فقرة وأخرى. ثم اختتم ذلك بقوله “سأطرح عليكما أمرين لا ثالث لهما: إما والرحيل فوراً عن وادينا حيث لا نسمع عن فجوركما. أو إن بقيتما في الوادي أطبّق عليكم حد الزنا تطهيرا. وهذه الخيارات أطرحها عليك لما بيننا من معروف”.
هربا من الوادي شرقاً. متنقلين من قرية إلى أخرى. لتنضب مدخرات عدن. يعبرون أودية ومخاليف بجوع كاد يفتك بهما، حتى سمع بحفل عرس في إحدى القرى سارعا باللحاق به. وأمام منزل العريس أخرج قارون مزماره. وسريعاً ما حلّق حوله من سمع عزفه. تجرأت زهرة رافعة صوتها يعانق عزفه. تزايد الناس يتهامسون حول مزمّر يلبس بنطلونا ومغنية بيضاء ومن ذلك العرس انتشر خبرهما بين سكان تلك القرى دهشة مما يصنعان. ومن عرس إلى آخر ظلا يتنقلان ليتهامس البعض أنه ابن شيخ أمتسخ. وأنه مسخ رفيقته ويعيشون عيشة الأخدام. لم يكن قارون يهتم لما يتهامسون به. وما كان يهمه أن يظل يعزف حتى لا يموت. يهتز طربا مع أنغام مزماره. تتبعه زهرة بصوتها وقد التصقت نظراتها بنظراته في وله. ليرفع نشوة الحضور بحركات جذلى. تتبعه حين تتمايل مع نغمات مزماره في رقصة ثنائية. يسيران ذهابا وإيابا في مستطيل بين الحضور كمن غمرتهما غيبوبة أو أن صوتاً من سموات لا ترى يحركه. تفتح عينيها لإحساس اقتراب وجهه من وجهها. وكأن عينيهما على موعد.
يتبادلان النظرات في وجد. يشير عليها تتقدم مرة أخرى بخطوات موزونة يلحق بها. تحاكي اهتزاز جسمه ليرقصا معا وقد زاد من حدة نغم مزماره. يتمايلان كمن لا وجود لغيرهما. يعودان من جولة يهتزان وكأنها لن تنتهي. يهتزان كأغصان تداعبها الريح وقد فتح المدعوون أفواههم الفاغرة دهشة وتعجباً. يعودان إلى مكانهما مفسحين المجال لمن ينهضون للرقص. يتمنى بعضهم أن يراقصها. أن تجول به بطول المستطيل تحت “أتاريك” ليل الجاز ووشيشها.
لم يكن قارون يتصور كل ذلك الحب الذي تحمله زهرة. يطرب لنظراتها وحين يختليان يسألها، تنادمه مرددة: خلقت لأحبك. وكما كان خاطري يتمناك هذا أنا أعيش حباً يكاد يقتلني. لست متأكدة من أنا، لكن يقيناً يسكن حبك. فهل تشعر بيقيني؟ يحس قارون في رفقتها بالأمان. تفهم لغة نظراته، صوته، متى يحتل روحه الحزن، ومتى تنضح عيونه بالسعادة.
ظل الغموض يغلف قارون وزهرة لدى سكان تلك القرى التي يمرون بها. وظلا مثار جدل وهمس، وقد أطلقوا عليه “المزمر الشيخ” بدوره لم يكن يهمه ما يتناقلونه مادام بعيدا عن أيادي شنهوص، وأمسى يشترط على من يدعوه لإحياء فرحه أن تكون له غرفة تخصه وزهرة، لا يشاركهما فيها أحد. يغلقان بابها يتعريان يسكب العرق فوق جسمها. يرتشف من كأس فخذيها. يقضيان ما تبقى من الليل في أحضان بعضهما عاريين. يغنّيان ما طاب لهما من الليل بغناء فاحش. وينامان حتى منتصف النهار. ومع بداية الليل يرتشف قارون القليل سراً لينتشي محلقا بصوت زهرة. أيام طويلة قضياها منتقلين من وادٍ إلى آخر. لتفاجئه زهرة ذات ليلة بدموعها:
- ألم تشتق إلى كوخنا؟
- بلى، واشتقت لمراقصة النار.
- فلماذا لا نعود؟
- أنت من تقولين هذا!
- نمكث أياماً في كوخنا دون أن يشعر بنا أحد ثم نهرب.
- لن تستطيعي منعي من مشاركتهم أماسي النار.
- بلى، وإذا ما عدنا لن تعزف ولن أغني، ولن نظهر على أحد.
- وكيف تحلو الحياة دون غناء ورقص.
- أعاهدك بألا نثير انتباه أحد.
عادت عيونها للدموع:
- دون دموع. قولي نسير فنسير لا يهمني إلا رضاك.
لوحة: شادي أبوسعدة
- بدأت أقلق لمبالاتك.
- أي مبالاة تعنين؟
- يوما بعد يوم يذبل جسمك. وأرى معشوقتك تسقيك نحولاً.
- أتغارين من الكأس، لا أرى ما تقولين.
- ولا تأكل كما يجب.
- إذن لن نعود، فشنهوص ينتظرني بالعقاب.
- بل سنعود. ونلتزم ألا تعزف ولا تشرب.
- لن أعود إلى الوادي، دعينا هنا نعيش كما نريد.
- سنعود لأيام ثم نفرّ.
عادت به إلى واديهم بعد أيام طويلة من التنقل. تسللا ليلا إلى كوخهما. كل شيء كما تركاه. لا تريد لفت انتباه أحد. لكن صباح اليوم التالي عرف الجميع. وانطلقوا طوال النهار يجمعون حطباً. وما إن غابت الشمس حتى تعالت ألسنة النيران عالياً. حضر جمع ليصطحبوه إلى سمرهم. صمتت زهرة حين خرج وسط صخبهم وهي تتبعه. كانت الساحة في دائرة كبيرة حول النار. صرخ الحضور لمرآه. حاول قارون مقاومة رغبة العزف. لكن أصابعه تسللت ساحبة المزمار.
نفخ ليعلو لحن شجي لم يُسمع مثيلة من قبل. التفتت زهرة بنظرات عاتبة وقد شعرت بأن تلك النغمات تنادي صوتها. نظرت عينا قارون إليها مشجعة بإيماءة ترجمتها زهرة “عيشي لحظتِك” خرج صوتها مجاريا لنغمات مزماره. غنت بعيون دامعة. يرتفع صوتا ويطول. أسعدها إحساسها بهبوط أرواح على المكان، حتى أن العمياء كانت تغني معها. ورأت جدها يعزف وقارون تلك الليلة. رقص قارون كما لم يرقص في ماضي أيامه.
في الصباح صحت زهرة على رجال شنهوص. لا تدري ما عليها فعله. اقتحموا الكوخ ساحبين قارون يتصارخون: ألم يحذرك الشيخ شنهوص من العودة إلى ارتكاب الفواحش والتعدي على حدود الله. لم يجد ما يرد به عليهم. أردف أحدهم: لقد حق عليك تنفيذ الحد وقد كلفنا الشيخ بذلك. وسريعا ما ربط قارون وإلى جواره زهرة. وجمع رجال شنهوص من لم يخرج من سكان الأكواخ وأمروهم برجمهم. في اللحظة التي بدأ رجال الشيخ برجمهم وقف الأخدام مذهولين لما يُطلب منهم. انسحب بعضهم والبعض وقف رافضاً مشاركتهم. بينما قارون كان يحاول حماية زهرة ليتلقى الحجارة على رأسه وظهره. ليبدأ دمه بالنزيف. استمر رجال شنهوص برجمه حتى ملوا ليتبرع أحدهم برصاصه ظنها اخترقتهما معاً. مضوا بعدها عائدين من حيث أتوا.
تجمع الأخدام بعد أن اختفى القتلة. فكّوا ما تبقى من أربطة، ليجدوا زهرة مازالت تتنفس بصعوبة. بينما قارون فارق الحياة وقد اخترقت الرصاصة أعلى صدره من الجانب الأيمن. ولم تصَب زهرة عدى أحجار جعلت رأسها يسيل دما. استعادت زهرة وعيها ولم تعلم أن روح قارون قد صعدت إلاّ صباح اليوم التالي. ليعاونها على دفنه في نفس الكوخ في جوار جدتها. ودُفن مزماره معه.
بعد أيام من البكاء والنواح ودعت الدرم في طريقها نحو الحصن وحيدة مكلومة.
مارد الثورة
لا يعرف الوادي أن رأى عربة من قبل، فلا مسالك غير ما تسلكه الأقدام والدواب. لكنه شهد مع ظهيرة يوم مشمس هديرا ممزوجا بصرير يصم الآذان آت من الجبال الشرقية. خرج سكان يتساءلون وقد تعالى الصرير وما لبث أن ظهر مدفع طويل لدبابة ضخمة من بين الجبال. كانت تدك ما يعترضها من شجر وحجر هابطة نحو أعماق الوادي. مخلفة غباراً وأدخنة كثيفة.. يتساءل الجميع من أين قدمت، وإلى أين تتجه؟ يتمنون معرفة غايتها. تجمعوا يتابعون هبوطها بحذر ورهبة حتى مجرى السيل.
تكاثروا يسيرون على مبعدة مبهورين وقد سمعوا بها ولم يروها من قبل.. توقفت بعض الوقت جوار الطولقة الكبيرة تحرك مدفعها الطويل يمينا وشمالا. ثم واصلت هديرها صاعدة مرتفع الحصن حتى ساحته الأمامية لتدك أعمدة التعذيب المنصوبة منذ سنوات. لم يتوقف مدفعها الطويل عن الدوران حتى استقر باتجاه مبنى الحبس الخارجي لتدوّي قذيفة رددت صداها جبال الوادي. توارى من كانوا يتابعون مارد الثورة يختبئون في المقبرة والمسجد وخلف بقايا الضريح. وأمسى الحبس أثراً بعد عين. يتابعون تحركات تلك الدبابة من مخابئهم. وقد استمر مدفعها الطويل يدور ليدوي من جديد بطلقات اتجهت نحو الوادي غرباً.
عرف الجميع فيما بعد بأنها هدمت دار شنهوص في الجفنة. ثم دوّت قذائف أخرى في اتجاهات مختلفة. قيل إنها أصابت دور المشايخ الآخرين. توقف المدفع بعد ذلك عن الدوران، وصمت صرير الجنازير، وتوقف الهدير ليصمت كل شيء إلا من حركة الناس وقد بدأوا يخرجون من مخابئهم. ظل التساؤل يستثير الجميع لمعرفة من يتحكم بتلك الآلة. بعد سكون وترقب مريب ارتفع صرير حاد ليتحرك غطاء أعلى سطحها ما لبث أن ظهر رأس أحدهم تغطيه قبعة داكنة ونظارة سوداء.
ثم توالى خروج جسده حتى وقف بقامته الفارهة وببزته العسكرية على سطحها. ثم فُتح باب في مؤخرة الدبابة ليخرج مجموعة أفراد بملابس عسكرية صعدوا ليقفوا برشاشاتهم “الكلاشن” خلفه. تشجع الناس وبدأوا بالخروج في الوقت الذي رفع من يقف على ظهر الدبابة كفيه ملوحاً في وقفه مهيبة، ينظر يمينا وشمالاً وقد اتسع فمه بابتسامة فخمة. ثم أزال نظارة كانت تحجب نصف وجهه لتظهر ملامح وسيمة. ارتفع صوت أحدهم: إنه الشيخ جمال. تدفق الناس بعدها من مخابئهم ليملأوا الساحة يرتجلون رقصاتهم. رفع جمال صوته خطيباً: أيها الأخوة لقد أتينا لنثور على الطغاة والكهنة، أتينا لإنقاذكم، وتطهير وادينا من دنس المستغلين وبطشهم.
وأدعوكم إلى التوجه لإلقاء القبض على الكهنوت زيد الفاطمي. وعلى الدجال شنهوص وبقية من استباحوا وادينا وقسّموه. أيها الأخوة إنها ثورة من أجلكم. لن نترك بعد اليوم المتسلطين يستبيحون كرامة المواطن. ازداد تدافع الناس حول الدبابة يمدون أياديهم باتجاهه مبتهجين، وقد وزع ابتسامته الناعمة يمينا وشمالاً، ملوحا، ثم يواصل خطبته: أيها الشعب. لقد أتينا لإنقاذكم من المتسلطين والمستبدين ولإعادة وحدة وادينا. أتينا لنحرركم من الدجل باسم الدين ومن السلالية والكهنوت. فلا مذهبية ولا سلالية بعد اليوم، كلنا أخوة. وأدعوا الجميع للتعاون في القبض على الخونة ومن يواليهم.
في تلك اللحظات كان زيد يسمع ما يقال في الساحة وقد تملكه رعب ما يردده القادم الجديد، مستغيثا بسعدية التي رفعت صوتها: عليك اليوم أن تجني ثمار ألاعيبك! أصابه الذعر مدركاً بأنه خُدع بها. مدركاً أن لها حسابات لم يتصوّرها من قبل. لكنه استمرّ محاولاً استثارة شفقتها، لترفض بحدة. في النهاية طرح عليها أن تساعده على الرحيل. مردداً عهد الله أن يغادر ولا يعود قط. راقها ما سمعت منه، شارطة عليه أن يطلقها. منحته من ملابس خادماتها. ليخرج لحظات خروجها لاستقبال ابنها.
لم يكمل جمال خطبته حين رأى أمه وخلفها جمهرة من جواريها تخرج من بوابة الحصن. وقد أفسح لها الجميع الطريق. سارت وسط الجموع، بينما هبط جمال راكعا يقبل كفيها. لترفع وجهه ناظرة إلى عينيه ثم احتضنته دامعة، في الوقت الذي انسل زيد متنكراً بأردية خادمة من بين الحشود عبر المنحدرات. وقد استمرت الحشود تردد هتافات مدوية. وأثناء دخوله الحصن لفتت انتباهه زهرة وقد صدح صوتها بأغنية حزينة وشجية تعلقت أنظاره إليه طوال خطوات الدخول.
لم تمض أيام حتى كان عسكر جمال يجوبون الوادي بحثاً عن الخونة أعداء الثورة. لتنصب لبعضهم المشانق في ساحة الحصن. والبعض أودعوا في غرف الحصن. ومع تزايدهم لم يعد ما يستوعبهم. فوجه بسرعة ببناء سجن كبير لاستيعابهم. وتسخيرهم لإعادة بناء ضريح الجد الأكبر.
- أيّ حياة تريدنا أن نعيش.
فترد عليه بغنج:
- ما نعيشه الآن.
- أسعيدة بحياة الدرم.
- كنت أنتظرك.. مشغولة بك، وحين جئت، أهرب بك إلى حياة لا تشبه حياة الحصن.
- أتصدقينني.
- ولمَ لا.
- غير مستوعب عاطفتك نحوي.
- لا أعرف، لكنها أمي.
- أمك!
- ليس وقته الآن.
- ذهلت لجرأتك وأنت تقفين أمام سعدية.
- فاجأني حضورك، لحظتها تذكرت كل شيء، وكأن أكثر الأشياء تجعل الفرد كائنا لا يعرف حتى نفسه. فلولا حضورك لما تجرأت وطلبت منها أن أسير معك، حتى أنّي نسيت يوم قالت لي سعدية حين طلبت أن أغادر الحصن، قول زوجها “من يسكن الحصن لا يخرج منه إلاّ إلى المجنة”. هي قوة لم أكن قد تعرفت عليها فيَّ. وجودك جعلها تظهر. ولحظتها لم أعد زهرة التي أعرفها، وحتى الآن لم أستردها.
- لكن صمتك طيلة الطريق حيرني.
- حين خرجنا من الحصن، استعدت ما كنت أفكر فيه منذ مولدي. أحدث نفسي هل أنا بحاجة إليك. لكني تيقنت بأنك بحاجة إليّ، وأنك تائه.. أفكر أن تعيش معي عيشة دون قيود ما يعيشه الرعية.. حياة تحدثت بها جدتي العمياء يوما إليَّ. فلا نطمع بالدنيا ولا تطمع بنا. وكنت أخشى ألا تستسيغ هذه الحياة، لكني الآن عرفت بأن عدن قد جعلتك أكثر عبثية مما يعيشه الأخدام.
كان مصدقا لكلماتها، وقد أحس بأنها ظهرت في الوقت المناسب، متخيلا لو لم يفكر بصعود الحصن، أو أن الحراس رفضوا طلبه. أعترف لها بأن إحساسها كان صادقا حين أحست بضياعه، وإن كان لم يستوعب موافقة سعدية على طلبها أن ترحل معه، كررت له:
- لم يكن تصرفي أمام سيدتي وليد اللحظة. كنت تعيش معي منذ سنوات، وأشعر بقربك. وهذا أنا وأنت كما كنت أحلم.
- لماذا أنا؟
- لن تصدق إيماني بروح أمي التي تسكنك!
- كيف تسكنني وأنا حتى لا أعرفها.
- ولم أكن أنا قد رأيتك قبل أن أسمع استغاثتها في صوتك. كنت تردّد اسمي، حتى عيناك كانت أمي تنظر منهما. لا يمكن أن أنسى تلك اللحظات وجبار ورجاله يسوطونك الموت.
لم يستوعب قارون ما كانت زهرة تصفه، إلا أن إيقاع كلماتها على قلبه كان مؤثرا وصادقا. يعود بذاكرته مستحضرا ذلك الصباح. تتداخل الأصوات، ويسمع صبية تصرخ. يراها تتلوى من لسع السياط. امرأة وصبي يصرخان. ظن بأنهم يعذبون معه، وهو يرى تلك الصغيرة تتبعثر بين أقدامهم.
في ليلة مقمرة جلس قارون ثملاً أمام باب كوخهما وإلى جواره زهرة سألته عن أيامه في عدن:
- عدن مدينة من دخلها تسكنه طوال عمره.
- كيف؟
- ترينني من هذا الوادي، لكني لم أعد منهم.
- لم أفهمك.
- حتى أنا لا أفهم نفسي. أتريني أعيش معك في درم الأخدام. أنا لا أرى أيّ انتقاص فينا لكنهم يروننا ناقصين.
- حين تصمت أظنني أفهمك حتى تتحدث فأجدني لا أفهمك.
- دعينا والحديث، سأسمعك شيئاً قد تفهمينني.
أخرج ناياً، راقب أصابعه حتى تموضعت على ثغرات سوداء، لامس المبسم شفتيه بشكل مائل، وبدأ ينفخ مغمض العينين. قاطعته:
- وتعرف تعزف.
التفت إليها:
- وأرقص ألف رقصة.
نهضت كمن لدغتها عقرب، وعادت وبيدها مزمار:
- هذا مزمار قديم أهدتني إياه جدتي العمياء ذات يوم.
وضع نايه على حجره، والتقط مزمارها، يقلبه. ثم أخذ يزيل بأظفاره ما التصق. بينما زهرة تحكي له عن امرأة عمياء كانت تسكن الكوخ الذي يسكنونه. قالت له: عرفت من حكاياتها بأنها جدتي لأمي، وأن المزمار لجدها. ثم مالت واختبأت في صدره. غمّضت عينيها تغني أغنية سمعتها من ذات مساء من العمياء. رفع قارون المزمار إلى شفتيه وبدأ ينفخ مسايرا غناءها. شعرت أن أرواحا تنهض خارجة من باب الكوخ وأن رائحة أمها والعمياء قد حضرت.. ظل صوتها يعانق نغم المزمار، يهتزان في نشوة. ولم يعرفا أن سكان الأكواخ المجاورة قد تقاطروا يسمعون ما يعزف، حتى توقف غناؤها وفتحت عينيها لتراهم اقتعدوا الأرض في سكون ينصتون لما يدور.
ومنذ تلك الليلة يشعل سكان الدرم ناراً في ساحة وسط الدرم، يدعون قارون وزهرة. ترى زهرة جدها وقد جلس عازفا للنار كما حكت لها جدتها. يثير بأنغامه البهجة في دائرة النار التي أخذت تتسع ليلة بعد أخرى. وإذا ما ثمل يقف يشاركهم الراقص بعنف.. أمسى قارون صديقا لليل. يعتمد قارون على مدخرات قليلة جمعها في عدن. ينام نهاره ومع قدوم الليل يدعو زهرة لأن تشاركه قاته وشرابه تسايره بالقليل، ثم يخرج منتشياً باتجاه النار. يراقص النار بمزماره. تسلل بعض أبناء الرعية ليلاً مشاركين سهرهم. انتشرت أخبار تلك الليالي في الوادي وروعة عزف قارون وغناء زهرة. تزايد من يأتون خلسة.
في لحظة وَجْدْ هامس قارون زهرة:
- هل تقبلينني زوجاً؟
بكت على صدره ولم تتفوه بكلمة، أخبرها بأنه يريد أن تكون ليلتهم بهيجة، أن يدعو سكان الدرم لمشاركتهم. كانت تبتسم هازة رأسها ثم تحتضنه وتقبله لتعاود دموعها صامتة.
ابتاع كبشين. هي المرة الأولى التي يدعو فيها أحدهم جميع سكان الدرم ليشهدوا زواجاً، طالبا منهم مساعدته في توفير الأواني وإعداد الطعام. لم يجد أوعية كبيرة أو متوسطة تستوعب ما يجب طبخه، ما اضطرهم إلى شيّ ما يريدون تناوله على نار المساء. في تلك الليلة شرب قارون وشاركوه الرقص والغناء حتى الفجر.
ظل قارون يرفض دعوات أعراس الرعية وقد تبقى القليل مما أدخر. حتى أرسل شنهوص ذات ليلة رجاله. عرفهم قارون قبل أن ينطقوا من ملابسهم ولحاهم الطويلة:
- شنهوص أرسلنا لمرافقتك إليه.
أبدى لهم موافقته، واعدا بأنه سيلحق بهم صباح اليوم التالي. رد عليه أحدهم ممسكاً بذراعه:
- أن تسير على قدميك خير لك من أن تُسحب سحباً أنت وزانيتك.
استحسن طاعتهم ممسكاً بكف زهرة ومضى معهم تحت سناء ليلة مقمرة.
لوحة: شادي أبوسعدة
………..
تعددت الوفود تسافر إلى صنعاء لإقناع الشيخ جمال بالوصول لزيارة الوادي. ليتفقد متابعاً لما يدور. يخشى أن ينجحوا بالعودة به. تدفعه الرغبة بملاحقتهم. ومن جهة يقف حائراً أمام رفض سعدية السفر إلى صنعاء وقد أظهر سعادته الزائفة ورغبته بمرافقتها حتى لا يكون بقاؤها سبباً في قدومه. ومع تفاعل تلك المفارقات كلف من يغادر إلى صنعاء ليرصد أغوار نفسه. وسريعاً ما جاؤوه بأخبار أنه يعاقر الخمر. ولا يشبه أحداً في حياته غير ذلك القارون الذي بلغه بأنه يسهر لياليه في مجون وخمر. وقالوا بأنه يعيش مع أشباه له في ليالي صنعاء. عندها تيقن بأن مكانته على الحصن في أمان، مفضلا أن يظل جمال فزاعة. وأن يحاول إقناع سعدية بمرافقته لزيارة ابنها.
………
يسيران وسط ليل هادئ. لم يتكلم أحد طوال الطريق عدت أقدامهم مع حصى مجرى السيل الجاف. مع الصباح وقف أمام شنهوص الذي تمدد على متكأ الآمر. حتى أنه لم ينهض لمصافحة قارون ولم يحتضنه كما كان يفعل، رافعا صوته:
- ألا تتقي الله، أهذا ما عهدناك. انتظرت وعدك أن تلحق بي فخذلتني لتهرب أنت وصاحبك إلى عدن، عذرتك. تعود فلا تزورني عذرتك. لكن أن تتحول إلى نافخ مزمار، معاقراً للخمر، مصاحبا لزانية فهذا ما لن يغفره لك الله.
صمت شنهوص ينتظر رد قارون، لكنه لم يتفوه بكلمة. ظل يتعمد ألا تلتقي عيناه بعيني شنهوص. أردف مهدداً: أريد أن أسمعك. لن أتركك تنشر الرذيلة في الوادي. ولولا ما بيننا لأرسلت من يذبحك ويذبح هذه الساقطة ذبح النعاج، وهذا أنت بين يدي، أدعوك للتوبة.
رفع ناظريه وقال بصوت هامس:
- ممّ أتوب، فأنا لست قاطع طريق ولا سافك دم، ومن تصفها بالزانية هي زوجتي. وما تسميه نفخ مزامير لا يضر أحداً في شيء.
قاطعة غاضبا:
- إياك والهزل معي. تأتيني أخبارك المشينة، أتعلم أن المزامير محرّمة، وضررها في لهو الناس عن ذكر الله وعبادته. وأن عقاب شارب الخمر الجلد، وعقاب الزاني القتل رجما. سأعتبر بأني لم أسمع ولم أرك بهذه الملابس الإفرنجية. عليك أن تغير من نفسك، وإن لم.. فسأتقرب إلى الله بكما. إياك والعودة لمجونك وسفهك.
دار لم ير في مثل روعتها. كانت دار شنهوص الجديدة ينتشر رجاله في كل مكان منها. أدهشه أن جميعهم يشبهونه في ملبسهم ووجوههم، وفي أًصواتهم. خرج من الجفنة تحفه نظراتهم، عائدا وطول طريق العودة لا يصدق بأنه أفلت منه. يستعيد صوت شنهوص المهدد. نظراته القاسية.. ذكره ذلك بعرام واتهامه له الدجال. وقد حافظ على مظهره بقصر ثوبه الأبيض الذي عرفه به.. وزاد من طول لحية حمراء. لم ير ابتسامه أو لينا في صوته.
وصل وزهرة إلى مشارف الدرم كان النهار في منتهاه حين خرج سكان الأكواخ يسألونهم. وما إن غابت الشمس حتى حضر من يدعوهم للسهر حول النار. صرخت زهرة على غير عادتها:
- لا نريد سهرا فنحن متعبان.
لكن قارون لم يقاوم هامسا لها “عيشي لحظتك فغدا موت”. ثم لحقهم وقد بدا ثملاً بالكاد تحمله قدماه. استطاع العزف بصعوبة. كان عزفه حزينا أبكى زهرة. لم يكن من أحد يدرك ما يحمله قارون من ألم غير زهرة التي حاولت أن تثنيه حين نهض محاولا مشاركتهم الرقص. تلك الليلة رقص حتى سقط. ليحمل إلى كوخه فاقد الوعي.
يتشاجر مع زهرة التي تحاول إقناعه في المشاركة بسهراتهم. يخرج منتشياً، تكرر عليه مرددة تهديدات شنهوص. تذكره بوعيده. يعدها بأن تلك الليلة آخر ليلة. لا ينتهي نهار اليوم
-………
- أتعرف المزمرة مهرة من؟
-…….
- أنت قبيلي. بل أنت شيخ يا قارون. لم أصدق ما سمعته من زيد حول عيشتك بين الأخدام. هذا لا يشرفك ولا يشرفنا. سيؤجرك زوجي أرضاً وبيتا تسكنه أنت وزهرة تترعووا مثل بقية الرعية.
- لكني لست رعويا لأحد.
- الرعية قبائل يا ولدي فلا تبخس بنفسك، وتبخس بنا معك.
كان صوت سعدية يتأرجح بين القسوة واللين، وقد أردفت: أنا على يقين من أنك تعي ما أقوله، وأنك ستغير من أسلوب معيشتك.
لا أصدق أنكم تعيشون كالبهائم؛ غناء ورقص وفجور. وأريد أن أخبرك بأن زوجي كان يريد أن يعاقبك لولا أنّي طلبت منه التمهل. فاعقل ما تصنعه من عبث لا يضر إلا نفسك.
مكثا في كوخهما لأيام. استمر قارون يغيّب نفسه بكثرة الشرب. لا يكلم زهرة. يخرج منتشياً ليشاركهم السهر كعادته حول النار، حتى جيء به إليها ذات ليلة فاقدا الوعي. قالوا بأنه رقص كثيرا حتى سقط من الإرهاق. وحين أفاق كانت إلى جواره ساهرة. خرج صوته ذابلاً:
- لا يمكن أن نعيش كما يريدون لنا. ظللت أحلم بأن أعيش حياتي كما أريد. أنا لا أعرف كيف يصفوننا بالفجور، ويتهموننا بنشر الفاحشة. ثم يصفوننا بالزناة. ألم تحدثيني بأنك حلمت بهذه الحياة. إن كنت لا تريدينها أتركيني.
لم تستطع أن تحتمل كلماته. حين شعرت بأنها تفقده. بكت ذلك اليوم كما لم تبك من قبل. وشعور بالقهر يسحقها. لا تعرف ما تصنع. احتضنته:
- لن نفترق. لن أدعك تنتحر بما تشربه.
مع صعود شمس اليوم الثاني لم تفاجأ زهرة بحضور عدد من رجال شنهوص، ودون نقاش تم قيد أيديهم إلى بعض والرحيل غرباً. وساروا بهم. لم يتفوّه قارون بكلمة تنظر إليه زهرة كمن سلبت إرادتهما. خرج سكان الأكواخ يشيعونهم بنظرات حزينة حتى اختفوا في أطراف السهول المجدبة غربا.
وما إن وصلوا بهما نهاية النهار. وقفوا بين يدي شنهوص حتى دمعت عيناه إشفاقا لحالة عرام. لم يسأله أو يتحدث إليه لكنه أمر بوضعهما في حبسين منفصلين حتى ينظر في شأنهما. ولأيام، لا يعلم أيّ منهما بحال الآخر. إلى ظهيرة يوم جمعة حين ربطا متجاورين أمام باب المسجد. ليتهادى صوت الخطيب حول قول الله في شارب الخمر. وقول الرسول الكريم في تحريم رنين المعازف. خرج المصلون حين بدأ رجلان بجلدهما.
حضرا في وقت لاحق أمام شنهوص ليخطب فيهما خطبة جعلت من حولهما يرددون “الله أكبر ولله الحمد” بين فقرة وأخرى. ثم اختتم ذلك بقوله “سأطرح عليكما أمرين لا ثالث لهما: إما والرحيل فوراً عن وادينا حيث لا نسمع عن فجوركما. أو إن بقيتما في الوادي أطبّق عليكم حد الزنا تطهيرا. وهذه الخيارات أطرحها عليك لما بيننا من معروف”.
هربا من الوادي شرقاً. متنقلين من قرية إلى أخرى. لتنضب مدخرات عدن. يعبرون أودية ومخاليف بجوع كاد يفتك بهما، حتى سمع بحفل عرس في إحدى القرى سارعا باللحاق به. وأمام منزل العريس أخرج قارون مزماره. وسريعاً ما حلّق حوله من سمع عزفه. تجرأت زهرة رافعة صوتها يعانق عزفه. تزايد الناس يتهامسون حول مزمّر يلبس بنطلونا ومغنية بيضاء ومن ذلك العرس انتشر خبرهما بين سكان تلك القرى دهشة مما يصنعان. ومن عرس إلى آخر ظلا يتنقلان ليتهامس البعض أنه ابن شيخ أمتسخ. وأنه مسخ رفيقته ويعيشون عيشة الأخدام. لم يكن قارون يهتم لما يتهامسون به. وما كان يهمه أن يظل يعزف حتى لا يموت. يهتز طربا مع أنغام مزماره. تتبعه زهرة بصوتها وقد التصقت نظراتها بنظراته في وله. ليرفع نشوة الحضور بحركات جذلى. تتبعه حين تتمايل مع نغمات مزماره في رقصة ثنائية. يسيران ذهابا وإيابا في مستطيل بين الحضور كمن غمرتهما غيبوبة أو أن صوتاً من سموات لا ترى يحركه. تفتح عينيها لإحساس اقتراب وجهه من وجهها. وكأن عينيهما على موعد.
يتبادلان النظرات في وجد. يشير عليها تتقدم مرة أخرى بخطوات موزونة يلحق بها. تحاكي اهتزاز جسمه ليرقصا معا وقد زاد من حدة نغم مزماره. يتمايلان كمن لا وجود لغيرهما. يعودان من جولة يهتزان وكأنها لن تنتهي. يهتزان كأغصان تداعبها الريح وقد فتح المدعوون أفواههم الفاغرة دهشة وتعجباً. يعودان إلى مكانهما مفسحين المجال لمن ينهضون للرقص. يتمنى بعضهم أن يراقصها. أن تجول به بطول المستطيل تحت “أتاريك” ليل الجاز ووشيشها.
لم يكن قارون يتصور كل ذلك الحب الذي تحمله زهرة. يطرب لنظراتها وحين يختليان يسألها، تنادمه مرددة: خلقت لأحبك. وكما كان خاطري يتمناك هذا أنا أعيش حباً يكاد يقتلني. لست متأكدة من أنا، لكن يقيناً يسكن حبك. فهل تشعر بيقيني؟ يحس قارون في رفقتها بالأمان. تفهم لغة نظراته، صوته، متى يحتل روحه الحزن، ومتى تنضح عيونه بالسعادة.
ظل الغموض يغلف قارون وزهرة لدى سكان تلك القرى التي يمرون بها. وظلا مثار جدل وهمس، وقد أطلقوا عليه “المزمر الشيخ” بدوره لم يكن يهمه ما يتناقلونه مادام بعيدا عن أيادي شنهوص، وأمسى يشترط على من يدعوه لإحياء فرحه أن تكون له غرفة تخصه وزهرة، لا يشاركهما فيها أحد. يغلقان بابها يتعريان يسكب العرق فوق جسمها. يرتشف من كأس فخذيها. يقضيان ما تبقى من الليل في أحضان بعضهما عاريين. يغنّيان ما طاب لهما من الليل بغناء فاحش. وينامان حتى منتصف النهار. ومع بداية الليل يرتشف قارون القليل سراً لينتشي محلقا بصوت زهرة. أيام طويلة قضياها منتقلين من وادٍ إلى آخر. لتفاجئه زهرة ذات ليلة بدموعها:
- ألم تشتق إلى كوخنا؟
- بلى، واشتقت لمراقصة النار.
- فلماذا لا نعود؟
- أنت من تقولين هذا!
- نمكث أياماً في كوخنا دون أن يشعر بنا أحد ثم نهرب.
- لن تستطيعي منعي من مشاركتهم أماسي النار.
- بلى، وإذا ما عدنا لن تعزف ولن أغني، ولن نظهر على أحد.
- وكيف تحلو الحياة دون غناء ورقص.
- أعاهدك بألا نثير انتباه أحد.
عادت عيونها للدموع:
- دون دموع. قولي نسير فنسير لا يهمني إلا رضاك.
لوحة: شادي أبوسعدة
- بدأت أقلق لمبالاتك.
- أي مبالاة تعنين؟
- يوما بعد يوم يذبل جسمك. وأرى معشوقتك تسقيك نحولاً.
- أتغارين من الكأس، لا أرى ما تقولين.
- ولا تأكل كما يجب.
- إذن لن نعود، فشنهوص ينتظرني بالعقاب.
- بل سنعود. ونلتزم ألا تعزف ولا تشرب.
- لن أعود إلى الوادي، دعينا هنا نعيش كما نريد.
- سنعود لأيام ثم نفرّ.
عادت به إلى واديهم بعد أيام طويلة من التنقل. تسللا ليلا إلى كوخهما. كل شيء كما تركاه. لا تريد لفت انتباه أحد. لكن صباح اليوم التالي عرف الجميع. وانطلقوا طوال النهار يجمعون حطباً. وما إن غابت الشمس حتى تعالت ألسنة النيران عالياً. حضر جمع ليصطحبوه إلى سمرهم. صمتت زهرة حين خرج وسط صخبهم وهي تتبعه. كانت الساحة في دائرة كبيرة حول النار. صرخ الحضور لمرآه. حاول قارون مقاومة رغبة العزف. لكن أصابعه تسللت ساحبة المزمار.
نفخ ليعلو لحن شجي لم يُسمع مثيلة من قبل. التفتت زهرة بنظرات عاتبة وقد شعرت بأن تلك النغمات تنادي صوتها. نظرت عينا قارون إليها مشجعة بإيماءة ترجمتها زهرة “عيشي لحظتِك” خرج صوتها مجاريا لنغمات مزماره. غنت بعيون دامعة. يرتفع صوتا ويطول. أسعدها إحساسها بهبوط أرواح على المكان، حتى أن العمياء كانت تغني معها. ورأت جدها يعزف وقارون تلك الليلة. رقص قارون كما لم يرقص في ماضي أيامه.
في الصباح صحت زهرة على رجال شنهوص. لا تدري ما عليها فعله. اقتحموا الكوخ ساحبين قارون يتصارخون: ألم يحذرك الشيخ شنهوص من العودة إلى ارتكاب الفواحش والتعدي على حدود الله. لم يجد ما يرد به عليهم. أردف أحدهم: لقد حق عليك تنفيذ الحد وقد كلفنا الشيخ بذلك. وسريعا ما ربط قارون وإلى جواره زهرة. وجمع رجال شنهوص من لم يخرج من سكان الأكواخ وأمروهم برجمهم. في اللحظة التي بدأ رجال الشيخ برجمهم وقف الأخدام مذهولين لما يُطلب منهم. انسحب بعضهم والبعض وقف رافضاً مشاركتهم. بينما قارون كان يحاول حماية زهرة ليتلقى الحجارة على رأسه وظهره. ليبدأ دمه بالنزيف. استمر رجال شنهوص برجمه حتى ملوا ليتبرع أحدهم برصاصه ظنها اخترقتهما معاً. مضوا بعدها عائدين من حيث أتوا.
تجمع الأخدام بعد أن اختفى القتلة. فكّوا ما تبقى من أربطة، ليجدوا زهرة مازالت تتنفس بصعوبة. بينما قارون فارق الحياة وقد اخترقت الرصاصة أعلى صدره من الجانب الأيمن. ولم تصَب زهرة عدى أحجار جعلت رأسها يسيل دما. استعادت زهرة وعيها ولم تعلم أن روح قارون قد صعدت إلاّ صباح اليوم التالي. ليعاونها على دفنه في نفس الكوخ في جوار جدتها. ودُفن مزماره معه.
بعد أيام من البكاء والنواح ودعت الدرم في طريقها نحو الحصن وحيدة مكلومة.
مارد الثورة
لا يعرف الوادي أن رأى عربة من قبل، فلا مسالك غير ما تسلكه الأقدام والدواب. لكنه شهد مع ظهيرة يوم مشمس هديرا ممزوجا بصرير يصم الآذان آت من الجبال الشرقية. خرج سكان يتساءلون وقد تعالى الصرير وما لبث أن ظهر مدفع طويل لدبابة ضخمة من بين الجبال. كانت تدك ما يعترضها من شجر وحجر هابطة نحو أعماق الوادي. مخلفة غباراً وأدخنة كثيفة.. يتساءل الجميع من أين قدمت، وإلى أين تتجه؟ يتمنون معرفة غايتها. تجمعوا يتابعون هبوطها بحذر ورهبة حتى مجرى السيل.
تكاثروا يسيرون على مبعدة مبهورين وقد سمعوا بها ولم يروها من قبل.. توقفت بعض الوقت جوار الطولقة الكبيرة تحرك مدفعها الطويل يمينا وشمالا. ثم واصلت هديرها صاعدة مرتفع الحصن حتى ساحته الأمامية لتدك أعمدة التعذيب المنصوبة منذ سنوات. لم يتوقف مدفعها الطويل عن الدوران حتى استقر باتجاه مبنى الحبس الخارجي لتدوّي قذيفة رددت صداها جبال الوادي. توارى من كانوا يتابعون مارد الثورة يختبئون في المقبرة والمسجد وخلف بقايا الضريح. وأمسى الحبس أثراً بعد عين. يتابعون تحركات تلك الدبابة من مخابئهم. وقد استمر مدفعها الطويل يدور ليدوي من جديد بطلقات اتجهت نحو الوادي غرباً.
عرف الجميع فيما بعد بأنها هدمت دار شنهوص في الجفنة. ثم دوّت قذائف أخرى في اتجاهات مختلفة. قيل إنها أصابت دور المشايخ الآخرين. توقف المدفع بعد ذلك عن الدوران، وصمت صرير الجنازير، وتوقف الهدير ليصمت كل شيء إلا من حركة الناس وقد بدأوا يخرجون من مخابئهم. ظل التساؤل يستثير الجميع لمعرفة من يتحكم بتلك الآلة. بعد سكون وترقب مريب ارتفع صرير حاد ليتحرك غطاء أعلى سطحها ما لبث أن ظهر رأس أحدهم تغطيه قبعة داكنة ونظارة سوداء.
ثم توالى خروج جسده حتى وقف بقامته الفارهة وببزته العسكرية على سطحها. ثم فُتح باب في مؤخرة الدبابة ليخرج مجموعة أفراد بملابس عسكرية صعدوا ليقفوا برشاشاتهم “الكلاشن” خلفه. تشجع الناس وبدأوا بالخروج في الوقت الذي رفع من يقف على ظهر الدبابة كفيه ملوحاً في وقفه مهيبة، ينظر يمينا وشمالاً وقد اتسع فمه بابتسامة فخمة. ثم أزال نظارة كانت تحجب نصف وجهه لتظهر ملامح وسيمة. ارتفع صوت أحدهم: إنه الشيخ جمال. تدفق الناس بعدها من مخابئهم ليملأوا الساحة يرتجلون رقصاتهم. رفع جمال صوته خطيباً: أيها الأخوة لقد أتينا لنثور على الطغاة والكهنة، أتينا لإنقاذكم، وتطهير وادينا من دنس المستغلين وبطشهم.
وأدعوكم إلى التوجه لإلقاء القبض على الكهنوت زيد الفاطمي. وعلى الدجال شنهوص وبقية من استباحوا وادينا وقسّموه. أيها الأخوة إنها ثورة من أجلكم. لن نترك بعد اليوم المتسلطين يستبيحون كرامة المواطن. ازداد تدافع الناس حول الدبابة يمدون أياديهم باتجاهه مبتهجين، وقد وزع ابتسامته الناعمة يمينا وشمالاً، ملوحا، ثم يواصل خطبته: أيها الشعب. لقد أتينا لإنقاذكم من المتسلطين والمستبدين ولإعادة وحدة وادينا. أتينا لنحرركم من الدجل باسم الدين ومن السلالية والكهنوت. فلا مذهبية ولا سلالية بعد اليوم، كلنا أخوة. وأدعوا الجميع للتعاون في القبض على الخونة ومن يواليهم.
في تلك اللحظات كان زيد يسمع ما يقال في الساحة وقد تملكه رعب ما يردده القادم الجديد، مستغيثا بسعدية التي رفعت صوتها: عليك اليوم أن تجني ثمار ألاعيبك! أصابه الذعر مدركاً بأنه خُدع بها. مدركاً أن لها حسابات لم يتصوّرها من قبل. لكنه استمرّ محاولاً استثارة شفقتها، لترفض بحدة. في النهاية طرح عليها أن تساعده على الرحيل. مردداً عهد الله أن يغادر ولا يعود قط. راقها ما سمعت منه، شارطة عليه أن يطلقها. منحته من ملابس خادماتها. ليخرج لحظات خروجها لاستقبال ابنها.
لم يكمل جمال خطبته حين رأى أمه وخلفها جمهرة من جواريها تخرج من بوابة الحصن. وقد أفسح لها الجميع الطريق. سارت وسط الجموع، بينما هبط جمال راكعا يقبل كفيها. لترفع وجهه ناظرة إلى عينيه ثم احتضنته دامعة، في الوقت الذي انسل زيد متنكراً بأردية خادمة من بين الحشود عبر المنحدرات. وقد استمرت الحشود تردد هتافات مدوية. وأثناء دخوله الحصن لفتت انتباهه زهرة وقد صدح صوتها بأغنية حزينة وشجية تعلقت أنظاره إليه طوال خطوات الدخول.
لم تمض أيام حتى كان عسكر جمال يجوبون الوادي بحثاً عن الخونة أعداء الثورة. لتنصب لبعضهم المشانق في ساحة الحصن. والبعض أودعوا في غرف الحصن. ومع تزايدهم لم يعد ما يستوعبهم. فوجه بسرعة ببناء سجن كبير لاستيعابهم. وتسخيرهم لإعادة بناء ضريح الجد الأكبر.